الفصل الخامس

ترى في اليوم التالي رجلَين شائبَين في غرفة ذات نورٍ غبشٍ يُرتِّبان أوراقًا، وترى أحدهما يُخرج غُلُفًا من الخزائن والمحافظ، وترى الآخر يقرأ العناوين ويجمعها أكداسًا أكداسًا، والرجلان هما بسمارك وبوش، ويقول بسمارك لصاحبه: «سأكتب مُذكِّراتي، وستساعدني على ذلك، فسأستقيل، وأستعدُّ لوضْع متاعي في عِيابي،١ ولا بد من إرسال أوراقي في الحال، وذلك حَذَرَ حجزها إذا ما بقيت هنا وقتًا آخرَ … والحكايةُ هي أمرُ ثلاثة أيام، أو ثلاثة أسابيع على ما يحتمل، ثمَّ أنصرف لا محالة؛ فالوضع أصبح لا يُطاق، ولكنني لا أعرف كيف أُخرِج هذه الأوراق بأمان، وقد تُرسَل إلى بيتكم، ولكن كيف؟»
بوش : يمكنني أن آخذها رِزَمًا صغيرة يا صاحب السموِّ ثم أُسلِّمها إلى هِيهِن.
بسمارك : ومَن هو هِيهِن؟
بوش : هو رجلٌ يوثَق به.
بسمارك : يمكنني أن أرسلها إلى شُونْهاوْزِن ثم تذهب فتُحضِرها من هنالك، ولا تتوانَ في استنساخ أهمِّها، ثمَّ احفظ النسخ إلى إشعارٍ آخر، وهذه هي رسائلي إلى الإمبراطور وِلْهِلْم، وهذه هي رسالة التوصية التي أخذتُها من فردريك وِلْهِلْم حينما ذهبتُ إلى فِيَنَّة، قُل لي ما هو عُمرك؟
بوش : تسعٌ وستون سنة؟
بسمارك : وَيْ، يمكنني أن أتمتع بحياة الريف حتى الثمانين من عمري.

ويمضي يومان فيأتي بوشُ بالنُّسَخ، فيقول له بسمارك: «أعِدْها معك، لا؛ فالرأي ألا يُفعَل هذا، وماذا يحدث لو رَأَوْك تجيءُ وتخرج حاملًا غُلُفًا كبيرة، تعالَ وانظرْ إلى هنا، فهذه هي أقومُ طريقة.» ويضعان الأوراق في صندوق بين بعض الخرائط حيث لا يُلاحظها أحدٌ — كما يظهر.

وهكذا يُغادر بسمارك ذلك البيت الذي سيطر منه على البلاد، وهكذا يغادر بسمارك ذلك البيت الذي شاد منه إمبراطورية، وهكذا يغادر بسمارك ذلك البيت كأنه مؤتمِرٌ يتعقبه أعداؤه فيودُّ أن ينجوَ ظافرًا بكنزه الأخير؛ أي بأوراقه التي سينتفع بها في منفاه والتي سيتخذها سلاحًا ضدَّ أعدائه، ولا تجد في الديوان، الذي ظَلَّ رئيسًا له زمنًا طويلًا، شخصًا واحدًا يستطيع أن يعتمده فيودِعه ما هو خاصٌّ به! وهل من مأمنٍ بعيد من العيون؟ هنالك يفكِّر في شُونْهاوْزِن لِما لا تلوح له فردرِيكْسرُوه مكانًا أمينًا، ومن ثمَّ ترى كيف يذكر اسم مسقط رأسه للمرة الأولى بعد سنوات كثيرة، ويستدعي صِحافيًّا؛ أي رجلًا كان يمكنه أن ينتزع منه نبأ في الحين بعد الحين (لأن بوش كان ذا نفوذ كافٍ يستطيع به أن يُؤذيَ بسمارك)، ويُمِرُّ هذان الشيخان تلك الغُلُف التي لا تُقدَّر بثمن ذهابًا وإيابًا، ويُخيَّل إلى بوش أن تلك الوثائق مما يُفيده إذا كتب مُذكِّراتِه الخاصة، ومن المحتمل أن يذكر بسمارك مصيرَ أرنيم الذي حُكم عليه — بتحريض منه — بالسجن مع الأشغال الشاقة؛ لأنه رفض إعادة بعض أوراق الدولة.

