الفصل العاشر

نرى في طالع بسمارك كما في خط يده ما يؤيِّد تقديرنا لسجيَّته، فهو قد وُلد في برج الأسد فدلَّ هذا على القوة، وكانت الشمس في برج الحمل كما كانت خاضعة للمريخ فدل هذا على الشجاعة، وكانت الشمسُ مضادَّة لأورانوس فدل هذا على القيام برسالة، وهكذا تراه جامعًا لعلامات النار الثلاث.

ويدل خطُّه على العقل أكثر من دلالته على الخيال، وينمُّ خطُّه على الإرادة والقوة والاعتداد بالنفس وضبط النفس والثقة بالنفس وحسِّ الشكل، وعلى الزهو والعناد، وعلى البُعد من الاصطلاح، وعلى الترتيب وكثرة مفاجئات رجلٍ واقع تحت رحمة أعصابه، وخطُّه ضخم مع عدم تكلُّف لكبر الحجم، وأظهرُ انتظام في خطِّه كان عند بلوغه منتصفَ عمره فلا تجدُ فيه علامةَ انفعال أو آيةَ زيادة، ويغدو خطُّه في مشيبه أكثرَ مرونةً وأعظمَ سخاءً، ومما يجدر ذكرُه بقاءُ خطِّه كسجيَّته غيرَ متحولٍ مدة خمسين سنة.

وهو حتى في مشيبه ظلَّ مناضلًا قبل كلِّ شيء، فلما حرَّضه كِيزِرْلِنْغ على أن يبدوَ الآن رجلًا منسجمًا قال له متحديًا: «ولِمَ أكون منسجمًا؟» ولمَّا تقاطر الناس إليه احتفالًا ببلوغه الثمانين من عمره متوقعين أن يرَوا شيخًا هادئًا سمعوه ينطق من شرفة منزله بالكلمة النارية الآتية، وهي: «ليست الحياة غير كفاح بين الخلائق كلِّها، فارجعوا البصر إلى النباتات فإلى الطيور ناظرين إلى الحشرات، وارجعوا البصر إلى الكواسر فإلى البشر لا تجدوا حياة بلا كفاح!» فبهذه الذهنية سوَّغ انتخابه عضوًا في الرَّيشتاغ، وفي ذلك يقول: «أودُّ أن أرى وجوههم جالسين على مقاعد الحكومة حينما أكون جالسًا في الدور الأدنى من الردهة، فأنا قطرة كيماوية تُحلِّل كلَّ أمر عند صبِّها في المناقشة.» ويدور الحديث حول القناعة فتُمدَح فيقول: «أتجدون ما هو أتعس من إمبراطورية ألفيةٍ تقتل الطموح وتعرقل التقدم وتؤدي إلى ركود في الأخلاق؟»

ولم تَعْدُ نصرانيَّتُه حدَّ الشكل منذ زمن طويل، والآن تُبصر صحيفتها مطويةً تمامًا، ولا تجدُ في نهاية حياته — كما في بَدْئها — سوى شكٍّ يُحوِّله إلى وثنية صوفية في الحين بعد الحين، وإليك ما أتاه من إيضاحٍ عاطفيٍّ رفيقُ صباه كِيزِرْلِنْغ الذي جَرُؤ وحده على سؤاله عن هذه الأمور، فقد كتب يقول بعد زيارته الأخيرة له: «يظهر أن شعوره الدينيَّ يترجح بين جزرٍ ومدٍّ، وينام غرامُه في مشيبه، ومن المحتمل أن يكون قد نام فيه مع العمر أيضًا شوقُه إلى إله ذي مشاعرَ بشرية، وهذا يُفسِّر ما بين الحبِّ والدين من علاقة مطلقة.» ويروي كِيزِرْلِنْغ أن آخر اعتراف لبسمارك هو قوله: «يؤسفني أن أقول إنني ابتعدتُ كثيرًا عن الربِّ فيما قمت به من ضروب الكفاح في السنوات العشرين الأخيرة، والآن في هذا الدور الكئيب أشعر مع الألم بهذا الابتعاد.»

