الفصل الأول

«معدَّل النبض عندي في الساعة الراهنة يزيد على ما كان عليه في العهد الماضي خمس عشرة مرة … ومَن ذا الذي يُخبرنا بما يكون عليه وقتما أُدبر؟» فبهذا الاعتراف الذي أوجبه الخوفُ والحُمَّى مع النغم المسرع يبدأ الفصل الأخير من اللحن الأخير، وبه ترى الحال الروحية التي قضى بسمارك بها مائة اليوم الأخيرة بجانب الإمبراطور.

وبسمارك مرَّ عليه عام وهو يعملُ على جعل الوسائل الجديدة ملائمةً للأحوال الحديثة، وبسمارك لِما رآه من دنوِّ أجل فردريك غدا الأمير وِلْهِلْم موضعَ حسابه، وبسمارك يعرض على العاهل المُحتضَر نُصحَه الرسميَّ بعد أربعين عامًا من عرْضه مثل ذلك على ملك بروسية، وبسمارك في شهر مارس سنة ١٨٤٨ — كما في شهر مارس سنة ١٨٨٨ — كان يرقب الملك في قصر بُوتِسدام، أَوَتخطر بباله تلك الأيام التي مرَّت فيها عربتُه من باب الحديقة الملكية؟

ولم تكن عربة البلاط هي التي جاوز بها بسمارك المجاز في تلك الأيام، وكانت أُوغُوستا قد قابلتْه سرًّا في غرفة الخدم، ولم تُرِدْ أوغوستا أن تُرَى حينئذٍ في أثناء حديثٍ شخصيٍّ مع هذا الشريف البوميرانيِّ؛ لِما كان من الاستمرار على إطلاق النار في الشوارع، ولو وافق هذا الشريف على برنامجها لكان من المحتمل أن يُنادَى بابنها فردريك البالغ من العمر ثماني عشرة سنة ملكًا بتنزُّل عمه وأبيه عن العرش، ولكن الواقع هو أن بسمارك أكره أوغوستا على أن تصير ملكةً ثمَّ إمبراطورةً بعد زمن مع ظهورها شديدة العداوة له بما كان لها من السلطان على مولاه. ويقضي وِلْهِلْم نحبَه بعد عمر طويل، ويبدو ابنُه فردريك، الذي مُنعَ من الجلوس على العرش مبكرًا بسبب رفض الشريف بسمارك فاضطُرَّ إلى الانتظار أربعين سنة مضنيةً؛ إنسانًا مثيرًا للرحمة ناحطًا١ ضاجعًا على كرسيٍّ، وبالأمس يبرز فردريك الثالث في عربته للشعب كالسيد والمهدي الميِّتَين المربوطَين فوق حصان.

وفيما كان بسمارك يصعد في السُّلَّم وجد فيكتورية تنتظره، وقد كانت مسيطرة على زوجها حتى في أيام صحته، وهي تقبض الآن على جميع أمور زوجها العليل وإن لم تتصرفْ في السلطة التي كانت تَحلُم بها، وهي في الأحوال الحاضرة تُبدي استعدادًا للتفاهم مع الخادم العدوِّ القويِّ الذي ما فتئتْ تكافحُه، والحقُّ أنها ستصبح أيِّمًا عمَّا قليل فتُضطرُّ إلى مساعدته ضدَّ عدوِّها الثاني، ضدَّ ابنها الذي سيكون إمبراطورًا، ولم يدَّخر مِيفِيسْتُوفِل وُسعًا، ويبذل كلَّ حيلةٍ إغواءً للفيكتوريتَين.

وقد أتتْ ملكةُ إنكلترة فيكتورية إلى بُوتِسْدام ففُتِنت بالشيخ الصنديد المرهوب، ويُسحر ذلك القصرُ اللعين الذي يسير فيه كلُّ واحدٍ مختنقَ الخُطَا؛ خوفًا من إزعاج المريض، وكتمًا لِما يحدث عن وليِّ العهد ذي العيون المبثوثة في القصر الذي ينتظر الموتُ فيه فريستَه والذي يريد النساء أن يحكمنَ فيه حتى يأتيَ ذلك العملاق المخيف والشيخ المقبَّب الرأس والعسليُّ العينَين والكثيف الحاجبين من برلين فيطرح — بجليل القول وخفض الجناح — اقتراحاتِه على أرجلهنَّ.