وفيما كان ذلك العمل السرِّيُّ يسير إذ يحضُر جنرالٌ بهيٌّ، إذ يحضر رئيس الغرفة العسكرية، فيقول إنه مُرسَل من الإمبراطور ليسأل كيف يمكن إلغاء النظام الوزاريِّ الذي سنَّه المرحوم الملك فردريك وِلْهِلْم الرابع في سنة ١٨٥٢؟ فيُجيب بسمارك بغلظة قائلًا إن ذلك النظام سيظلُّ نافذًا قاصدًا حمل الملك على عزْله.

ويَصِلُ الكونت بولس شُوالُوف في اليوم التالي، ويأتي من سان بطرسبرغ مفوَّضًا تفويضًا تامًّا في تجديد المعاهدة الروسية لستِّ سنواتٍ بدلًا من ثلاث سنوات، وهذا ما سعى إليه بسمارك منذ سنة، وسينتهي حكمُ المعاهدة في شهر يونيو، وتتوقفُ سلامة الإمبراطورية على راحة بالها من ناحية الشرق، وكان الإمبراطور الشابُّ قد وافق على ذلك التجديد، وكان القيصرُ على علمٍ تامٍّ بضمن الأمر، فكتب على هامش إحدى وثائقِ الدولة يقول: «ومن أجل بسمارك ينطوي اتفاقُنا الودِّيُّ على ضمان بعدم وجود أيِّ تفاهم مكتوب بيننا وبين فرنسة، وهذا ما يُهمُّ ألمانية إلى الغاية.» والآن يهُزُّ بسمارك كتفيه، ويقول للرسول الروسيِّ المذعور إن ما أُشيع من خبر قرب اعتزاله صحيحٌ، وإنه يمكنُه أن يُسوِّيَ الأمر مع خلفه المجهول، وهنا نُبصِر أولى نتائج سقوط بسمارك وأخطرِها، فقد تبودِلت البرقيات مع سان بطرسبرغ وصارتْ روسية غيرَ مطمئنةٍ إلى سياسة ألمانية بعد أن أصبح تسريح ذلك القطب السياسيِّ الممتازِ قاب قوسين أو أدنى، ويرفض القيصر تجديد المعاهدة.

وفي ذلك الصباح، وفَور معاهدة شوالوف للمستشارية، يعود الجنرال هَنكِه حاملًا طلبًا حاسمًا من الإمبراطور قائلًا بوجوب إلغاء النظام الوزاريِّ القديم، ويصعبُ على الجنرال أن يملك صوته وهو يقول: «وإلَّا فإنَّ صاحب الجلالة ينتظر أن تُقدِّموا إليه استقالتَكم في الحال وأن تقابلوه شخصيًّا في القصر في الساعة الثانية بعد الظهر ليقبل الاستقالة.»

«العالم ينهار!» هذا ما قاله الكردينال في الفاتيكان بعد معركة كُونِيغْرَاتْز، وما كانت هذه الكلمة لتدورَ في خَلَد بسمارك طرفة عين، وسيقول ما يفكر فيه حول المسألة بعد قليل، والآن يُجيب عن ذلك هادئًا: «لستُ من حسن الصحة ما أغادر معه المنزل، وسأكتب.» ويُخيَّل إلى هَنْكِه أن بسمارك ثوريٌّ بين سحابة حمراء وينصرف، ولمَّا يمضِ قليل وقت حتى أخذ الأمير بسمارك من الإمبراطور مذكِّرة غير مختومة جاء فيها: «تدلُّ تقارير قناصل ألمانية في روسية دلالةً واضحة على أن الروس يقومون بحركات عسكرية استعدادًا لمحاربتنا، فمن المؤسف جدًّا ألا تكون هذه التقارير قد بُلِّغت إليَّ، وكان يجب عليكم أن توجهوا نظري إلى هذا الخطر الهائل الذي يهددنا! وقد أَنَى لنا أن نُحذر النمسويين ونتخذ ما يجب من تدابير الدفاع … وِلْهِلْم.»

