الفصل السادس
يسرُّني أن أخدم الملك وزيرًا للخارجية للمدة التي يأمر بها … ولا أستطيع أن أنقُل إلى أيِّ شخص كان ثمرةَ تجربتي في عشرين سنةً في سياسة أوروبة الخارجية ولا ما نلتُه من ثقة في القصور الأجنبية، بيدَ أن الأمور الخارجية لأقوى الدول العظمى تتطلب انتباهًا موحَّدًا غيرَ منقسم لدى الرجل المسئول عنها، وإِنَّ من الشذوذ الذي لم يَسبق له مثيلٌ أن يكون وزير خارجية دولة عظيمة مسئولًا في الوقت نفسه عن الأمور الداخلية، وإن من شأن عملي أن يجعل للرجل الذي يقوم به أعداءً كثيرين من غير أن يكسب صديقًا واحدًا، ورجلٌ مثل هذا يخسر حتى أصدقاءه القدماء إذا ما أراد القيامَ بعمله شريفًا غيرَ خائف، وفي الداخل خسرتُ المكانَ الذي كنت راغبًا فيه بسبب ارتداد حزب المحافظين، وقد شُلَّ نشاطي بالعمل الشاقِّ، ولا يكاد الملك الراكب على السرج يشعر بأنه نهَك فيَّ حِصانًا قويًّا لكثرة ما امتطاه، والكسالى وحدهم يحتملون الضربة.
ولصاحبِ الجلالة آراءٌ ورغائبُ لا أستطيع الموافقة عليها، وعُدت غير قادر على احتمال مسئوليتها مع وَهْني الراهن، واشتدَّت المؤثِّرات التي تُعارضني، وزال نشاطي في الكفاح منذ الربيع بسبب عُجب المحافظين المُحزن وعجزهم السياسيِّ، ولا أجدُ ما أصنعه تجاه المحافظين، ولا أُريد فِعْل ما أتحدَّاهم به، ولهذه العوامل سأقدِّم استقالتي الجزئية إلى جلالته بعد غد، وإذا ما أنعم الله علينا بطول العمر ذكرنا — مسرورين — تلك الأيام العظيمة التي عملنا فيها كأصدقاء قدماء مع الودِّ الخالص الثابت.
وبسمارك بهذا الأسلوب العالي يَعرض اعتزالَه السياسيَّ الجزئيَّ الذي قدَّره باعتدال على أنه عملٌ ودِّيٌّ، وبسمارك يعرف في الحقيقة أنه لا يُعَتِّم أن يعود، وبسمارك ينتظر دعوتَه كما قال لخلصائه، ورون هو أسير بسمارك أدبيًّا، ورئيسُ وزراء بروسية الجديد هذا سيبقى في منصبه تسعة أشهُر، فإذا كان من الصعب أن يعمل بأوامر بسمارك فإن من المتعذر أن يعمل بجانبه، وقد قسَّم المستشارُ سُلطانه، وعلى المستشار أن يطلب إذْن رجلٍ آخرَ إذا ما أراد عملَ شيء رئيسًا للوزارة، وبسمارك هو الرَّيخ ورون هو بروسية، ويُجتَنب كلُّ تحاكٍّ باتحاد المنصبَين في شخص واحد، وتبدو عيوب دستور الرَّيخ الأساسية وتنتقم من واضعه.
لا أتردَّد في الاعتراف بأفضليتكم في أمور كثيرة كما حاولتُ دومًا أن أظلَّ على وئامٍ مع سموِّكم، واليوم أيضًا حاولتُ أن أجتنب قطْعَ العلاقة مع أن أسلوب ملاحظاتكم يجعل هذا الاجتنابَ صعبًا إلى الغاية، ومن الجليِّ أن «موادَّكم الملتهبة» حطَّت من قيمة ما لديَّ، وقد يكون من المستحبِّ لنا نحن الاثنين — ولي على الخصوص — اجتنابُ مثل ذلك التحاكِّ في المستقبل، وإني حين أذكر روابطَ الصداقة التي ارتبط بها كلٌّ منَّا في الآخر منذ سنين كثيرة، وفي عشر سنين عَمِلنا فيها معًا؛ ألتمسُ من سموِّكم أن تطمئنُّوا إلى إمكانكم الاعتمادَ عليَّ وعلى نشاطي بما يلائم، ولكنكم إذا ما فتحتم باب الكلام احتجاجًا أو لومًا على تصرُّفي الرسميِّ استطعتم فعلَ ذلك مع مواجهتكم بجميع ما في «موادِّي الملتهبة» من الأخطار، ولستُ من الحماقة أو الأنانية ما أحاول معه الوقوف ضدَّكم بقواي المسنَّة ونفوذي القليل، فهذا صحيحٌ! ولكنَّ من الصحيح أيضًا أنني لا أحتمل تجاهلكم مزاجي ومحاولتكم معاملتي برعاية قليلة وضغينة كبيرة كمتمرد أو مُهمل خلافًا لِما أنا عليه في أيِّ وقت كان، خلافًا لِمَا أنا عليه في الماضي والحال والمستقبل.