ولكن هنالك فيكتورية ثالثة، وفي ذلك القصر الإمبراطوريِّ تتصادمُ الأهواءُ بلا انقطاعٍ، وفي ذلك القصر الإمبراطوريِّ يتنازع حبُّ السلطان والحرص على الحياة والحقدُ الأُسريُّ والغطرسة، وتَطمع زوجُ فردريك «فيكتورية الوسطى» في تزويج المطالب بعرش بلغارية الجديد الأمير بَاتِّنبِرْغ بابنتها فيكتورية الثالثة، غير أن الساحر الأشيبَ يصرخُ قائلًا: «ابتعدي عني!» وذلك لِما يراه في هذه القصص النسوية من إفسادٍ لخِططه.

ويقول بسمارك في حديثٍ له مع بوش: «قد يكون باتِّنْبِرْغ أبغضَ الناس إلى القيصر … وظلت الإمبراطورة الجديدة إنكليزيةً في تصوراتها على الدوام، وتزيد على ما كانت عليه في هذه الأيام وصولًا إلى مآربها، فتريد أن تكون آلةً بيد باتِّنْبِرْغ الذي هو ابنٌ لسيدة بولونية من آل هوكِّه الذين ليسوا أهلًا للاحترام!» ويُسِرُّ إلى صديقه فون سبِيتْزِنْبِرغ بقوله: «إن فيكتورية الوسطى هي الأشرُّ، وهي مشهورةٌ، فإذا نظرت إلى صورتها ارتعشت مما تنمُّ عليه عيناها من معاني الشهوة الجامحة، وهي عاشقةٌ لباتِّنْبِرْغ وتريده لنفسها كما تريد أمُّها أن تحتفظ بأخيه لِباسًا لها، والله يعلم مقدار ما ينطوي عليه ذلك من الدَّعارة!»

ويجعل المستشار من ذلك مسألةَ وزارة، ومع ذلك — وفي تلك الساعة — يبدو المريضُ الذي لا يَعترض على الزواج قانعًا بأن يَعلم إمكانَ حدوثِ تغييرٍ بخطاباتٍ تَصدر عن بيئة بسمارك، وينطفئ مع قُوَى المريض ما فيه من طموح وكفاح، ولا تَنشُد روحُه غيرَ الراحة، بيدَ أنَّ قلب بسمارك ما انفكَّ يَدُقُّ على وزن النضال، وبسمارك منذ عامٍ كان قد قال عن فردريك وفيكتورية: «إنهما يَحوكان خيانةً، فهما خاليان من كلِّ شعور ألمانيٍّ، وهما قد خَسِرَا ما لهما من مكان في نفوس الشعب، وهما يُلقيان بذور الشقاق بين أبناء الأسرة.» واليوم يقولُ بسمارك: «كان مولاي الشائب السابق يعرف أنه خاضعٌ لزوجه، فيقول: أَعِنِّي، فأنت تعلم أنني لستُ اللابسَ للسروال، غير أن هذا الرجل هو من الغرور ما لا يرضى معه بمثل ذلك، مع أنه من بعض الوجوه عبدٌ شديدُ الخضوع كالكلب، ولا تكاد تعتقد مقدار ذلك.»

ويشتدُّ بُغض بسمارك للناس مع السنين، وتتبلَّر هذه البغضاء، فيبدأ بسمارك بفَقْد كياستِه النفسية وترتبك دِقَّتُه الروحيةُ ويزيد فتورُه وسوءُ ظنه، ويظهر الأسد الشيخ رابضًا أمام عرينه، ويخرج الشَّررُ من عينيه اللامعتين، ويبدو مستعدًّا لهَرْس كلِّ مَن يدنو منه ببراثنه، ويحرُس الكنز الداخليَّ؛ أي الريخ، على الدوام، ويسأل صديقُ شباب بسمارك «كِيزِرْلنْغ» في إحدى زياراته النادرة له: «وماذا يدور في أعماق قلبه؟ لا الشعورُ الزاهي بأنه أتمَّ أمورًا، ولا ارتياحُهُ لأنه أنجز أعمالًا عظيمة ولا تمتُّعُه بالراحة والسلام بعد جهادٍ …»