والواقع أن هذه التهمة مختلفة، فليس في الأفق مثلُ ذلك الخطر، وإنما الحافزُ إلى تلك المذكِّرة هو الحرصُ على الانتقام الشخصي تجاه ذلك الخزي القاتل الذي أصاب بسمارك به وِلْهِلْم بذلك التقرير عما قاله قيصر روسية فرَوَتْه سفارة لندن، ولا شيءَ يلائمُ بسمارك أكثر من كتاب القذف ذلك الذي أُرسل إليه بلا غلاف ولا عنوان، وأول شيء يجب عليه أن يكتبه هو أن يردَّ عنه «تهمة الخيانة العظمى»، ويأبى الإمبراطور قبول الجواب، ويُعيده بلا تعليق، وبسمارك الآن في وضْع يعزو فيه سقوطه إلى أسباب سياسة عالمية لم يُعارضه في ميدانها أيُّ حزب حتى الآن.

وبسمارك بعد الظهر من ذلك النهار يشرح لمجلس الوزراء كيف نشأ الخصام، وبسمارك يختم كلامه العظيم بقوله: «وعلى ما كان من ثقتي بالتحالف الثلاثيِّ لم يَغِبْ عن بالي إمكانُ حبوطه ذات يوم؛ وذلك لأن النظام الملكيَّ في إيطالية غيرُ ثابت الأساس، ولتهديد حزب الشمال الإيطاليِّ ما بين إيطالية والنمسة من صِلة؛ ولذا لم أدخر وُسعًا في عدم هدم الجسر بيننا وبين روسية … وإني لِما يمازجني من ثقة بمقاصدَ القيصر الودية لا أستطيع أن أعمل بما يودُّ أن يوجهني به صاحب الجلالة في هذا المضمار، وأما قوانين حماية العمال فلا تستحقُّ أن يُجعل منها مشكلةٌ وزارية، وإذا كنتُ لا أستطيع أن أُدير دَفَّة السياسة الخارجية كما أودُّ انصرفتُ، وهذا يلائم رغائب الإمبراطور.» ويُوَكِّد بسمارك حسنَ صحته وقدرتَه على العمل، ويُصرِّح بأن العامل الوحيد في اعتزاله هو إرادة عاهل يريد أن يتسلَّم زمام الحكومة بيده.

ويتوقف بسمارك مرة أخرى، وهل يدركون معنى فقْدِ بسمارك وزيرًا للخارجية؟ وهل يُعربون بالإجماع عن عزمهم عن الاستقالة مؤثرين في الإمبراطور بذلك؟ وهم إذا فعلوا ذلك يكونون قد حذَّروا مولاهم الشابَّ من المستقبل، ويكونون قد أتَوْا عملًا يستحقُّ الذكر في التاريخ، ولكنك لم تسمع غير تمتمات، ومايْباخُ وحده هو الذي نطق بكلمته المهمة: «سيكون اعتزال المستشار كارثة قومية، وعلينا أن نَحُول دون اعتزاله، ولننصرف معه جميعًا، وهذا الذي سأفعله مهما كان الأمر.» ويسير الجدال سيرًا وديًّا ذات ساعة، ويُفَضُّ الاجتماع مع الاحتجاج على اعتزال بسمارك، فلما حَلَّ المساء اجتمع زملاء بسمارك مرةً أخرى، «وعدلوا عن فكرة الاستقالة الشاملة لمخالفتها تقاليدَ بروسية».

