الفصل الخامس
يَبلُغ بسمارك الستين من سنيه، فيُبصر — بمرارة ممزوجة بسرور — ثباتَ ما كان عليه من كُرْه للناس ابنًا للعشرين من عمره، ويقول للوسيوس: «إذا ما كنت فوق السرير ولم يخالطْ عينيَّ نعاسٌ ذكرتُ في الغالب ما اقتُرف نحوي من ذنوب قبل ثلاثين سنة فلم تُكفَّر، فأتميَّز من الغيظ وأحلُم — شبهَ نائمٍ — بمقابلة المثل بالمثل، ومن ذلك ما كان من معاملتنا في معهد بلامان حيث كانوا يُنبِّهوننا بوخْز السيف.» ومن يَثِب وهو نصف نائم فيُمسك خِناقَ معلِّمه بعد خمسين سنة يتعهدْ عِداءَه الطبيعي حتى يشتدَّ فيتعطش إلى الانتقام، وهو كما لاحظه بُنسن «يكون أشدَّ من الطغاة حقدًا وحُبًّا للانتقام، ويَظهر صغيرًا في الأمور الصغيرة».
والآن يُكدِّس التُّهَم ضدَّ جميعِ مَن هم على خلاف رأيِه فيُؤذونه، ويبلغ السبعين فيَتَّهم كلَّ أثيمٍ، ولديه نماذجُ مطبوعةٌ لتُملأ في الأحوال المستعجلة بتُهَم القذف، وهو يدعو هذا إرهابًا، ومن النادر أن يجرؤَ أحدٌ على مقاومته، حتى إن مُومْسِن المتهم بالقذف كان من الضعف ما أنكر معه الكلماتِ التي تفوَّه بها في خطبة انتخابية، فقال بسماركُ شامتًا: «أجلْ، قد يكون الاتهامُ مُختلًّا، ولكن بما أن مُومْسِن قد انحطَّ إلى درجة الإنكار؛ فإننا نكون قد فُزنا في اللعب.»
ومما حدث أن نشَر صاحب جريدة «كلادِّيرادَاتْش» الذي كان بسمارك مغرمًا بمداعبته حول مائدة الأسرة ذمًّا بريئًا ضدَّه، فلم يلبث بسمارك أن اتَّهم هذا الصحافيَّ وسَجَنه، ويُحادث بسمارك قطبًا سياسيًّا روسيًّا، فيأتيه بالاعتراف الآتي المثير للحَير: «إن الغضب يستولي عليَّ في بعض الأحيان، وأسوأُ من ذلك أن يُفقدني صوابي».
ويرى بسمارك أن كلَّ رأي مخالف لا يَصدر عن غير سببَين، لا يَصدُر إلا عن خُبث أو رغبة في الارتقاء، ولا مراءَ في أن البلاطاتِ والسفارات ووزارات الدولة صارتْ مراكزَ خطرةً للدسائس، فلما كتب بسمارك مذكراتِه في شَيبته جعل «الدسائس» أطولَ فصولها، ويظلُّ أمرُ أرنيم أشهرَها.
وكيف لا يَعطِف المرء على رفيق صبا بسمارك: أرنيم؟ فهذا الدِّبْلُمِيُّ الذكيُّ كان مختالًا متصنعًا متخبِّطًا متخوِّفًا متزعزعًا، وكان أسدًا في رِداه الاستقبال وعازفًا ممتازًا على البِيَان، وكان طَموحًا منذ زواجه المُغني، وكان مشخِّصًا متظاهرًا بعدم الاكتراث، وكان وَلُوعًا بذِكْر مكيافيلِّي، وكان ثرثارًا في غير لغةٍ، وتدور الخمر في رأسه ذات ليلةٍ فيُسِرُّ إلى بسمارك بقوله: «أَعُدُّ كلَّ شخص يقف في سبيل تقدُّمي عدوًّا شخصيًّا لي فأعامله بهذه الروح، ولكنني لا أُبدي له ذلك ما دام رئيسًا لي!» وبسمارك قال عن أرنيم: «إنه ذو رأس جميل، ولكن يعوزه خَزٌّ في الخلف» وكان هذا قبل تخاصُمِهما.
وبسمارك كان يَعدُّ مرءوسَه أرنيم من ذوي القرائح، فأرسلَه سفيرًا إلى كورية الرومانية ثمَّ سفيرًا إلى باريس، ويغدو أرنيم كونتًا في غضون ذلك، ويتقدم بأسرعَ من تقدُّم غيره، ولا يخامره ريبٌ في أنه سيكون مستشارًا فيَنشد الحُظوة لدى الإمبراطورة أُوغُوستا، وتَعدُّه أُوغُوستا هذه صديقًا للكاثوليك والفرنسيين وتمتدحه متكلِّمًا بارعًا، ويودُّ أن يكون كما كان بسمارك وإن لم يُرِد أن يُميِّز نفسه في حضرة أوغُوستا.