أفلا يشعر الزملاء والنواب بهذه البغضاء المتراكمة الهائلة للناس؟ أفلا تعرف الأمة ما يُكنُّه زعيمها لها من ازدراءٍ فاتر؟ ويقول هُوهنلُوهه ملاحظًا: «يوحي إليَّ بأنه غير سليم العقل.» وفي الرَّيشتاغ — حيث كانت منذ سنة ١٨٨٧ أكثريةٌ كثيفة مؤلفة من المحافظين والأحرار الوطنيين يَقدر بها بسمارك على سنِّ قوانينه حول العمل ونظام الحماية، كانت الكراهيةُ الشخصية لهذا الشيخ تزيد مقدارًا فمقدارًا، وبسمارك قال ذات مرة عند عودته من المجلس إلى منزله: «إنني أشعرُ بوجعٍ في شعري كالذي لبَّبَه٢ الأوباش وأخذوا برأسه في حانة شائنة.» ويُعلِّق «أبناء العم» من الأشراف آمالَهم على الشاب الذي سيُصبح إمبراطورًا عمَّا قليل، وكان هُولْشتَاين قد تفاهم هو وفِينْدهُورْست في زاوية من بهوِ استقبال حول ما يعملان في مستقبل خطر.

وبسمارك بعد الآن يرجع البصر إلى الدور الزائر فيصفه ﺑ «الأيام القديمة المِلاح» والآن يمدح بسمارك مولاه الراحل كما كان ينتقده في حياته، ومن قوله: «حقًّا كان الإمبراطور الشائب رفيقًا صادقًا، وكان يمكنُ الاعتمادُ على إخلاصه … وهو وإن كان يُخطئ في سيره في بدءِ الأمر لم يعتِّم أن يعود إلى الصراط السويِّ.»

والمستشارُ إذا ما أنعم النظر في فيكتورية مجَّد حتى أوغوستا قائلًا عنها: «أجلْ، إنها كانت تضع العراقيل في سبيلي، ولكنها لم تنفكَّ تكون امرأةً ممتازة، ولكنها كانت ذات شعورٍ حيٍّ بالواجب، ولكنها كانت تتصفُ من هذه الناحية بما يَعُوز الإمبراطورةَ الحاضرة، وهي كانت تودُّ أن تضحِّيَ بشيء في سبيل أصدقائها التقدُّميِّين لعطَل بَعْلها من العزم، وفي مثل تلك الأحوال حين يكون كلُّ أمرٍ مُلتويًا؛ لا نستطيع أن نُسلِّيَ أنفسنا بقولنا إن الأمر يسيرُ على ما يُرام، وسأتمسك بمنصبي ولو سُرِّحْت فلن أبرحه! ولن يُولَد عاهل، غير أن لي رجاءً في مولانا الشابِّ، فلعل فتاءَه الشديد كان مفيدًا له.»

ولم يشعر الأمير وِلْهِلْم بأنه عومِل بالحسنى في أُسرته، وقد أبصر بسمارك ذلك في السنوات الأخيرة. وفي سنة ١٨٨٦ كتب فردريك إلى المستشار بسمارك يقول له عن الأمير وِلْهِلْم متوجِّعًا: «يَقرُب من الطيش ما اتصف به من شدة التسرُّع، ويعوزُه النضجُ، ويميل إلى الزهو والصلف.» وأمورٌ مثل هذه مما يجعل الأميرَ الذي انتُقد على هذا الوجه موضعًا لعطف المستشار المرسَل إليه فيحاول هذا المستشارُ أن يشفيَ الأمير من «احتباسه البُوتِسْدامي»، وفردريك كان قد مَرِض قبل ذلك أيضًا فصار يُساور بسمارك شعورٌ بقِصَر عهد هذا العاهل الجديد، وما كان من كُرْه بسمارك ووِلْهِلْم لوالدَي هذا الأمير فقرَّب بينهما في بدءِ الأمر.