ورون في كتابه هذا يرجو من بسمارك أن يعُدَّ كتابه محاولةً «لإنارة سموِّكم بوجهة نظري حول صِلاتنا المتقابلة والشروط الضرورية التي يُمكنُ أن تدوم بها، وسواءٌ علينا أفترقنا أم لم نفترق لا أرى غيرَ إقامة الدليل مرةً أخرى على سُرُوري البالغ ببقائي صديقَكم القديم: رون».
عزيزي رون، إن مما يؤسفُني أن أرسلتم إليَّ كتابًا كثير الفتور؛ وذلك لِما كان عليَّ أن أحتمل منكم موادَّ ملتهبةً أشدَّ مما لديَّ في الوقت العتيد فنسيتُ ذلك في الحال، والآن يُخيَّل إليَّ أنَّ سبيل الغضب إليكم أسهلُ مما إليَّ، ولا أظنُّ أنكم تضعون نفسكم في مكاني كما يجب على صديق قديم أن يفعله وكما أراني جاعلًا نفسي في محلِّكم لو حُمِل عليكم بمثل تلك السفالة، وكنتُ أعتقد أنني أستطيع الاعتمادَ على عطف زملائي الصادق إذا هُوجمت في شرفي ونزاهتي علنًا، ومن المحتمل أن كان عليكم صنْعُ الشيء الكثير حتى تتصرفوا في وقتكم وأعصابكم من أجل الآخرين، والذي لا ريب فيه هو أنه لم يوجد رفيقٌ ولا جريدة ولا صديق رفَع من تلقاء نفسه صوتَه ليكافح الشتائم الخطيرة التي تُوجَّه إليَّ من غير أن أستحقَّها؛ ولذا أجدُني مضطرًّا إلى اتخاذ التدابير الرسمية وصولًا إلى المساعدة التي لم أنلْها من صداقة ولا من حسن عاطفة …
ومهما يكن الأمر فإن مشاعري لا تنطوي على ما تظنون من افتراض، وهي مشاعرُ زميل يألَم كثيرًا مما أُهين به على غير حقٍّ فلا يجد أيَّ التفاتٍ ممن كان ينتظر عونه، واصبروا عليَّ واذكروا سنواتِنا العشر التي قضيناها في العمل معًا، واذكروا أيام اشتراكٍ أقدمَ من ذلك، وليس عليكم أن تصبروا أكثر من ذلك، وسأُجاهد في سبيل سُمْعتي إلى آخر ما تركه الله لي من عزمٍ قويٍّ، ولن أُتيحَ لكم بعد ذلك أيَّةَ فرصةٍ بمثل المحادثات والرسائل الراهنة تُبصرون بها صداقتنا القديمة — التي أرجو دوامها بعد ختام خدمتي العامة — تدنو من الخطر.
ويسكن رئيس مجلس الوزراء قريبًا من المستشار، ومن المحتمل استطاعتُه أن يرى من نافذته بسمارك يذرع الحديقة ذاهبًا آيبًا مسكِّنًا نفسه بعد إرساله ذلك الكتاب، وكيف يمنع رُون نفسَه من التبسُّم عندما يقرأ توكيد هذا الأنانيِّ الأكبر الذي يُصرِّح بأنه يميل دومًا إلى الدفاع عن أصدقائه ويزعم أنه سيستقيل قريبًا؟ يبدو رون ألطفَ من بسمارك فيغفر لهذا الأخير اتهاماتِه المكرَّرة، ورون مع أنه ضابطُ حرب ينسى أنه أُهين أمام شهود لم يتأخروا عن رواية ما كان من تعنيف المستشار لرئيس الوزراء، ورون يتناول قلمًا وقِرطاسًا ويبدأُ كتابه ﺑ «عزيزي بسمارك».