وهو إذا ما أخذ يجادل في الدين ذكر أمورًا قد تُزعج حَنَّة المتدينة العجوز، ومما حدث أن كان يقرأ جريدة فتركها تسقط، فقال أمام أحد الضيوف: «أودُّ أن أعرفَ جيدًا: هل تمتدُّ الثنائيةُ التي تتخلل فينا إلى الكائن الأعلى؟ تبدو الثنائية في كل أمر خاص بنا، فالإنسان مؤلَّف من روح وبدن، والدولة مؤلَّفة من حكومة وممثلين للشعب، وكيانُ البشرية بأسْرها قائم على العلاقات المتقابلة بين الرجال والنساء، وتشتمل هذه الثنائية على أمم بأجمعها، وإني — من غير تجديف١ على الله — أودُّ أن أعرف: هل يوجد بجانب إلهنا كائنٌ يُكمله كما تُكمل المرأةُ الرجلَ؟» وتذكِّره حَنَّة بالثالوث على استحياء، فيقول: «إن هذا مذهب غير معقول.» ثم يداوم على قوله سائلًا نفسَه بلهجة جدية: «قد تكون بيننا ويبن الله مراحل، وقد يكون لدى الله من يستعين بهم على تدبير شئون هذا الكون الذي لا حدَّ له، ومن ذلك أنني إذا ما قرأت غير مرة صُحُفًا، فأبصرتُ الوجه المحزِن الذي تسير به الأمور عندنا وأبصرتُ توزيع السعادة والشقاء بيننا توزيعًا غير عادل سألت في نفسي دومًا عن وِرْثنا في هذه الأرض من نائبِ رئيسٍ لا يُنجز في كلِّ وقت إنجازًا دقيقًا مقاصد إلهنا الكريم.»
وذلك هو آخرُ شرر متطاير من ذلك المذهب الطبيعيِّ قبل أن ينطفئَ، وليس العالم في نظره سوى دولةٍ متراميةِ الأطراف، وهو على ما يراه من عيوب كثيرة فيه يجد حاكمَه الأعلى واجبَ الكمال، ثم يفترض وجودَ نائبِ رئيسٍ كعميد الناحية البروسي يكون — كما يقول — في حال أخرى مفسِّرًا للقوانين تفسيرًا فاسدًا، ومُطبِّقًا لها تطبيقًا خاطئًا، ويعود في أواخر عمره عودًا قاطعًا إلى الأساطير التوتونية٢التي لم يتركها في السرِّ قطُّ، وبسمارك — في أوقات عناده تلك — لا يرغب في سماع قول عن مخافة الله لهذه المخافة نفسها، وبسمارك يقول إن سبب عبادة الناس للشمس في المناطق الحارَّة هو ما تبدو به الشمس في هذه المناطق من قوة خطرة، وبسمارك يعزو عبادة التوتون للصاعقة والرعد إلى مثل ذلك السبب، وبسمارك يُضيف إلى ذلك قولَه مزدريًا: «والناس هنالك كلاب أيضًا، فهم يُحبُّون مَن يخافون، ولا يُقدسون لغير من يخشَون.»
figure
خطوط بسمارك في أدوار حياته (السنوات ٣٠ و٤٥ و٨٠ من عمره).

ويقُصُّ أحد القناصل كيف تفلَّت من الزنوج فيقول له بسمارك: «إن جميع أمورنا بيد الله، وأحسنُ عزاء لنا في مثل هذه الحال هو أن يكون لدينا مسدَّسٌ جيد فلا نَسيحَ بلا رفيق.»

ولا يخلو ذهنه من التصوف، وتعظم خرافته، فمن قوله: «أُعلِّق أهمية كبيرة على مثلِ تلك العلائم في الطبيعة الصامتة، فالطبيعةُ أبرعُ منَّا وأعقل.» وهو يُكثر من ذكر ما تنطوي عليه الأرقام من سحرٍ، فقد سبق أن نظر إلى دورية حياته فحسَب تاريخ وفاته، والآن يرى أنَّ حياته ستُختم في سنة ١٨٩٨ لأنه لم يمُت في سنة ١٨٨٣، والآن يقول: «هنالك أمور كثيرة لا يمكن تفسيرُها كالنور والشجر وحياتنا الخاصة، ولِمَ لا يكون من الأمور ما يجاوز حدود إدراكنا المنطقيِّ إذن! أوصى مونتين بأن تُكتب على قبره كلمةُ: رُبَما، فأودُّ أن تُكتب على قبري كلمة: سَنَرَى.»