ومهما يكن الأمر فقد أسفر عنادُ وِلْهِلْم عن تحاكِّهما من السنة القادمة، ويُقنع ستوكِر وفالدِرسي وِلْهِلْم بأن أَقْوم طريق لمكافحة الاشتراكية هو سلوك سبيل الكياسة والإحسان، ويقترح وِلْهِلْم إقامةَ مهرجانات فروسيَّة جمعًا للأموال من أجل فقراء برلين، ويغضب بسمارك، ولا يُغضِب هذا المستشارَ ما أُبديَ من نشاط كبير من هذا الطراز، وإنما الذي أثاره هو ما أبداه العاهل المقبل من ولَع بأن يَحُلَّ ودِّيًّا تلك المسألة الاجتماعية التي ما انفكَّ ذلك المناضل القديم يناهضها بقوة القانون والسيف، ويقول الأمير وِلْهِلْم جوابًا عن اعتراض المستشار: «أُفضِّل أن أُقطَّع إربًا إربًا على نَصْب المصاعب لك.» ويُرَدُّ احتجاجُ بسمارك بهذه التأمينات الطائشة.

ومما زاد بسمارك زَعَجًا ما كان بعد زمن قريب؛ أي في الشهر الأخير من حياة الإمبراطور، من إرسال الأمير وِلْهِلْم إليه مسوَّدة اقتراح يصير تبليغه إلى جميع أمراء الرَّيخ على أن يُحفظ من الآن في مستشاريَّات الاتحاد في غُلُفٍ مختومة «لما يتوقَّع من وفاة الإمبراطورة ووفاة والده عاجلًا»، وفي ذلك الاقتراح «يُنبئ أعمامه الشيوخ بأنه لا ينبغي لهم أن يرموا عصًا بين ساقَيِ ابن أخيهم الشابِّ العزيز».

ويعظم قلقُ بسمارك، وما أشدَّ الحُمَّى التي تشتعل في عروق هذا الشابِّ الذي يضع مسوَّدات بيانات ويستعدُّ لإرسالها إلى اثني عشر ديوانًا عامًّا، على حين لا يزال سلفاه من الأحياء! أَوَيجهل هذا الأميرُ أحكامَ الدستور الإمبراطوريِّ، فينظر إلى أمراء الاتحاد على ذلك الوجه كما لو كان مسيطرًا عليهم؟ ويكتب بسمارك بخطِّ يده كتابًا يبلغ ثمانيَ صفحات عند الطبع، مجاوزًا بذلك حدودَ طاقته كما قال، وفي هذا الكتاب يشرح بسمارك للأمير الوارث وِلْهِلْم ما قامتْ عليه الإمبراطوريةُ من المبادئ ويطلب إليه أن يحرق مسوَّدة الاقتراح تلك، ويصيب هذا الطلبُ المحزَّ من الأمير، ولا غروَ؛ فالكلمات الأولى للإمبراطور السابق لأوانه هي غيرُ صالحة للتبليغ إذن! وعليه أن يحتمل هذا من مستشارٍ قاسَى بسببه الشيءَ الكثير! والأمير — وإن ثار ضدَّ والدَيه عن أثرةٍ — يمكنه اليوم أن يُلَقن نفسه بأن ذلك كان عن تضحية! وسيزعم الأمير — بعد زمن — أنه يحقُّ له أن يكون محلًّا لشُكر الشائب بسمارك!

ويبدو جوابُ الأمير باردًا، وهو ينطوي على الوعيد الآتي، وهو: «ويلٌ لهم عندما أغدو قادرًا على الأمر!» أجلْ، إن هذه الكلمة كُتبت ضدَّ أناسٍ آخرين، غير أن لهجتها القاطعة لا بد من أن تَقْرَع أُذُنَي قارئها المرهفتين، فتُتيح له فرصة التفكير في الأمر جدِّيًّا، ولبسمارك من الحافز الصالح ما يقول معه لوارث العرش في رسالته المطولة: «أرى أن أقوى دعامة للنظام الملكيِّ هو أن يعزم الملكُ عزمًا صادقًا على ألَّا يُكتفى بالاشتراك في إدارة أمور حكومة البلاد في الأيام الهادئة، بل يجب عليه في الأوقات العصيبة أن يستعدَّ مستلًّا سيفَه للسقوط صريعًا على درَج العرش مجاهدًا في سبيل حقوقه غير جبان، فعاهلٌ كهذا لن يتخلَّى عنه جنديٌّ ألمانيٌّ.» وهل المصادفة، أو المعرفة العميقة بالخُلُق البشريِّ، أو الرؤيا النبوية؛ هي التي دفعتْ بسمارك إلى كتابة ذلك الإنذار إلى وِلْهِلْم قبل ثلاثين عامًا من اليوم الذي جعل القدرُ فيه وِلْهِلْم على محكِّ التجربة فوهَن بسبب ما في أخلاقه من ضعف جوهريٍّ؟

