الفصل التاسع

في مساء من شتاء سنة ١٨٦٠ كان الرئيس وشلُوزِر وكرْوَا والشابُّ هُولْشتَاين ومعلم الأولاد جالسين حول الموقد بسفارة بطرسبرغ، وكان الحديث يدور حول خلود الروح، ويحاول هُولْشتَاين أن يُثبت أنَّ الخلود المضمون الوحيد هو ما يُترك من صيتٍ، وهنالك يتناول بسمارك كأسَه الموضوعة على الموقد، ويقول: «دعْني أذكر لك شيئًا يا فون هُولْشتَاين، دعْني أذكر لك أن هذا القدح من رحيق مِدُوك هو أفضل عندي من ثلاثين صفحة من التاريخ العام لبيكر!»

وازدراء بسمارك بالصيت الذي سخر منه في أيام طلبه وفي أيام مشيبه هو من أبرز صفاته، وهو على ما يحتمل أظهرُ فارق يمتاز به من نابليون الذي كان يبقى غير ذي خطر لو لم يُعجب بأبطال بلوتارك١ ولو لم يَتُقْ إلى المجد، وفي الحقيقة أن بسمارك لم يكن ليباليَ بثلاثين صفحة حينما انتهى بيكر إلى سنة ١٨٧٠ في تاريخه العام، وبسمارك كان يعرف من هو، وبسمارك فيما لديه من مؤلفات كارْلَيل رسم خطوطًا تحت ما جاء فيها من عبارات عن العبقرية السياسية، وبسمارك في احتفال كارليل ببلوغه الثمانين من سِنِيه أرسل إليه من التحيات الطيبات ما لم يفعلْ مثله تجاه أيِّ ألمانيٍّ لَوذَعِيٍّ كان، وما يجدر ذكرُه هنا هو أن كارليل كان قد أخذ منذ خمسين عامًا مثل ذلك الكتاب من ألمانيٍّ أعظم من ذلك.

ويُسفِر تقديرُ معاصري بسمارك له عن فتوره التام، ويؤدي ازدراءُ بسمارك للرجال إلى نفوره من إعجابهم به، ويعيِّره ريشتر في الرَّيشتاغ بجهله الاقتصادَ السياسي فيُجيبه بسمارك بأنه يستطيعُ انتظار حكم معاصريه هادئًا، ولكنه يُضيف إلى هذا قولَه: «لا أودُّ قولَ شيء عن الأعقاب؛ لعدِّي هذا أمرًا عاطفيًّا إلى الغاية.» وإذا تجمَّع جمهورٌ أمام الرَّيشتاغ ليراه حين وصوله راكبًا عربته، انزعج، وقال إنه يعرف أيَّ وجهٍ يجب عليه أن يُرِيَ فيُنفر منه كوزير بغيض يودُّ الناس أن يتفلوا عليه؛ فالآن أصبح لِزامًا عليه أن يُبديَ وجهًا آخر.

ويدعوه وِلْهِلْم لحفلةِ شَدِّ الراياتِ التي سيحمل إحداها اسمَ بسمارك وشعاره فيرفضُ الدعوة معتذرًا بخوفه من الرد، ويرسل وِلْهِلْم إليه صليبًا من الألماس مع كلمته المؤثِّرة: «إن هذا هو آخرُ وسام يمكنُني أن أقدِّمه إليك، وهو قد أُوجد من أجلك.» فيقول في بيته: «أُفضِّل على ذلك دنًّا من خمر الرين أو حصانًا أصيلًا.»

ويجد بسمارك في دُماه٢ ما يُسلِّيه، فلما أبصر نفسه ذات يوم مصوَّرًا على شكل ملك السِّلم لابسًا حُلَّة قصيرة مع تاج من آذان الفأر٣ وإكليل من الغار على رأسه الأصلع؛ عَجِبَ من «ممكناته المتصاعدة»، ولم تَرُقْه التماثيلُ الأولى التي أُقيمت له، وقد صرَّح للبلاد بقوله: «لا يَسرُّني مثل هذا الاعتراف بالجميل، ولا أعرف أيَّ وجهٍ أتخذه عند مروري أمام تمثالي بكولونية، وإذا ما تنزَّهت في كيسِّينغن أزعجتْني رؤية نفسي من المتحجِّرات.»