أَوَيعتقدُ بسمارك الشيخُ دوامَ أثره؟ هو لم يُخدَع بِمَلَق قومه، وهو لم يُبهَر بالصِّيت، ولا جرمَ أنَّ ذكْره طبَّق الآفاق في الوقت العتيد، ومن ذلك أن أتاه نائبُ عاهل الصين؛ ليسأله عن أقومِ الطُّرق في مقاومة دسائس البلاط في بكين، ومن ذلك أن وُجد من العرب مَن كتب يقول له إنه مشهور في العالم العربيِّ وإن معنى اسمه «طلقاتٌ سريعة» و«نشاطٌ مع شجاعة» (؟)، وما قيمة اشتهاره بين الألمان؟ فالألمان «صغارٌ قصارُ الأبصار، ولا أحد منهم يعمل في سبيل الجميع، وكلُّ واحد منهم يعمل من أجل نفسه، وكلُّ واحد منَّا لا يحتمل الآخر، وكلُّ واحد منَّا سمحٌ مع الأجنبيِّ، وإن مما يُقِضُّ مضاجعي أن أُبصرهم يهدِمون البناء الذي أقمتُه حجرًا بعد حجر، ثم يختلط حابل أفكاري بنابلها.» وهكذا يُزعَج بسوءِ ظنِّه القديم، وهكذا يُحرَّك بانقسامات الأمة وبارتيابه الحديث من مولاها، فينظر إلى المستقبل بقلق متزايد بعد بلوغه الثمانين من سنيه.

وفي عيد ميلاده يُعرِب له جميعُ شعوب ألمانية عن ولائهم، وهو لم يغمِطه فيرفض تهنئتَه غيرُ عدوِّه القديم الرَّيشتاغ، ويقفُ بسمارك على الشرفة ويخاطب الشبيبة بقوله: «لا تَضِقْ صدوركم، وارضَوا بما أعطاكم الله، وقد وُفِّقنا لإنقاذ ما أعطاه على الرغم من خطط بقية الأوروبيين المتوعدة، وليس هذا بالأمر الهيِّن في كل زمن.» فبهذه البراعة يُلقي بُرقعًا دقيقًا على غمومه في تلك الساعة من عيد ميلاده، وهو — كما في كل وقت — يتذرَّع بذلك الأسلوب المغري الجدير بمَن يُمهد المصاعبَ، وينظرُ الطلاب إلى الشائب الساحر الذي يتبلَّج وجهُه مع غموض على نور المشاعل الخفَّاقة، فلا يدركونه جيدًا.

والمستقبلُ وحده هو مصدرُ غمومه تلك، وليس في الماضي ما يخافه، وإذا نُشرت مذكِّراتٌ ورسائلُ كان له بذلك حافزٌ، فلما اشترى أحد المصارف رسائلَه لحساب مانتوفِل قال: «لقد نسيتُ — في الحقيقة — ما تشتمل عليه هذه الرسائل، وهذا إلى أنني لم أكتب رسالة يؤسفني نشرها.»

وهذا صحيح، فهو لم يرغب في كتمه تغييرَ رأيٍ أو حزب، وهو لم يأتِ قط أيَّ عرضٍ لمبادئ، ومما سرَّه أن قرأ رسائل رون عنه بعد طبعها، ولديه مجموعة عن صُوَره الهزلية، فكان يبتهج بأن يتلوَ على ضيوفه قولًا عن فمه الصارم وعينيه الغاضبتَين وحاجبيه الحادَّين، ولكن لمَّا عُرض عليه نموذجٌ لتمثال له أيامَ طلبه بحث في الملامح كعالمٍ بالفراسة، فقال: إن المتفنن أخطأ في عرضه أصيلًا ودِبلُمِيًّا في وقت واحد، وقال إن شفته السفلى أغلظُ من شفتِه العليا على الدوام، فكان ذلك آيةً على الثبات، وقال إن رقَّة شفته العليا علامة على الطموح إلى السلطان.