ويرغب بسمارك في تأييد النظام الجمهوري في فرنسة ومنْع فرنسة من أن تتقوى برجوعها إلى نظام ملكيٍّ، وفي باريس يعمل أرنيم إذن ضدَّ تيار وغيره من الجمهوريين، ومن باريس يُرسل أرنيم كتبًا خاصة إلى الإمبراطور وِلْهِلْم للتأثير فيه، ويُحوِّل الإمبراطور البسيط النزيه هذه الكتبَ إلى المستشار كما كان يُحوِّل رسائلَ غولتز إلى وزيره بسمارك في غابر الأيام.
يَذكر أرنيم أن بسمارك بدأ الكلام ﺑ «صوت جارح مع سماحٍ ولهجةِ مستعلٍ مع ارتياح»، ويسأل أرنيم عن السبب في اضطهاد المستشار إياه فيغمره بسمارك بسيل من اللوم وهو يقول: «آذيتَ صحتي منذ ثمانية أشهر وسلبْتَني كلَّ راحة! أنت تأتمر مع الملكة! لن يهدأ لك بالٌ إلا إذا جلستَ على هذا الكرسيِّ، وأنت حينئذٍ تُدرِك مثلي أن ذلك متاعُ الغرور!»
ويندُر أن نَسبُر غَور فؤاد بسمارك في زمن بأوضحَ من ذلك، ففي تلك الساعة انتزعت عزيمتُه اعترافًا عظيمًا منه، فهو قد أقرَّ بتفهِ ذلك الكرسيِّ الذي يدبِّر الأمور من فوقه فيطمع أرنيم أن يقعد عليه.
وأرنيم بدلًا من أن يقف مواثبًا فتكونَ الاستقالة جوابه، يقول لبسمارك بصوت رقيق: «ألم يبقَ عند سموِّكم أيُّ ثقة بي؟» فهنالك يُلقي عليه بسمارك «نظرةً حادَّة»، ويقول له: «كلَّا!»
وهنالك يَمدُّ أرنيم إليه يدَه وهو يقول: «ألا تتفضَّل بمصافحتي مودِّعًا؟»
وبسمارك بعد تلك المقابلة سهُل عليه أن يضع أمام الإمبراطور وِلْهِلْم تخييره المعهود: «إما هو وإما أنا»، ويكتب بسمارك ذلك مهدِّدًا قائلًا إنه لا يريد أن ينازع «سفيرًا سيِّئَ النية» ثقةَ مولاه، وجاء في كتابه هذا: «أرى مرتابًا — ولست وحيدًا في هذا الارتياب — أنَّ هذا الموظف الكبير يَسير في أعماله الرسمية وراء نفعه الشخصيِّ، أجل لا يسهُل إثبات هذا الادعاء، ولكنَّ ما يُخالطني من اشتباهٍ فيه بلَغ من القوة ما يَشقُّ عليَّ معه أن أظلَّ مسئولًا عن الوجه الذي يُنفِّذ به ما يُوجَّه إليه من تعليمات.»
ويُزعم أن أرنيم أجَّلَ بعض المفاوضات حول تأدية فرنسة للغرامة الحربية؛ قاصدًا الاستفادة من بعض المضاربات التي ارتبط فيها مع البارون هيرش، وهنالك شَبَهٌ مضحكٌ بين التُّهَم التي يُوجِّهها كلٌّ من بسمارك وأرنيم إلى الآخر، كلٌّ من بسمارك وأرنيم اللذَين هما من أشراف بُومِيرانْيَة واللذَين هما من خَدَمة الإمبراطورية فيُسيِّرهما في الأعمال المالية يهوديٌّ رُفِع إلى مرتبة الأشراف، ويَتَّهم كلُّ واحد منهما الآخرَ بالسعي وراء مصلحتِه الخاصة على حساب الدولة، وأرنيم — وإن لم يَظهر اسمُه — هو من زمرة الأشراف الذين يحملون على بسمارك، ويظلُّ ما يتقاذفان بلا دليل، ويعجزان كلاهما عن إقامة الدليل، ويتماثلان كلاهما في القول، وأقوى الرجلين وحده هو الذي يصيب المحزَّ.