وبسمارك بعد تلك الجلسة يأمر بشدِّ حِصانه ويخرج من المنزل راكبًا وإن لم يكن من عادته في مثل ذلك الحين من حياته وفي مثل ذلك الفصل من السنة؛ أن يأتيَ مثل ذلك العمل، وهو قد صنع ذلك؛ لكي يُريَ الإمبراطور مقدار الصحة في قوله له بواسطة هَنْكه: «لستُ حسنَ الصحة …» ولكي يَعْجُم عُود أهل برلين — على ما يحتمل — ولكن لم يهتف له أحدٌ، ولمَّا عاد بسمارك إلى البيت وجد جوبيتر٢ قد أرسل إليه رسولًا آخر في غيابه، وقد عاد إليه رئيس الديوان المدنيِّ لوكانوس في المساء، ويبدو هذا الرسول زاويًا ما بين عينيه جَزَعًا، وتقوم رسالته على سؤاله بأمر صاحب الجلالة عن سبب عدم تقديمه استقالتَه بعدُ، وهل يضرب بسمارك المائدةَ بجُمْع كفِّه الآن؟ كلَّا، وإنما يجيب عن ذلك بأدب: «يمكن الإمبراطورَ أن يعزلَني متى أراد … وإني مستعدٌّ أن أضع التوقيع الثاني من فوري على مرسوم عزلي، ولكنني أحمِّل الإمبراطور مسئولية تسريحي، وسأنشر الأسباب على الجمهور؛ ليُدرك الحقيقة. ولا بد لي من وقت أُسوِّغ به استقالتي أمام محكمة التاريخ بعد جهاد ثمانٍ وعشرين سنة لم يَخْلُ من فائدة لبروسية وللريخ.» ثم عَقَب ذلك حديثٌ كاد يفقد فيه رباطةَ جأشه، ويُملِي بعد ذلك صيغةَ استقالته ويصححها ويهذبها في الصباح التالي ويُرسلها إلى القصر، وفي تلك الوثيقة يُبيِّن أوجه العراك الرئيسة ويختمها بكلمة المعلِّم الآتية:

إنني بعد النظر إلى إخلاصي في خدمة البيت المالك وخدمة جلالتِكم وبعد النظر إلى الوجه الذي لاءمتُ به وضعًا اعتقدتُ دوامه حتى الآن، وجدتُ من المؤلم جدًّا أن أترك علاقتي المعتادةَ بجلالتكم وبسياسة الرَّيخ وبروسية العامة، ولكنني بعد أن رُزتُ بدقة مقاصدَ جلالتكم التي لا بد لي من تنفيذها إذا بقيتُ في منصبي، رأيتُ أنه لا معدل لي عن الالتماس من جلالتكم خاشعًا أن تتفضلوا عليَّ بقبول استقالتي من منصب مستشار الرَّيخ ومنصب وزير الخارجية مع مَنْحي راتبَ التقاعد القانونيَّ، وإني بعد النظر إلى ما كان من انطباعات في الأسابيع الأخيرة القليلة أجدُ مع الاحترام أن تقديم هذه الاستقالة يناسب رغائب جلالتكم وأرى أنها تقابل بالموافقة الكريمة، وكان يمكنني أن أقدم استعفائي منذ زمن طويل إلى جلالتكم لو لم أعتقد رغبتَكم في الانتفاع بخبرة خادمِ آبائكم المخلص، والآن حين يساورني يقينٌ بأنه لا حاجة لجلالتكم بذلك، يمكنني اعتزالُ الحياة السياسية غيرَ خائف من حكم الرأي العام بأن ذلك وقَع قبل الأوان.

