الفصل الثالث
ولم يزَلْ بسمارك ذا صلة بخليفة لاسَّال بعد موت لاسَّال، ولم ينسَ بسمارك تمامًا أفكار لاسَّال حول الدولة الاشتراكية. والآن بعد الكومُون لا يُريد بسمارك قولًا عن الاشتراكية، وبسمارك يُبصر أنه في غِنًى عن معارضة الأحرار، فيُحاول حمايةَ المُلك الخاص بقوانينَ جديدةٍ معاقبًا بالسجن كلَّ مَن يُلقي خطبة اشتراكية، ويرفض الرَّيشتاغ اقتراحاتِه فينذره بقوله: «إن الاشتراكية الديمقراطية تقدَّمت كثيرًا … وستكون الطبقةُ الوسطى متعطشةً إلى التدابير الجزئية بعد بضع سنين.»
وفي الانتخابات القادمة ينال الحزب الديمقراطيُّ الاشتراكيٌّ الجديد اثنَي عشر مقعدًا في الرَّيشتاغ، فيدعو بسمارك إلى معالجة ذلك بعصَا الإصلاح التي فرضها الربُّ على النوع البشري، ولم يُدرك بسمارك سيرَ الفكر الحديث فيتكلم عن «فساد رأي أولئك الذين يعتقدون طيرانَ الحمام المشويِّ إلى أفواههم»، ولم يجد بسمارك غير مداواة هذا «الجنون الإجراميِّ بالهواء والشمس»، ولم يُوَفق بسمارك لفَرْض تدابيرَ زاجرةٍ للاشتراكيين؛ فقد خشيَ الرَّيشتاغ وضْعَ قوانين استثنائية ضدَّ فريق من أبناء الوطن.
واليوم يتوترُ الوضعُ بعيارٍ ناريٍّ.
ففي شهر مايو سنة ١٨٧٨ أَطلق رجل عيارًا ناريًّا على الإمبراطور الذي كان في الثمانين من سِنِيه، وذلك حينما كان يتنزه في العربة، والجاني هو طالبٌ رثُّ الثياب فاسدُ السيرة كان قد طُرِدَ من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فلما انتهى الخبر إلى بسمارك خبَط المائدة وصرخ قائلًا: «والآن أضحَوا قبضتنا!»
– «أهُمُ الاشتراكيون يا صاحب الفخامة؟»
– «كلَّا! هم الأحرار!»
ويُدبِّر بسمارك الأمر في أقربَ من لمْح البصر، واليوم لا بُدَّ من أن تؤثِّر محاولة قتل وِلْهِلْم في الأحرار فيوافقوا على سَنِّ قانونٍ استثنائيٍّ، فبهذه الوسيلة يمكن الخلاصُ مع الوقت من الأحرار الذين غدَوْا غيرَ ضروريين بعد وضْع «مكافحة الظلام» على الرفِّ، وفي ذلك اليوم يطلبُ بسمارك من وزير العدل كتابةَ مشروعِ القانون الجديد، وفي اليوم التالي يُرسل هذا المشروعُ إلى الوزراء الآخرين وبعد عشرة أيام يُقدَّم إلى الرَّيشتاغ ذلك التدبيرُ المرغوبُ فيه كثيرًا والذي رُقِّعَ على جناح السرعة فاشتمل على أغاليطَ فنيةٍ كثيرة، والذريعةُ لعرض ذلك المشروع على الرَّيشتاغ هي: «إننا لا نستطيع قهْرَ الاشتراكية الديمقراطية إلا بمجاوزة الحواجز التي أقامها الدستور في القوانين الأساسية مستندًا إلى مبادئَ نظريةٍ في حماية الأفراد والأحزاب».
ويمضي عشرون يومًا على محاولة قتل الإمبراطور، فيرفض الرَّيشتاغ ذلك المشروع بالإجماع مع استثناء المحافظين من أعضائه، ويُنبئ بِنِّيغْسِن بأن قبول ذلك المشروع يعني: إيجادَ مجال للدسائس الخفيَّة أخطرَ من المكايد العلنية، ويعني: تنغيصًا كبيرًا لعيش الطبقات التي تكونُ هدفًا له، «فيقولُ مَن يراعي القانون: إذا التجأتْ ذواتُ الأملاك من الطبقات إلى مثل تلك الوسائل، وإذا صار مئاتُ الأُلُوف من أبناء الوطن خارجَ حماية القوانين، فلماذا نحترم هذه القوانين؟» ويقول بِنِّيغْسِن مداومًا: إن مثل ذلك القانون يؤدي إلى اضطرابٍ واسعِ المدى، ويسير ريشتر على ذلك المنهاج فيُصرِّح بأن ذلك القانونَ الاستثنائيَّ يُنعم بتاج الشهادة على أناس حقيرين.