وبسماركُ واقعيٌّ، وهو لواقعيته لا يُحرِّكه الذكر، ولا حيلة في ذلك، بيد أن بسمارك يرى في الرأي العامِّ ما يحتاج إليه فلا يألو جُهدًا في استغلاله، وفي هذا تجد سرَّ عنايته بتكييف نفسه مع قِحَة عظيمة عظمَ الأثر المبصر البادي على معاصريه فيظلُّ فاترًا تجاهه. وعلى ما كان من عدم احتمال بسمارك لرؤية تمثال له يودُّ أن يتحدثَ الناسُ عن أعماله وحركاته وشذوذه ما كانت له بهذا دعايةٌ مفيدة.

ويُدعَى سِيبِلُ إلى وضْع كتاب عن تأسيس الإمبراطورية الألمانية من قِبَل وِلْهِلْم الأول، وتُفتح الوثائق المحفوظة؛ تسهيلًا لعمل ذلك المؤرخ، بيدَ أن على بوشر أن ينخُل هذه الوثائق فيترك له «غير الخطر» منها؛ ولذا غدت المجلدات السبعة التي هي نتيجة تلك الغربلة خاليةً من القيمة. ويَعرض هيزيكيل وبوش وآخرون كُتُبَهم على بسمارك قبل طبعِها، ويحذف بسمارك من هذه الكتب ما لا يرغب فيه من مطالبَ وإفاداتٍ، ويشير بأن يُدخَل إليها بعض الإضافات، وينتقد فصولًا لم يُعالَج فيها بدرجةِ الكفايةِ ما قام به من تصرُّفات، حتى إنه يُسلِّم إلى هِيزِيكِيل مختاراتٍ من الرسائل الشخصية التي كُتِبتْ في سنة ١٨٧٠، فأمكنَ نشرُها في سنة ١٨٧٧.

ويُعنَى بسمارك بكلِّ طورٍ من أطوار سَيره ناظرًا إلى ما يكون لذلك من نتائجَ سياسيةٍ، وبسمارك الذي اشتكى بمرارةٍ من ناظر أموال الإمبراطورة لأن هذا الموظف لم يُحيِّه كما يجب أنزل ستائر حُجيرته في القطار في أثناء سياحةٍ قام بها في النمسة لإمكان ما يُسفر هتاف الجمهور له عن إيلامٍ لمزاج زملائه بِفينَّة في زمن أزمة.

ولا تجدُ أحدًا يستطيعُ أن يُباريَ بسمارك في الانتفاع بالصحافة، وعلى مرءوسيه أن يشتغلوا ليل نهار بأمر الصحافة معدِّين موعِزين ملخِّصين مكذِّبين، ويثبت بسمارك أنه بارع في تعيين مقادير الرسوم، ويأتي بسمارك بالأنباء إلى برلين من إحدى نواحي ألمانية أو من إحدى العواصم الأجنبية فيُذيعها ليؤثِّر في الرأي العام تأثيرًا خاليًا من الغرض في الظاهر، ويُملي بسمارك في مكتبه الخاص أغربَ الأمور عن نفسه فيذيعها في العالم كما لو كانت مرسلةً من ستوكهُلم إلى بُوتِسدام، ويبلغ حوكُ هذه الأمور من الحِذْق ما لخَّص خِلْصُه٤ تيدمان معه ظاهرتَها بقوله إن بسمارك هو «مِيفِيسْتُوفِل أكثر من فاوست»، وفيما كانت أُوغُوستا تَشدُّ عَضُدَ أرنيم في سنة ١٨٧٢، وفيما كان بسمارك في فارزين يُملي بسمارك على بوش مقالةً عن «رغائب سيدة معظَّمة في تغيير المستشار»، ولمَّا أراد بسمارك نِقاشًا حول النمسة جعل مراسل كلُونِيش زايْتُنْغ العرضيَّ بوشر ينشر خبرًا اتفاقيًّا من ستولب ببُومِيرَانيَة.