وإذا لم تُتَحْ له فرصة للمشاكسة ولم يجدْ موضوعًا للسخرية، وإذا لم يجلس وحيدًا مستمعًا من بعيد إلى ضوضاء عمله؛ لم يجد في ذلك ما يحمله على المباهاة باتساع بصيرته، وإنما يُذعَر من مغامرته، وفي ذلك يقول: «كانت حياتي بأسرها مضاربةً جريئة بمال الآخرين، وما كنت أُبصِر هل يُكتَب النجاح لخِططي، ويا لَعظم ما أشعر به من مسئولية في ذلك اللعب بمال غيري! ولا أزال أقضي لياليَ أرق عندما أفكِّر في إمكان سَير الأمور في الماضي على وجه خلافِ ما وقع.»

ويشتدُّ غمًّا في أثناء مرَض حَنَّة الأخيرة، ويودُّ لو يموت معها، فقد قال: «لا أرغبُ في الموت قبل زوجي، كما أنني لا أرغب في البقاء بعدها.» ويأتي بها إلى فارزين وفقَ طلبها، وهي تشكو من ضيق النفَس فلا تكاد تتحرك، وبسمارك مع أنه صار يُملي على غيره ما يُرسل من كُتُب قليلة، ومع أنه عاد لا يكتب من الرسائل بيده إلا نادرًا؛ خَطَّ بقلمه الأسطر الآتية بعد موت أخيه مرسِلًا إياها إلى أخته: «يجب ألا أزيدَ سوداء حَنَّة بأن أدَعَها تلاحظ ما فيَّ من حُزن، فهي منهوكة القوى، وتتوقف حياتُها على المؤثِّرات النفسية، واليوم لدينا أخبارٌ مكدِّرة عن بيل لإصابته بداء المفاصل، وفي الماضي كان يسُرُّني دومًا أن أذهب إلى فارزين، وأمَّا الآن فلا أكاد أوطِّن نفسي على السفر إليها لولا وجود حَنَّة فيها، وأتمنى في الوقت الحاضر أن أُقيم بمكان لا أغادره إلا إلى القبر، والعزلة هي ما أبحث عنه … من أخيكِ المخلص الوحيد التعب من الحياة: فون بسمارك.»

وفي الخريف تموت حَنَّة بالغةً السبعين من عُمرها، وفي الليلة السابقة استطاعت حَنَّة أن تُكلِّمه حول المائدة عند تناول العشاء، وفي الصباح ذهب إلى غرفتها فوجدها متوفَّاة، ويجلس رجل القوة هذا حافيًا لابسًا ثيابَ النوم ويبكي كالطفل، فقد خَسِر شيئًا لا يُعوَّض، وكان هذا من ملاءمة ثنائية حياته ما قابل معه في المساء نفسِه بين نهاية سلطانه السياسيِّ ونهاية حياة هذه الصادقة، «وهذه نهايةٌ أعظم مما في سنة ١٨٩٠؛ لِما لها من الأثر العميق في حياتي، ولو بقيت في الخدمة لدفنتُ نفسي في العمل، وقد ضُنَّ عليَّ بتلك التعزية.»

وفي اليوم التالي يأخذ وردة من إكليل، ويذهب إلى خِزانة كتبه، ويتناول مجلدًا من التاريخ الألمانيِّ ويقول: «قد يُغيِّر هذا أفكاري».