– «وصلتْ برقياتٌ مهمة.»
– «هل هي من الأهمية بحيث أطَّلع عليها في سواء الحقل؟»
– «هي بالغةُ الأهمية مع الأسف، فقد أُطلِق الرصاص على الإمبراطور فأُصيب بعيارٍ ناريٍّ في هذه المرة فجُرِح جَرْحًا بالغًا.»
– «علينا أن نَحُلَّ الرَّيشتاغ في هذه الحال.»
وهنالك يَقطع الحديقةَ بسرعة متوجهًا إلى البيت، ويُفصِّل تِيدْمَن النبأَ في غضون ذلك، ويدخل المنزل فيأمر بإعداد ما يلزم للعودة إلى برلين.
ولكن بسمارك مكافحٌ حقودٌ قبل كلِّ شيء، ولكن بسمارك يمقُت في الليل ويُقدِّر في النهار، ولكن بسمارك لا يَغفلُ عن عدوِّه أبدًا، ولكن بسمارك يرقُب عدوًّا جديدًا على الدوام، ماذا؟ يتذرَّع الرَّيشتاغ الذي صنَعه بسمارك بحقِّ الرفض فيقاوم خططه، أترى ريشتر وفِينْدهُورْست ولاسْكِر وبِنِّيغْسِن ومَن إليهم من القوة ما يحولون به دون مكافحته مُخِلِّي النظام ونَهَّابي الأموال؟ أفلم يَخطف أولئك «المهاذير» السلاحَ من يده؟ هنالك قذيفةٌ منقذة، ولا يُهمُّ مصدرها، وبسمارك لا يعرف حتى الآن طبقة الجاني المجهول ولا حِزْبه، وبسمارك لا يعرف حتى الآن خطورة الجَرْح ولا إمكانَ شفاء الرجل الجريح البالغ من العمر ثمانين سنة، وبسمارك لا يعرف غيرَ أمرٍ واحد، وهو أن جَرْح الإمبراطور بيدِ أثيمٍ له من القيامة ما لنصرٍ يُنال في ميدان القتال، وليَخُضْ غِمار معركة انتخابية إذن! والآن يُمكنُنا أن نُسقِطَ جميع أعدائنا في الداخل! وسنحلُّ الرَّيشتاغ!
حُلَّ الرَّيشتاغ بعد عشرة أيام من محاولة قتل العاهل، وينال بسمارك أكثريةً بفضل محاولة القتل الثانية هذه.
وليس القطب السياسيٌّ بسماركُ بالذي يُبالي بما كان من جنون الجاني، ومن عدم انتسابه إلى أيِّ حزبٍ سياسيٍّ كان، ومن انتحاره وقوله قبل الانتحار إنه لم يُرد أن يفارق الدنيا قبل أن يرافقه رجلٌ عظيم، فبسمارك يملأُ الصحف باعترافات نُوبِيلِينْغ وبحديث آثام نُوبِيلِينْغ! وبسمارك يُبلِّغ إلى جميع ألمانية برقيًّا وفي اليوم بعد اليوم قصَّة المؤامرات واكتشافها! وبسمارك يضَع برلين تحت الحُكم العسكريِّ! وذلك لأن «أقومَ تدبيرٍ هو تشجيعُ التصادم الذي لا مفرَّ منه، ثمَّ قمعُ الفتنة بالقوة، فإذا ما دَبَّ الذعر في الجمهور وافق الرَّيشتاغ على قوانينَ قاسيةٍ».

وهكذا، يعود الوزير المستبدُّ إلى أوائل عهده بعد نصف جيل، وعلى الدم والحديد أن يكون لهما من الفوز في الداخل مثل ما تَمَّ لهما في الخارج، ويعارض وليُّ العهد هذه التدابير، ويتسلم وليُّ العهد شئون الدولة في أثناء مرض أبيه، ولا يريد أن يبدأ عهده بطوفانٍ من الدم، ويتمنى جميعُ الأحرار موتَ الإمبراطور وجلوسَ ابنه على العرش، بيدَ أن فردريك لم يجرؤ على الجهر بالكلام ضدَّ القانون الاستثنائيِّ ما اقتُرح هذا القانون لحماية حياة أبيه في الظاهر، وتزيد مشاعرُ وليِّ العهد إبهامًا مقدارًا فمقدارًا.