فون بسمارك

وعلى ما أبداه بسمارك من احتجاج كثير أنعم عليه الإمبراطورُ عند اعتزاله بلقب دوك لوينبرغ؛ أي بشرف أراد الإمبراطور فردريك أن يمنحه إياه فوُفِّق في رفضه آنئذٍ، ولكن المستشار المعتزل استطاع بعد جُهد كبير أن يتخلَّص من منحة مشبِّهًا إياها بالمكافأة التي تُعطَى لذوي الجِدِّ من موظفي البريد عند اعتزالهم الخدمة، ويودُّ الإمبراطورُ أن يعتقد الجمهور كونَ اعتزال المستشار بسمارك منصبَه نشأ عن عواملَ صحية مُمسِكًا عن إرسال نصِّ كتاب الاستقالة إلى الصحف مقتصرًا على ما وجَّهه إلى بسمارك من عبارات الشكر لخدَمِه السابقة، مصيبًا نجاحًا في أعين الشعب على هذا الوجه في بدء الأمر، ويحاول الإمبراطور في الوقت نفسه أن يحتفظ بهربرت في الخدمة، فيطلب من بسمارك أن يستعمل نفوذه لدى ابنه هذا في الأمر، غير أن بسمارك يجيب عن ذلك على طريقة فالنشتاين بقوله: «إن ابني بلغ سنَّ الرشد.» وبسمارك يُسِرُّ إلى بعض خلصائه بأن الحافز إلى ذلك هو رغبتُه في عدم الإذعان للإمبراطور، وبسمارك يقول «ومَن يشعرْ بغرق السفينة لا يَدَعْ ولده فيها.»

وتشتدُّ فجيعة هربرت في ذلك الحين، وهربرت لو خلف أباه بعد موته منصبًا وكان موضع حُظوة لدى الإمبراطور لاستطاع أن يبدوَ رجلًا سياسيًّا ذا قيمة، والآن على هربرت أن يُقاسم أباه نصيبه في الانزواء فينصرف، والآن يودُّ هربرت فِعْل ذلك لمشابهته أباه في الشعور بالشرف، وهربرت يخبر الإمبراطور في ذلك المساء بما اتخذته روسية من قرار في رَفْض تجديد المعاهدة، ومن يُنعِم النظر في فحوى هذا النبأ يجدْه من إملاء الأب الشائب؛ فقد جاء فيه: «في الأمس عَلِم الكونت شوالوف أن جلالتكم لا تتردد في تسريح الأمير بسمارك، فلم يتمالك القيصر إسكندر أن قرَّر الامتناع عن تجديد المعاهدة السريَّة ما دام يرى المناقشة في أمر سريٍّ كهذا متعذرة مع مستشار الرَّيخ الجديد.» ويكتب وِلْهِلْم في أعلى تلك الرسالة كلمة: «أوافق على تجديد المعاهدة.» كما يكتب في أسفلها كلمة: «لماذا؟» ويأتي هربرت بإيضاح أوفَى من ذلك، ويأتي تعليق آخر مع تكرار كلمة «لماذا؟»

ولا شيءَ كهذا الاستفهام المكرَّر يدلُّ على عدم معرفة وِلْهِلْم درجةَ ما لاسمِ بسمارك من النفوذ في أوروبة، والآن يُذعَر وِلْهِلْم، فيُرسل مَن يُوقظ شُوالُوف في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل راجيًا أن يُقابلَه في الساعة الثامنة صباحًا، وفي هذه المقابلة يُوَكِّد وِلْهِلْم لشُوالُوف أنه يودُّ تجديدَ المعاهدة، وهنالك يفعل شُوالُوف كُلَّ ما يستطيعه تنفيذًا لآخر ما رَغِب فيه بسمارك ونيلًا لتفويضٍ من القيصر في تجديد المعاهدة مع تغيُّر الوضع.

وفي تلك الأثناء يقرأ الإمبراطور الصحفَ فيجد أن جميع الأحزاب وجميع طبقات الأمة تستحسن ما تمَّ؛ «فالأمة هادئة مع وجْدٍ، ولكن الأمة تنظر غير وجلةٍ إلى انصراف ذلك الرجل القوي من الوضع الذي عاق به تقدُّم البلاد الداخليَّ، وستذكر الأمة يوم ١٨ من مارس سنة ١٨٩٠ من الأيام التي يُفكَّر فيها مع السرور»، ولم يُعلق مجلس النواب البروسيُّ أيَّ تعليق على البلاغ الرسميِّ باعتزال بسمارك، ويعمُّ الفرحُ رجال البلاط وقُوَّادَ الجيش لانصرافه.