ويصيرُ وِلْهِلْم وليَّ العهد، فيبدأ بالسير على غِرار فردريك في نثرِ التعاليق بالقلم الرصاصيِّ، وببعض هذه التعاليق نطَّلع على محاورات بين وِلْهِلْم الشابِّ وبسمارك وعلى نقضِ بسمارك لتفاسير الأمير بتفاسيرَ مضادةٍ في حَقْل السياسة العليا، وتُصبح رسائلُ بسمارك لسفرائه في الخارج واسعةً عامة شيئًا فشيئًا، ويُصبح الأميرُ ذا حقٍّ في مطالعة نُسخٍ عن أصل الأوامر الرسمية التي تنطق بالأمثال وتشتمل على دروس في سياسة الدولة، ويُمكننا أن ننظر إلى رسائل بسمارك تلك في السياسة الخارجية كما ننظر إلى حكمة كاتبٍ خياليٍّ ناضجة أو كما ننظر إلى صورة مصوِّر كبير رسمَها بنفسه، ولمَّا زاد في ألمانية كُرْهُ روسية وصار الحزب العسكريُّ يُحرِّض على الحرب كتب إلى سفيره بفِيَنَّة ما يأتي:
تظلُّ الإمبراطورية الروسية التي لا تَمَّحي والتي هي مدينة بمناعتها لمناخها وسُهوبها٣وقلة احتياجاتها عدوَّتنا الشديدة المتعطشة بعد الهزيمة إلى الانتقام كما هو أمر فرنسة في الغرب، وهكذا يكون الوضعُ متوتِّرًا دومًا لا محالةَ، ولا أرَى أن أحتمل مسئوليةَ العمل على إحداث هذا الوضع، وقد تعذَّرت على أقوى الدول العظمى «إبادةُ» قوميةٍ في قرنٍ كامل كما ثبت ذلك من حال بولونية البالغة الضعف، والرأيُ هو أن نَعُدَّ روسية عاملَ خطرٍ دائم فنُقيم ضدَّها أسدادًا للوقاية.

ويقرأ وِلْهِلْم ذلك، فيُعَلِّق على مسألة قيام عدوٍّ جديد محبٍّ للانتقام بقوله: «لا يكون أكثر مما عليه الآن.» فيجيب بسمارك عن هذا بكلمته: «أؤكد لكم بأنه يكون أكثر مما هو عليه!» ويُعلِّق وِلْهِلْم على مسألة التعطُّش إلى الانتقام بقوله: «قد يتعطش إلى الانتقام، ولكنه لا يقدر عليه.» فيُجيب بسمارك على هذا بكلمته: «إنه يغدو قادرًا عليه بسرعة، كما اتفق لفرنسة بعد اثنتي عشرة سنة.» ويُعلِّق وِلْهِلْم على مسألة إبادة إحدى القوميات بقوله: «نعم، ولكن قواهم المقاتلة زالت.» فيجيب بسمارك عن هذا بكلمته: «يمكنُهم أن يُعيدوا تكوينها في خمس سنين، فانظروا إلى مثال فرنسة.»

وبتلك المحاورة الصغيرة الخطِّيَّة تُبصرُ اصطراعَ الحُنكة وقلة الصبر، وتُبصِر معارضةَ الرأي النضيج بالرأي الفطير، بيدَ أنَّ بسمارك الشيخ يطمع أن يُعلِّم وِلْهِلْم الشابَّ فيكتب إليه كتابًا مطوَّلًا عن السياسة الألمانية الروسية ويُحذِّره من التعليقات البعيدة المعنى قائلًا له: «إن الموظفين الذين يطَّلعون على تعليقات سُمُوِّكم — وأنا منهم — يصعب عليهم أن يحافظوا على أساس سياسة ألمانية السلمية عند تبدُّل العهد، وأفهم من تعليقات سموِّكم أنه يُراد حمْلي على القول بما يناقض عقيدتي، وفي هذا من قلة الإخلاص لسياسة إمبراطور ألمانية ما هو أشدُّ خطرًا من العزم على الحرب.»