ويبلغ الكفاح ضدَّ الكنيسة أقصى حدوده في سنة ١٨٧٤، فيُحاوَل قتلُه مرةً أخرى بإطلاق النار عليه في وقت يلائمه، وبسمارك منذ بضعة أشهُر كان قد قال للريشتاغ مزدريًا متكبِّرًا: «لي الشرف بأن يكون لي أعداءٌ كثيرون في أثناء حياتي السياسية، فسافروا من الغارون إلى الفيستولا ومن البِلْت إلى التيبر، وابحثوا في مياه الأودر والرَّين تجدوني في كلِّ مكان أكبر مبغَض في البلاد ولا فخر!» ولكن بسمارك في ذلك الحين كان يجهل أن نحَّاسًا بجليكيًّا عَرَض على رئيس أساقفة باريس أن يُرسل إليه رأس بسمارك لحملة هذا الأخير على رُومة، وممَّا قاله هذا المتعصب: «إنني مستعدٌّ لذبح الجبَّار إذا كنتم تعتقدون أن الربَّ يعفو عني وإذا كنتم تدفعون إليَّ مبلغ ستين ألف فرنكٍ عند انقطاع عمل هذا الجبَّار اللعين قبل نهاية السنة.»

وتمضي بضعةُ أشهُر فيُطلق شابٌّ في كيسينغن نارًا على بسمارك وهو في عربته فتُجرح إصبع بسمارك جرحًا خفيفًا، ويُصرِّح الجاني بأنه من أعضاء حزب الوسط، ويُسَرُّ بسمارك ويُوقَف أساقفةٌ لِما رُئي من مساعدتهم الجانيَ بوقفهم العربة، ثمَّ يُبدأ بحملة صحافية فتدوم ستة أشهُر، ويبلغ الأمر ذروته في الرَّيشتاغ، وينهض عضوٌ مغرورٌ من حزب الوسط فيقول: «يُطلق النارَ على الأمير بسمارك نصفُ مجنون، فيصير فريقٌ كبير من مفكِّري الأمة الألمانية هاذيًا.» وبهذا يُتاح لبسمارك أن ينطق عن كبير حقدٍ بواحدةٍ من أعنفِ خُطَبه، قال بسمارك:

«إن الرجل الذي تكلمتُ عنه هو مالكٌ لملكاته العقلية تمامًا كما يدلُّ عليه ما لدينا من الشهادات الطبية، وإنني أدرك أن النائب المحترم لا يودُّ أن نعتقدَ وجودَ أيِّ اشتراك له في الجرم مع مِثل ذلك الشخص، ومما لا مراء فيه أن العضو المحترم لم يُفكِّر قط أن هذا المستشار يكون هدفًا لمثل هذا العارض ذات يوم، ومن المحقَّق أن مثل ذلك الفكر لم يَدُر في خَلَده، ولكن ألَا تزالون تُنكرون كما يشاء هواكم أن ذلك الجاني يتمسك بأذيالكم قائلًا إنه من حزبكم السياسيِّ؟ (هياج شديد)، ولا أقول لكم غيرَ وقائع تاريخية، وكُولْمَن هذا قد أجاب عن سؤالي بقوله: «أردتُ أن أقتلك بسبب ما سُنَّ من القوانين ضدَّ الكنيسة، وقد آذيتَ حزبي السياسيَّ.» (قهقهة)، وكولمن هذا قد أجاب عن سؤالي الآخر أمام شهود: «إن ذلك الحزب هو حزب الوسط في الرَّيشتاغ.»» وهنالك يَصرخ الكونت بلِّرْسترم قائلًا: «عارٌ!» ومَن يعرفْ مزاج بسمارك يعتقدْ أنه يأتي الكونت توًّا ويُهينه لطْمًا، غير أن بسمارك يكتفي بزُوِيِّ ما بين عينيه، ويفوز على بِلِّرسترم بقوله هادئًا: «إن كلمة «عار» هي تعبيرُ نفورٍ وازدراءٍ، وأنت لا ترى بُعْد هذه المشاعر مني، ولكنني بلغت من الأدب ما لا أعبِّر بها.»