وإذا كنت قد اضطُرِرت إلى إرسال كتاب «كثير الفتور» إليكم فإن عليكم أن تعلموا أن أشدَّ المشاعر كانت تمزِّقني، ولا يمكنُكم أن تجهلوا درجةَ احترامي لكم وتقديري إياكم، وعليكم أن تَذْكروا أنني أرمي كلَّ يومٍ برماحٍ في سبيلكم لِما يُمازجني من شعورٍ معكم وأنني لا أتردَّدُ في إبداء ما يجب من الشجاعة في أيِّ مكانٍ أجدُ فيه عداوةً لكم، وما كان من افتراضِ أنني أَميل إلى الظهور بمظهر الخليِّ تجاه ما يمَسُّ شرفَكم وسُمْعتكم ومن افتراض أنني أتخلَّى عنكم غيرَ مكترث فمما يجرحني في الفؤاد، وهذا إلى ما كان من اشتمال كتابكم على ما لا مُبرِّرَ له من وعيد كثير الخطر، وقد أعربتُ في كتابي عن دهَشي من استرسالكم ضدي على ذلك الوجه، فأجبتم عن ذلك ببيانكم مجدَّدًا قلة ثقتكم بحميَّتي وبشَكِّكم فيما أحملُه من عاطفة نحوكم …
ويكفي ما وقَع من حديث عن أمس وعما هو جاثمٌ وراءنا ومن قولكم إن عليَّ أن أُبديَ صبرًا نحوكم، وأنتم تعرفونني منذ طويلِ زمن، فأنَّى لكم أن تَثِقُوا بأنني أحاولُ المحافظةَ دومًا على قول الرسول: «لِيَحمل بعضُكم أثقالَ بعضٍ»، وبأنني أحاول العمل به جُهْدَ الاستطاعة؟ ولكنني إنسانٌ ضعيف أيضًا، فمما لا أُطيقه أن يُنكرني ويسيءَ معاملتي أولئك الذين أُقدِّرهم تقديرًا خاصًّا وأُحبُّهم من سويداء قلبي، ولي أن أُطالبَكم باحترامي أيضًا، وألَّا تنتظروا مني أن أكون هدفًا أبكمَ يمكنكم أن تُوجِّهوا إليه سهام غضبكم بلا إنذار، ولنأْتِ إلى قولكم عن الوقت القصير الذي أحتاج إليه لأُبديَ صبرًا معكم، فدَعُوني أبيِّن لكم أنني آملُ وأرغب من فؤادي في دوامكم على قيادةِ مقادير وطننا إلى ما فيه الخيرُ العامُّ، وذلك إلى ما بعد رقود عظامي في القبر.
تلك هي اللهجةُ التي كتَب بها شريفٌ إلى صديقه.
ولكن الجوَّ لم يَصْفُ؛ فما انفكَّ التحاكُّ يحدث، ورون إذ كان راغبًا في المحافظة على صداقة بسمارك بأيِّ ثمنٍ كان، استقال في فصل الخريف، ورون يكتب إلى ابن أخيه يُخبره بأنَّ التضافرَ مع بسمارك على الأحرار أمرٌ يمكنه صُنْعه، «وأمَّا أن يقاتل بسمارك والأحرار معًا فأمرٌ فوق طاقتي»، وإلى بسمارك يكتب رون قولَه الرجوليَّ الممزوج بإنكار الذات: «دعْني أستصرخك مرةً أخرى بقولي: إلى الأمام أيها البطل المقدام! وسأصنع هذا حتى ختام حياتي الذي قد يكون قريبًا، سواءٌ عليَّ أكنتُ على المسرح أم بين الحضور.»
وتتوارى بروسية القديمة بختام أُنشودة ذينك الرجلين الفخمة معًا، ومنذ إحدى عشرة سنةً هجم ذانك الرجلان ليقتُلا تِنِّينَ الديمقراطية، وقد لاح لأجَلٍ أنَّ النجاح حليف الفارسيْن، وهما ما فَتِئَا يرميان روح العصر بنبالهما إلى أن صاح مهلِّلًا وسقط، ولكن الحياة عادتْ إلى التنِّين فبدا ذا ثلاثة رءوس بدلًا من رأسٍ واحد مزمجرًا من الغَور، وهل تُفترض قدرةُ بطلٍ حيٍّ لا نصير له على إنقاذ العالم من هذا الغُول؟

ولمَّا أحسَّ رون دنُوَّ أجله سافر إلى برلين، وأقام بفندق مقابل للقصر مشاهدًا رفْعَ العَلَم في كلِّ صباحٍ قاعدًا على كرسيٍّ ذي ذراعين، ويزور الملك البالغ اثنتين وثمانين من سنيه هذا الماريشال البالغ ستًّا وسبعين سنة من عمره، وهنالك يجلس هذان الشيخان الشريفان العالمان بالواجب والخالصا التقوى، ويتكلم هذا الشائبان عن المعارك السابقة، ويهمُّ وِلْهِلْم بالانصراف وينظر إلى السماء قائلًا: «سَلِّم على رُفقائي القدماء، فستُلاقي كثيرًا منهم هنالك!»
وهكذا يموت ألبرخت فون رون.