والآن يوجد محلٌّ خالٍ في حياته، ولا شيء يستطيع أن يقوم مقام تلك النظرة الهادئة المخلصة التي كان يمكنُه أن يغوص فيها حينما يودُّ أن ينسى لبضع دقائقَ مناضلاتِه وإهاناته، واليوم يسأل أخته عن سبب سَكَنها بعيدةً منه: «وهكذا يصنع ولداي اللذان نشدَا الاستقلال عن ظلِّ المنزل الأبويِّ، وابنتي المحبوبة ماري هي عندي … وهي إعارةٌ لديَّ … وكان كلُّ ما بقيَ لي هو حَنَّة وصِلتي بها وقلقي الدائم حول صحتها وما أحملُه من شكر لها منذ ثمانية وأربعين عامًا، والآن كلُّ شيء باطلٌ، والآن كلُّ شيء خالٍ، وهذا الشعور جائر، ولكن ما بيدي حيلة، وأعذل نفسي لِما كان من كفراني تجاه حُبِّ الشعب وشُكرانه لِما قدَّمت إليه من خِدَم، وإذا كنتُ قد تمتعت في السنين الأربع الأخيرة بذلك الحبِّ والعرفان بالجميل فلِتمتُّع حنَّة بهما أيضًا، واليوم خَبتْ تلك الشعلةُ فيَّ، فأدعو الله ألَّا يُطيل عمري … اغفري لي شكوايَ هذه يا أختَ قلبي الصغيرةَ، فلن أعيش كثيرًا.»

وبسمارك في عزلته تعودُ أفكارُه إلى عَهْد شبابه، فهو لم يَلبثْ أن صار يقصُّ أمورًا لم يُحدِّث بها أحدًا قبل الآن، ومن ذلك: «كنتُ في السنة السادسة من عمري عندما علمت نبأَ موتِ نابليون، وأحدُ المنوِّمين هو الذي أخبرَ أمي بذلك، وقد أنشد أمِّي قصيدةً إيطالية تبدأ بكلمة: كان!» وهكذا يبدو أول القرن في آخره، وهو يتكلم عن الماضي كما لو كان شِعرُ مانزوني٣ يدفعُه إلى القول لنفسه: «كان!» وممَّا حدث ذات مرة أن تكلَّم بسمارك الشيخُ عن كنيبهوف، فكتب يقول لصهره:

عزيزي أوسكار! لقد بلغنا من الكِبَر ما لا نطمع معه أن نعيش طويلًا، أفلا نستطيع أن نجتمع ونتحادث مرةً أخرى قبل حِلِّ تلك الخاتمة؟ مضت ستٌّ وستون سنة أو سبعٌ وستون سنة على الزمن الذي كنَّا في الكلية قد اجترعنا فيه الجِعة من القِنِّينة لأول مرة، وكان هذا على الدَّرَج القريبة من الطبقة الثالثة، فدَعْنا نشرب معًا قبل فوات الأوان، أودُّ أن أسمع صوتك مجدَّدًا قبل أن … ألَا تركبُ القطار قبل مغادرة برلين؟ ولِمَ لا تركب قِطار همبرغ بدلًا من قطار ستيتِّن؟

ويظلُّ هذا الكتاب على مائدته بسبب لطخِ مِداد، فلم يُرسِلْه إلا مؤخرًا، فبسمارك في وحدته هذه يشتاق إلى عِشرة رجلٍ أهمله مدى حياته، والآن بعد موت زوجه وعند بُعدِ ولديه يريد أن يسمع صوت وِداد، وهو وإن بقي واقعيًّا عادًّا للسنين ذاكرًا المكان الذي شربَا فيه الجعة أيام الطلب؛ يُشعرنا بأنه عاد لا يتبسم عندما يكتب.

وهل ذهب نشاطه الذهنيُّ بين تلك الكروب؟ وهل غفل عن الريخ؟

كلَّا، لم يَغِبْ عنه ذلك، ولم يَذهل عن أعدائه الحاكمين؛ ففي فصل الخريف من سنة ١٨٩٦ بدتْ نتائج عدم تجديد المعاهدة الروسية؛ فقد سافر القيصر إلى باريس، وجُنَّتْ فرنسة ابتهاجًا بروسية، ويقرأ بسمارك في الصحف الألمانية أن قَطْعَ الصِّلات بروسية من زلَّاته فيشتاط غيظًا، ولا غروَ؛ فهو يعرف جيدًا مَن هم المسئولون عن التصامِّ عن إنذاراته، ولن يَدَع أحدًا يدعوه هادمًا ما بقيَ حيًّا، ويستلُّ سيفه خوضًا لغِمار معركة قاتلة، ويدلُّ الشعبَ الألمانيَّ على أولئك الذين يحملون تبعة عزْل ألمانية في الحقيقة، ويكتب في جريدته:

كانت تانك الإمبراطوريتان حتى سنة ١٨٩٠ متفقتَين اتفاقًا تامًّا على أن إحداهما إذا ما هوجمت ظلَّت الأخرى محايدةً ساعية إلى الخير، فلما اعتزل الأمير بسمارك لم يُجدَّد هذا الاتفاق، وإذا كان ما لدينا من أخبار دقيقًا حول ما حدث في برلين وجدنا أن الكونت كابريفي هو الذي رَفَض دوامَ ذلك الضمان المتقابل، لا روسية التي ساءها ما وقع من تغيير في المستشارية والتي كانت مستعدةً لصُنع ذلك مع ذلك، وبهذا يُفسَّر أمرُ المرسيلياز في كرونشتاد، والذي نراه هو أن خطأ سياسة كابريفي هو الذي أسفر — للمرة الأولى — عن تأليف ما بين إمبراطورية القيصر المطلقة والجمهورية الفرنسية.

وتُلقي أوروبة السمع، ويَئِنُّ الألمان، وما كان المجاهدُ الشيخ ليجرح الإمبراطور بأبلغَ من تلك الطعنة النجلاء، وتُجيب جريدة «رايْخسانْزِيجِر» عن ذلك متلعثمةً: «إن أمورًا دِبلُميَّة كالتي هي موضوع بحث، هي من أسرار الدولة التي يجب حفظُها حفظًا وثيقًا، وإن كتْمَها بدقة هو واجب دوليٌّ، وعكس ذلك يُصيب مصالحَ الدولة بضررٍ كبير.» ويكتب آخرون عن الخيانة العظمى وعن السجن مع الأشغال الشاقة وهلمَّ جرًّا، ويُبرِق الإمبراطور وِلْهِلْم إلى الإمبراطور فرنسوا جُوزيف إبراقَ الظافر بقوله: «والآن تَعرِف — كما يَعرِف جميع العالم — علَّة عزلي الأميرَ.»

ومع ذلك يرسل الإمبراطور تريبيتْزَ إلى الأمير في الصيف آملًا أن يقول بسمارك شيئًا مفيدًا للأسطول، ولكن المستشار السابق يركب متن العناد، فهو بدلًا من أن يُجيب عما يُسأل عنه، يُعرِب عن رأيه في الإمبراطور «غير متحفظ كثيرًا»، فيُضطرُّ تريبيتْز إلى إراءته بِزَّتَه الرسمية، ويقول بسمارك مستنتجًا: «بلِّغ الإمبراطور أنني لا أرغب في غير بقائي وحدي وفي غير الموت مستريحًا.» بيدَ أن العاهل الشابَّ لم يدعْه وحده على ما أهانه به هذا الشائبُ؛ فالإمبراطور يشعر دومًا بانجذابه إلى الشيخ الساحر، فيزوره قبل موته بستة أشهر مع حاشية كبيرة، وذلك بلا دعوةٍ وللمرة الثانية.

والشيخُ يجلس أمام بيته على كرسيِّه ذي العجلتين، والشيخ يدَعُهم يمرُّون أمامه عارضًا لجميعهم، فلمَّا مدَّ لوكانوس إلى بسمارك يدَه التي كان قد سلَّم بها كتابَ العزل إليه «جمد الأمير كالتمثال، فلم تتحرك عضلةٌ في وجهه كما لو كان شاخصًا إلى ثُغرة في الفضاء.» ويقفُ لوكانوس أمامه مُختلجَ الوجه، ثم يدرك لوكانوس الأمرَ وينصرف، ويفكر المضيِّف حول المائدة في توجيهه آخرَ إنذار إلى ضيفه وخصمه الذي لن يراه مرةً أخرى، ويستوحي اعتزازَه التقليديَّ فيبدأ للمرة الأولى بعد سبع سنين بمحادثة الإمبراطور حول السياسة العالمية، ويحوِّل وِلْهِلْم الحديثَ إلى مزاح، ويحاول بسمارك الرجوعَ إلى حيث وصل، ويأتي الإمبراطور بنكتة أخرى، ويُذعَر رجالُ البلاط، ويقول الشابُّ مولتكه همسًا: «يا لَلهول!»