ومحاولةُ قَتْله تلك تَشغل ذهنه زمنًا طويلًا، ولنا أن نفترض أنها الفرصةُ الوحيدة التي يُتاحُ له بها أن يعتزل، وبسمارك قال لبِنِّيغْسِن في حال هياج شديد إنه سيستقيل، وبسمارك أُطلقت النار عليه مرتين، وما فتئت الشرطة تُحذِّره، وبسمارك يقول: «سأترك الأمر لمستشارٍ آخر حتى يكون هدفًا للكاثوليك، وسأَبلغ الستين من عمري في اليوم الأول من أبريل، وهنالك أَنزوي وأعود إلى حياة الريف!» وما انفكتْ زوجُه وأولاده يحرِّضون على ذلك منذ زمن كبير، والآن يسير على غِرارهم في التفكير.

وكان تأثير حَنَّة فيه قد زال في تلك المدة الطويلة، وزادت حَنَّة حقْدَه بدلًا من تلطيفه، وغاية ما نعلمه هو أنها لم تحاول في ثلاثين سنة أن تشفيَه ولو مرةً واحدة، وهي قد أحبته، وهي لحبِّها إياه قد أبغضت كلَّ رجلٍ سواه لما تعرفه من عدائه لجميع العالم، وهي لذلك قد أضحت حادة الطبع مع العمر، وهي في مشيبها قد كسرت كأسًا دفاعًا عن بَعْلها ذات يوم كما روى أُولِنْبُرْغ، وهي لم تذهب إلى البرلمان غير مرة واحدة، وهي لم تُطِق قصْدَه مرةً أخرى، وهي قد قالت عن ذلك: «وددت لو أرميهم بساقِ كرسيٍّ!» وهي قد قالت لكريسبي في أثناء حديثٍ: «والحقُّ أن زوجي طيِّبٌ كما تقول»، ولكن كريسبي تبسَّم هازئًا قائلًا: «ليس هذا رأيَ كلِّ واحد!»

ولم ينفكَّ بسمارك يُنذرها بلطف في الحين بعد الحين، فلما ذهبت إلى السوق ذات مرة قال لها: «لا تَبقَي هنالك بعد انصراف الملك؛ فلا أريد أن تكوني بين الجمهور طويلَ زمن.» وتبلغُ من البساطة في إبداء حُبِّها لها ما تُقوِّم معه ربطة عنقه حول المائدة على مرأًى من ضيوفٍ وجهاء، ولم ينقص كَلَفُه بها وإن كان يقضي أسابيعَ من الصيف بعيدًا منها، وهو لم يكفَّ بعد مرور ثلاثين سنة أو أربعين سنة على حياته الزوجية عن الكتابة إليها بمثل قوله: «حبيبتي … أحيِّيك تحية الحبِّ.» أو بمثل قوله في برقيته التي أرسلها إليها من فِردرِيكسروه: «لا أقدر على البقاء طويلًا بغير حصني وغير زوجي، فسنعودُ غَدًا.» والآن تروقُها الحياةُ في برلين أكثر مما في الماضي، فلمَّا أُبصِر البقاء كثيرًا في فارزين قالتْ صديقةٌ لها: «إِنَّ العزلة الكبيرة تؤثِّر في أعصاب الأميرة.»