وأقصى ما يوافق الإمبراطورُ وِلْهِلْم عليه هو إحالةُ سفيره أرنيم إلى نصف معاشه، ولا يروق هذا بسمارك الذي يخشى حَوْكَ أرنيم للدسائس طليقًا ببرلين أكثر مما يخشاه سفيرًا بباريس، ويبعد بسمارك خصْمه أرنيم سفيرًا إلى الآستانة لذلك، وهنالك يقترف أرنيم حماقةً؛ فهو بدلًا من أن يستقيل فيُصبح حرًّا في الانضمام إلى الحزب في المجلس الأعلى الذي يناصب بسمارك العِداء؛ ينحني أمام هذا الرئيس الخصم الذي ما انفكَّ يُوبِّخه في الأشهُر القليلة الأخيرة ضمن أشدِّ الرسائل إنذارًا، ومن ذلك: «أرى مطالبتَكم بأن تُبدوا كبيرَ عنايةٍ بتعليماتي وقليلَ ميلٍ إلى اتباعِ آرائكم السياسية الخاصة، وذلك بأكثر مما ظهر من تقاريركم وتصرفكم الرسمي حتى الآن.»
ويَنشر أرنيم بعضَ الوثائق المطبوعة المغفلة التي تهدف إلى بيانِ تبصُّره وإعلان غفلة بسمارك، وبهذا يبدو أرنيم من ضيق الأفُق ما لا يُبصر معه إمكانَ افتضاح ذلك، والآن يصير أرنيم قبضةَ بسمارك، والآن لا تستطيع الملكة أن تحميَ أرنيم، والآن يقدر بسمارك على عزْله؛ لإخلاله بالواجب الرسميِّ، وكان الكفاحُ يقَعُ بين خصمَين حتى اليوم، ثمَّ سهَّل أضعفُهما بخُرْقه وسائلَ الفوز لأقواهما.
وهنالك تبدأ قسوةُ بسمارك التي شابهتْ في «أمر أرنيم» ما جاء في الأساطير، فجعلتْ نصفَ الأمَّة ضدَّ الظافر، وما كان معاصرو بسمارك ولا الأعقابُ من بعده لِيَغفروا له رغبته في القضاء على خصمه المقهور، وبيانُ الأمر هو أن خَلَف أرنيم بباريس أخبر بفُقدان بعض الوثائق، فرفض أرنيم تسليمَها مصرِّحًا بأنها من أوراقِه الخاصة، وتَخبو نارُ أرنيم ولا يَعدو حدَّ الموظف المتقاعد بعد أن كان يطمع في نصْبِه مستشارًا.
ويَنشُد أرنيمُ السندَ بين حُماته الأماجد ويعتمد على شرَف مَحْتده، ويتحدى أرنيمُ خصمَه القدير بسمارك، فيقف بسماركُ الأثيمَ أرنيمَ في الحال ضمن دائرة حقوقه، ويحاكم أرنيمُ بتهمة سرقةِ أوراقٍ رسمية فيُحكَم عليه بالسجن تسعةَ أشهُر، ويَفرُّ إلى سويسرة، والذي حفز بسمارك إلى محاكمة أرنيم مرةً واحدة هو ميلُه وميلُ الملك إلى عدم دوام الاستقصاء وما يؤدي إليه من الإفشاء عدَّة سنوات، وبسماركُ في الوقت نفسه ينصح أرنيم بطلب العفو.
ويتميَّز أرنيم من الغيظ، ويَنشر في منفاه رسائلَ لا كُوعَ لها ولا بُوع، ويؤدي هذا إلى اتهام الآثم بالخيانة وبسبِّ الإمبراطور وبقذف بسمارك ويُحاكَم، فيُحكم عليه غيابيًّا بالسجن مع الأشغال الشاقة خمس سنوات وبسقوط حقوقه المدنية مع التصريح بأنه سلك سلوكًا شائنًا، وتمضي أربعةُ أعوام، وينال أرنيم حقَّ دخول ألمانية طليقًا والمثول أمام محكمة الإمبراطورية ليُبرِّئ نفسه، ولكنه يموت في نيس قبل بلوغه ألمانية «مهانًا» شريدًا.
وفي تلك المحاكمة يظهر للمرة الأولى والمرة الأخيرة رجلٌ يقتضي عملُه الكتمان، واسم هذا الرجل هو البارون هُولْشتَاين الذي تعرَّف بسمارك به في سان بُطرسبرغ والذي عيَّنه المستشار بسمارك عينًا على خصمه أرنيم في سفارة باريس؛ ليُرسل إليه تقاريرَ عنه، فبهذه الوسيلةِ اطَّلَع بسمارك على طمع أرنيم في منصبه، ويُرسل بسمارك هُولْشتَاين إلى المحكمة؛ ليؤديَ شهادتَه أمامها، ويتأذَّى هُولْشتَاين كثيرًا لحمْله على إظهار تجسُّسِه، فيحقد على بسمارك حقدًا شديدًا لا يُبديه إلا بعد سنين فيكون له نتائجُ تاريخيةٌ مهمة واسعة المدى.