ثم يتحول بسمارك إلى نبيٍّ، ويشعر بسمارك بأن الساعة تمضي، وبأن حياته تنقضي، وبأنه لن يُبصر الشابَّ الذي اغتصب منه إمبراطوريته مع أنها ثمرةُ جهاده في حياته، ويرى بسمارك أن هذا العاهل سيُضيع البلاد ويخسر تاجه — عاجلًا كان ذلك أو آجلًا — وأن من الواجب أن يُخبر بالخطر الذي يسير إليه قُدُمًا، فربما يهزُّه صوتُ المحتضَر، وهنالك يقول بسمارك بغتةً وبصوتٍ يسمعه كلُّ مَن كان حول المائدة: «يا صاحب الجلالة، يمكنكم — لا ريب — أن تصنعوا ما تودُّون ما دام هؤلاء رجالَكم، ولو حدث غيرُ هذا لتغيَّرت الأمور.» ويبدو الإمبراطور أصمَّ، ويُثرثر الإمبراطور وينصرف.

ويُرسل القطبُ السياسيُّ الشيخُ إنذاراتِه ونبوءاته تباعًا أمام خُلَصائه، فيؤثِّر هذا في كلِّ واحد من هؤلاء، ومن ذلك قوله:

إذا ما أُحسنت سياسة البلاد أمكن الحكومةَ اجتنابُ الحرب القادمة، وإذا ما أُسيئت سياستُها دامت تلك الحرب سبع سنين على ما يحتمل، والمدفعية هي التي تُقرِّر مصيرَ الحروب القادمة، ويمكن أن تُستبدل المدفعية بالجيوش لدى الضرورة، فيجب صنعُ المدافع في أيام السِّلم، وقد تُعلن روسية النظامَ الجمهوريَّ في وقت أقرب مما يُظن، والعمل أكثر نيلًا للانتصارات في الكفاح بينه وبين رأس المال، ولا يلبث هذا أن يحدث في كلِّ مكان يكون للعُمَّال فيه حقُّ التصويت، وسيكون النصر النهائيُّ الحاسم للعمَّال.

وما وَجَّهه بسمارك إلى ألمانية من إنذارات فجميعه وليد شجاعة وإقدام، وقد بلغ بسمارك من صفاء النفس ما صار يمكنه أن يتهم معه نفسَه، ومن قوله: «قد يكون الوجهُ الذي قمتُ به بوظيفتي علةَ ما يُبصَر في ألمانية من عدم حزم، وقد يكون ذلك سببَ ما ينمو في ألمانية من الوصولية والمَلَق على حساب الكرامة، وكل شيء يتوقف على تقوية الرَّيشتاغ، وهذا لا يتم إلا بانتخاب نُوَّاب مطلقي الاستقلال، والرَّيشتاغ ينحطُّ، فإذا داوم على انحطاطه بدَا المنظرُ قاتمًا لا ريب، وأعتقد أن الأزماتِ القادمةَ أشدُّ خطرًا من كل ما حدث، ولم أزلْ أرى ألَّا يُطاع أحدٌ خيرٌ من أن تُحاوَل قيادةُ الآخرين. وإن شئتم فقولوا إنني كنت ذا رأي جمهوريٍّ، ولعلَّ الله يهيئ لألمانية دورَ مجدٍ بعد دور بَوار، ولا مراء في أن ذلك سيقومُ على أساس جمهوريٍّ.»

١  جدف على الله: تكلم عليه بالكفر والإهانة.
٢  الألمانية.
٣  مانزوني: شاعر وكاتب روائي إيطالي، وُلد ومات في ميلان (١٧٨٥–١٨٧٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