ومن دواعي الحَيرة أن يُرى عدمُ نفوذ الروح في ذلك المنزل، ولِمَ يعيشُ بعيدًا من الروح ربُّ ذلك المنزل الذي هو أقوى وأشهر ألمانيٍّ في عصره والذي كان رجلَ دنيا في فتائه، والذي أُطريَ بأنه متكلمٌ محدِّثٌ حتى في هذه الأيام ومن قِبَل جميع مَن يجتمعون به في أثناء حياته الخاصة؟ إذا لم نعرف من أموره غيرَ تلك الناحية بدا لنا أكثرَ رجال زمنه بُعدًا من الروح.

ولا يُبالي بسمارك بكيفية رياش الغرف التي يعيش فيها ما دامت مجهَّزةً بمقاعدَ مريحةٍ، ولا ينظر بسمارك إلى ناحية الجمال الفنيِّ فيها، فلمَّا أخبره بعضهم بأن أثاث رون الجديد جميلٌ قال: «إن الذين يُعنَون بحسن الأثاث لا يأكلون جيدًا.» وبين الرياش الشنيع وبين الجَدُر المستورة بالورق البشيع المعلَّقة عليه شهادات الترفيع، وبين الكراسي المصنوعة من خشَب المُغني المغطَّى بالنسيج الكتَّانيِّ القنبيِّ المختلط الألوان، وبين ذلك العطل من الانسجام يجلس أو يضطجع على متكأٍ، ذلك الرجل العظيم متوسطًا ضيوفه بعد العشاء، ويلبس ذلك الرجل العظيم سترةً مصنوعة من الجُوخ الأسود مزرَّرة إلى عنُقه، ويستبدل بالقبة٥ ربطةَ رقبةٍ لنفوره من قَيد القبَّة، وتُبصِر كلبًا دانيماركيًّا كبيرًا جاثمًا عند قدمَيه، وتُبصر غَلْيونًا طويلًا في فمه، وتُبصِر أرضَ الغرفة مفروشةً بالصحف التي تُرمَى بعد قراءتها، ويقول صديقُ المنزل أُولِنْبُرْغ منذ سنين: «لا تُرَى الصِّلات الأممية في ذلك الوسط؛ فأشرافُ الأرياف لا يُغادرون ردهة بسمارك.» ولا يكاد الضيوفُ ينقطعون؛ فهنالك تجدُ بعض المساعدين وبعض شُبَّان الضباط الذين يُقدِّمهم الأولاد وبعض الأقرباء والشرفاء يتعاطَون الخمر والجعة والكونياك بلا كُلفة، «فتلك هي صورة بارزة لردهة استقبال الدِّبْلُمِيِّ الأول في العصر، ويوحي جَوُّ تلك الردهة بوجود برلمان للتبغ، وتُلقي السيدات الأنيقات المَلْبس روعةً على ذلك المنظر في الغالب.»

ويدورُ الحديث ملائمًا لتلك البيئة، حتى إن الأميرَ بسمارك إذا قصَّ قصةً أو أوضحَ أمرًا سياسيًّا لم يكتسبْ كلامُه شكلًا ذهنيًّا، وإذا ما أتى ضَرْبًا من المناجاة قُوطع بمظاهرِ التكريم، وهو يحدِّث دومًا عن حوادثه التاريخية كبرقيةِ إمس ومحاولةِ قتله وأيامِ فِرساي، ويمرُّ هذا عقدًا بعد عقدٍ، ويُجمِع وصَّافو تلك الأحوال على توجُّعهم من قَطْع الممتع من أقوال بسمارك على الدوام بتدخُّل ولدٍ له أو بعرض رسالةٍ عليه أو بتقديم طبق إليه، ويروي بسمارك نفسُه أنه دُعيَ إلى حضور زفافِ ابنته أناسٌ كثيرون، فأخذ أصحاب الدعوى «يَؤزُّون كذبابتَين في مصباح مُقْفل حينَ يتدخَّلُون طوعًا ويوجبون ارتباكًا في كلِّ شيء.»