تلك هي الكلماتُ الرفيعة التي اختارها بسمارك إنذارًا للأمير الشاب، وفي الغد يُدهَشُ بسمارك عند سماعه قولَ هذا الأمير إنه «بُولغ في المعنى» الذي استُخرج من تعليقاته موكِّدًا أن ميولَه الخاصة سلميَّةٌ تمامًا، أَفَينطق الأميرُ الشابُّ عن هوًى إذن؟ أَوَلا يدرك ما يكون لِما يقول من تأثير نفسيٍّ؟ ويُضيف الأميرُ إلى ذلك قولَه إنه سيمتنع بعد الآن عن إتيان مثل تلك التعاليق «تسليمًا جزئيًّا بالأسباب التي أبداها المستشار.» بيدَ أنه ما فَتِئَ يرغب في اطِّلاع الجمهور على وجهات نظره بإحدى الطرق. ولم يحدثْ أن كتَب وِلْهِلْم الشيخ بمثل تلك الوقاحة، «فالتسليمُ الجزئيُّ» أمرٌ جديد على بسمارك.

ومن الطبيعيِّ — لا ريب — أن يتكلم الوارثون الشبَّان عن الحروب التي قد تكون ضرورية، وهؤلاء الشبَّان لا يعرفون ماذا تنطوي عليه هذه الحروبُ من الأخطار، وليس في القلق الذي يساورُهم ما يُقِضُّ مضاجعَهم، وإن الأمير الذي يُحيط به قُوَّادٌ محبُّون للحرب ليُذعَرُ إذا ما قرَأ نبوءةَ بسمارك القاتمة الآتية التي خاطب بها وزيرَ الحربية، قال بسمارك: «إذا قضتْ إرادةُ الله بهزيمتنا في الحرب القادمة لم يدَّخر أعداؤُنا المنصورون وُسعًا في اتخاذ جميع الوسائل الممكنة لمنعنا من الشفاء مدة جيل كامل، ولا أعتقد أنَّ أعداءنا يكتفون بالألزاس، فسيطالبون بأراضٍ على طول نهر الرين، وليس لنا أن ننتظر العونَ من روسية والنمسة وإنكلترة كما تمَّ لنا سنة ١٨١٢؛ فقد أبصرت هذه الدول ما اتفق لألمانية الموحَّدة من القوة.»

وأنبأ بسمارك في الوقت نفسه أن روسية أكثرُ جذريَّةً٤ بمراحلَ مما يرى الناس؛ «فالثورة والجمهورية أمران قد يُلِمَّان بروسية في أقرب وقت، وفي روسية أناسٌ كثيرٌ يُعلِّقون آمالَهم على كارثة حربية تُصاب بها تخلُّصًا من النظام القيصريِّ»، ويَسْطَع معظمُ عنايته من خلال عبارة قصيرة كُتبت على هامش تقرير، وهي: «لا معدلَ لنا عن إنكلترة إذا أردْنا صوْنَ السِّلم مدةً أخرى.»

وهكذا كان جَوُّ أوروبة مكفهرًّا حين موت فردريك، وكان هذا الإمبراطور شاعرًا بذلك، وآيةُ ذلك أنه استدعى بسمارك في اليوم الذي سبَق وفاتَه، فمدَّ إليه يدَيه مع اشتداد الحُمَّى عليه، ثم تناول يدَ الإمبراطورة ووضَعها في يد بسمارك اليُمنى وضغَطهما معًا، ويصمت الإمبراطورُ صموتًا مؤثِّرًا، ولهما في صمته تحذيرٌ، فكأنَّه وهو يُحتضَر يبارك أعمالَ بسمارك التي ما انفكَّ يُناهضها في حياته.

وفي الغد يقضي فردريك نَحْبَه، ويغدو وِلْهِلْم سيِّدًا.

١  الناحط: من يزفر زفيرًا ويسعل شديدًا.
٢  لبَّبَه: أخذه بتلبيبه وجرَّه.
٣  السُّهوب: جمع السهب، وهو المستوي البعيد من الأرض في سهولة.
٤  Radical.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