ثمَّ يَحدُث غير المنتظر، فقد شُفِيَ الشيخ، والخُوذة هي الشيءُ الوحيدُ الذي أنقذه، والخُوذة هي التي كان مُعتَمِرًا بها في ذلك النهار على خلاف عادته، والآن وقد سبَق أن نُصر في ثلاث حروب على الرغم منه، يُعرِّض نفسَه للخطر مع مشيبه، وهذا أمرٌ يمكن الشعبَ أن يُدركه، ويصير العاهلُ الذي كان الشعب يمقته في الماضي محبوبًا عنده إلى الغاية، وتعود إليه عافيتُه فيَنهض من فراشه ويقول مازحًا إن نُوبِيلِينْغ داواه بأحسنَ مما اتفق للأطباء ما دام محتاجًا إلى الفَصْد، وتبتهج ألمانية بأسْرِها، ويجدُ بسمارك مولاه أشدَّ مرحًا وأكثرَ حياةً مما كان عليه في أيِّ وقت مضى، ويشعر بسمارك والألمان ووليُّ العهد وزوجُهُ وأهل أُوروبة وكلُّ الناس بأن وِلْهِلْم سيتمتع بعمرٍ طويل لم يتفق لأيِّ عاهل منذ قرون، وهكذا تؤتي القذيفةُ ثمرَها، ويُفيد بسمارك من روح الوقت فيغامر بأخطر تدابيره.
وفي الانتخابات التي عقَبَت محاولةَ قتل الملك، وهي الانتخاباتُ التي ما انفكَّ بسمارك يُعطي في أثنائها كلمة السرِّ، ضَعُفتْ قُوَى اليسار كثيرًا، على حين عظُمَت قُوى اليمين إلى مدًى بعيد، والآن يستطيع المُعلِّم أن يحمل الرَّيشتاغ على إجازة قانونه الاستثنائي وأن يغتنم الفرصةَ فيجعل نصوصه أشدَّ صرامةً مما كانت عليه، ويُرعِد الأحرارُ ويتوعدهم مرةً أخرى كما في السابق، ويَقبَل العونَ من فِينْدهُورْست الذي أنبأ باسمًا بإفلاس سياسة الكنيسة.
ويُغيِّر جبهتَه، ويبدو قادرًا على الانتفاع بالوسَط وبالأحرار الوطنيين مناوبةً وصولًا إلى الأكثرية، ويَنصُّ هذا القانون الجديد الذي سُنَّ لسنتَين في بَدْءِ الأمر فجُدِّد لأربع سنوات أخرى فيما بعد على حقِّ السلطات في القضاء على كلِّ نشاط يهدف إلى «تقويض النظام العام»، وأن يُجازَى كلُّ مَن يحاول ذلك، ويمكن طردُ أرباب المطابع وباعة الكتب وأصحاب الحانات أو اعتقالُهم، ويمكنُ إبعادُ كلِّ من ينشُر مذهبًا اشتراكيًّا، ويُمنَع الاشتراكيون من حرية الصحافة وحرية الاجتماع، ويستطيع كلُّ والٍ أن يُعلن الحكم العسكري في ولايته.
وإليك جوابَ بيبل: «إن ما نراه من اتخاذ عملِ مجنون قبل ختام التحقيق فرصةً لإنزال ضربة رجعية معدَّة منذ زمن طويل، وإن ما نراه من الرغبة في إلقاء المسئولية الأدبية، على حزب يَمقُت ضروب الاغتيال ويُدرِك التطور الاقتصاديَّ والسياسيَّ مستقلًّا عن إرادة الأفراد؛ أمورٌ تَدينُ نفسَها بنفسِها، وليس من مقاصدنا إلغاءُ التملك، وإنما نهدف إلى توزيعٍ عادلٍ للمُلك نفعًا للجميع.» ثمَّ يتكلم مفصلًا عن صِلات لاسَّال ببسمارك على مَسْمع من ألمانية الذاهلة.
والآن يبدأُ دور الحقد والفساد، والآن يَبدأُ عهدُ التجسُّس والقسوة الهوجاء، والآن يُبدأ بالتنقيب والتعقيب والاعتقال والإبعاد في البلاد، وتمضي أربعةُ أسابيعَ فلا يتقيَّد بسمارك بوعده الصريح الذي قَطَعَه للأحرار الوطنيين فقال لهم فيه إنه لن يلجأ إلى الحُكم العسكريِّ وإلى الطرد إلا «عند أقصى الضرورة»، فيُعلِن هذا الحكم في برلين وأطرافها ويَطرُد منها سبعةً وستين زعيمًا اشتراكيًّا، وتجري الانتخابات في مدينة همبُرغ الحرة على غير ما يشتهي بسمارك فيُعلِن الحكمَ العسكريَّ فيها أيضًا، وقبل ذلك تُفرَض عقوبة السجن على ألف وخمسمائة شخصٍ فيبلُغ مجموع ذلك ألفَ سنة، وفي بضعةِ أسابيع، وفي أرجاء الرَّيخ، تُلغَى مائتا جمعية وتُمنَع ٢٥٠ رسالة أو نشرة دورية، وفي ستة أشهر يصير هذا العدد ستَّمائة على حين يُقضَى على وسائل عيش الألوف من الناس.