ومما لا يُجدي نفعًا أن يُسأل عن ذوي القرائح الذين كانوا يلازمون منزل بسمارك فيما بين سنة ١٨٧٠ وسنة ١٨٩٠، لِما لا تجد أحدًا منهم، وذلك مع استثناء الأخوَين لِندُو اللذَين كانَا نافعيَن لبسمارك، واستثناء كورسيوس وفلدنبروخ، وغير ذلك عددُ مَن كانوا يقصدون المجتمعات البرلينية في ذلك التاريخ من غير أن يمرُّوا بساحة بسمارك كَهِيزِه وستُورم وفيلبراند وبراند وإيبْسن وبورنْسُن ومِنزل وكلينجر وبراهمز وهلمولتز ودوبوا ريمون ولانجبنبك وروبرت كوخ وهرمن غريم وإريك شميت وشيرير ورودنبرغ ورانكه، ولا ترى بين هذه الأسماء مَن هو عدوٌّ لبسمارك كفيرشوف وفريتاغ ومومسن، ولما أحضر لنغبهن إلى الأميرة حَنَّة رواية هيبريون لِهُلْدِرْلِن قالت بعد قراءتها: «لقد ضحكنا كثيرًا.»

ولا يعارض ذلك الشذوذُ ما كان من صحة فَهْم بسمارك لكتب شكسبير وغوتة وشيلِّر وبايرون كما تشهد بذلك رسائلُه التي كتبها في شبابه، وكلُّ ما نعلمُه من مثل تلك الأحوال ومن مئات الأحاديث المرويَّة التي لا يمتُّ سوى القليل منها إلى المسائل الذهنية بصلة هو أن بسمارك المملوء دماغُه بالخطط والمرتبط عزْمه في ضروب الكفاح والعانيَ بأسباب الصحة والمفطورَ على الاستبداد يجتنب كلَّ اختلاط بالأشخاص الذين لا يساعدونه على بلوغ أهدافه والذين لا عملَ له معهم والذين لا يمثِّلون حزبًا ولا يُظهرون عداءً.

ولذلك نتائجُ هائلةٌ، فرجلٌ كبسمارك ظل ثلاثين سنة لا يقرأ شيئًا خلا ما كان من نظَره الخاطف إلى أشعار هين وبايرون وأوهلَند وروكرت، ورجلٌ كبسمارك يُبعِد نفسه من جميع الحركات اللاسياسية في بلده، لا بدَّ بعد طويل سيرٍ من أن ينتهيَ إلى الحكم في البلاد بأساليبَ غيرِ ذهنية، لا بدَّ من أن يفصل الذهن في ألمانية من الدولة، لا بدَّ من أن يُخطئَ في تقدير الأمور الأوروبية الثلاثة وهي: عالم الاقتصاد والكنيسة والاشتراكية، لا بدَّ من أن يحاول — بتدابير أميرية وعلى غير جدوى — استغلالَ تلك الأمور على حسب ما تقتضيه مصلحة الحاكمين، وعلى ما كان من ضيقِ أُفُق المليك الطاعن في السنِّ كان هذا المليك يُبصر ويسمع عن الأمور اليومية خيرًا مما كان يُبصر ويسمع عنها بسمارك مع ما لهذا الأخير من قدرة على الإحاطة بأهم المسائل ومعالجتها في أثناء الحديث حول المائدة، وبسمارك ورث عن آله ميلًا إلى الكسل مضافًا إلى ما فيه من حُبٍّ للراحة، وبسمارك كانت أعصابُه متوترةً مضطرة إلى بذْل أقصى جهد على الدوام، فلما أراد الارتخاء كان ذلك على حساب حياة بلده الذهنية، ومهما يكن الأمرُ فإن لبسمارك ما يترفع به من تلقاء نفسه، وما زال مثقَّفو الألمان في ذلك الدور يحملون عظيمَ احترامٍ تجاه ضُبَّاط الجيش وأكابرِ الموظفين، وإليك مع ذلك رأيَ ذوي القدر من العارفين بالتاريخ حول بسمارك:

figure
بسمارك في سنة ١٨٩٠.
  • براند: «بسمارك بركةٌ لألمانية إن لم يكن محسنًا للإنسانية، وبسمارك للألمان كالنظَّارات القوية الرائعة لقصير البصر، فيا لَسعادة المريض الذي يحوزها ويا لمصيبة المحتاج الذي لا يستطيع اقتناءها!»
  • بركهارد (١٨٧٧): «يوحي اعتزالُه ورجوعه بأنه كان لا يعرف كيف يخرج، ويدلُّ سيرُه في جميع المسائلِ السياسية الداخلية على أنه كان سيِّئَ التقدير تقريبًا، أجل، يمكنُه أن يُبرِّزَ عند نشوب حربٍ أوروبية عامة كالتي تُنذر بها الحربُ التركية الأخيرة، ولكنه عاد غيرَ قادرٍ على شفاء البلاد من الفوضى.»
  • فونتان (١٨٨١): «يتمخَّض الشعب عن عاصفةٍ صمَّاء ضدَّ بسمارك بالتدريج، وتتوعد الزوبعة بين الأوساط العُليا منذ زمن طويل، ورِيَبُه لا تدابيرُه هي التي تُقوِّض دعائمَه، وهو رجلٌ عبقريٌّ عظيم لا رجلٌ كبير.» وفي ١٨٩٣: «يجب أن نذكر دومًا ما حقَّقه من أمر جلل إذا أردنا ألا نيأسَ بتلك المتناقضات، وأراه أكثر الناس لفتًا إلى النظر، ولا أعرف شخصًا أدعَى إلى الاهتمام منه، ولكنه يشقُّ عليَّ أن أجدَه يُحاول خداع الآخرين دومًا، وما فيه من رغبة في إخضاع الآخرين فجالبٌ للنوائب.» وفي ١٨٩٥: «هو رجلٌ كامل ورجل مراوغٌ معًا، وهو في آنٍ واحد بطلٌ وساذجٌ لا يودُّ إيذاءَ ذبابة، وهذا هو الذي يُثير فيَّ مختلف المشاعر ويَحول دون إعجابي الخالص القلبيِّ به، وأراه عاطلًا من أمر، وأراه محتاجًا إلى شيء فيه سرُّ العظمة.»

ويُبصِر نيتشه مبذلة فيقول: «بلَغ الألماني ذات يوم سببَ الذوق السليم مع مباذله، وماذا حدَث مع الأسف؟ شُدَّ ضمنَ ثيابه الضيقة تاركًا نهيته لخياطه بسمارك!»

ولبسمارك مع ذلك ملاحظاتٌ عميقةٌ حول المؤرخين؛ «فالمؤرخون صنفان؛ فالصنفُ الأولُ يُصفِّي مياه الماضي تصفيةً نُبصر بها القعر، وإلى هذا الصنف ينتسب تاين، والصنف الثاني يُعكِّر تلك المياه، وإلى هذا الصنف ينتسب سِيبِل.» وبسمارك قال هذا مع مدْح سيبل إياه وحملة تاين عليه، وما كان يتصف به بسمارك من نظر ناقد فيؤدي إلى تمييزه أعاظمَ رجال العصر، وبسمارك هو القائلُ: «إِنَّ المؤرِّخين لا يُبصرون إلا من خلال نظَّاراتهم، والذي يجعلُني كثيرَ التقدير لكارليل هو معرفته كيف يَنفُذ روحَ الآخرين.»

١  بلوتارك: مؤرخٌ يونانيٌّ مشهور، توفي سنة ١٢٥م.
٢  الدمى: جمعُ الدمية، وهي الصورة المزينة، فيها حمرةٌ كالدم.
٣  آذان الفأر: نوعٌ من الأزهار.
٤  الخلص: الصديق الخالص.
٥  Collar.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