ويروي هُوهِنلوهِه عن أحد الجنرالات أنه «كان من المرح كالرجل الساذَج المثلوج٣ الفؤاد الذي لا يستطيع الآن أن يُعبِّر عما في نفسه حُرًّا طليقًا، فشعور طربٍ كهذا كان عامًّا، وعلى ما كان من شمول نفوذ الأمير كان يمازح الناسَ حسُّ الضغط وحسُّ التكمش، فأصبحوا من الانتفاخ ما يشابهون به الإسفنج الجافَّ بعد أن كان مغموسًا في الماء.» ولم تتنفس الأمةُ الصُّعداءَ بمثل ذلك منذ قرن، منذ موت فردريك الأكبر.

وفي تلك الأيام لم يعرف أحدٌ في ألمانية تقريرَ مصير البلاد من قِبل ثلاثة رجال، وإن شئتَ فقُل من قِبل رجل واحد في الحقيقة، ولمَّا زوَّد القيصرُ شُوالُوفَ بسلطات تامة وجد شُوالُوف هذا بعد تسريح بسمارك بخمسة أيام تغيُّرًا في الأحوال الروحية، وأراد بسمارك صيانةَ المعاهدة من دسائس برلين فاقترح بواسطة ابنه أن توقَّع في سان بطرسبرغ، وأراد هربرت إحضارَ المعاهدة من بين المحفوظات السرية فلم يجدْها لِما سبق من نقْل هُولْشتاين إياها من مكانها، ويثور سكرتير الدولة هربرت ويُعزِّر المسجل ثم البارون، ويقول: «كان يمكنكم أن تجتنبوا هذه الغباوة! يظهر أنكم تعدُّونني رجلًا ميتًا قبل الأوان!» ويراه هُولْشتاين رجلًا خطِرًا، وما الذي يَحفِز هذا البارون كثيرًا إلى تهييج جميع الناس ضدَّ روسية؟ «ولا يُنتظر خيرٌ من المعاهدة، وهي لو أُذيعت لعُزِينا إلى النفاق، ولو نُفِّذت المعاهدة لوقع صِيتنا ومقامنا الاجتماعيُّ تحت رحمة روسية، ومن مصلحة روسية أن يشيعَ أمرها لما يؤدي إليه أقلُّ شكٍّ فينا من ابتعاد العالم عنَّا، ثم يمكن روسية أن تُمليَ علينا صِلاتِنا في المستقبل، والشرط الأول هو: «أنني أريد الاشتراك مع عميلي السابق ﺑ… ومعه فقط»، والآن أتعرفون ما هو الوضع؟»

والحقُّ أن هذه الإفاداتِ الظرفيةَ غيرُ صادقة، فكما أن بسمارك أطلَع الكونت شُوالُوف على معاهدته الدفاعية الأولى ضدَّ روسية كان مستعدًّا في كلِّ وقت لإطلاع النمسة على المعاهدة الثانية، وإنما الذي منعه من صُنْع هذا هو ما أبداه القيصر من رغبة في الكتمان، ومما يتعذر إدراكه على رجل له ما للقَزَم من طبيعة كهُولْشتَاين وشركائه هو إمكانُ الجمع بين الشجاعة والحيلة، وهؤلاء الناس الذين لا يزيد ذكاؤُهم على ما لدى المتغطرس هم من المتلبسين بالفضيلة والمنتحلين للصراحة، وإذا سألت عن هُولْشتاين وجدتَه ذا حقدٍ مقنَّع وعزةٍ مكلومة، ووجدتَه يهدف إلى جَعْل عودة بسمارك إلى السلطان أمرًا مستحيلًا، وهو الذي ما انفكَّ يحوكُ الدسائسَ هو وفالْدِرسي ضدَّ بسمارك منذ سنين.

وينمُّ خلفاء بسمارك على عجز في المناصب التي تسلَّموها، فقد كتب ماريشالٌ يقول: «إن رجلًا عظيمًا كبسمارك يمكنه أن يستعين في عمله بأعقد الآلات، ولكن رجلًا عاديًّا مثلي يعجز عن صنع ذلك.» ويجتنب كابريفي سلفَه عند مغادرة هذا للقصر، ولمَّا أخذ بسمارك يدعوه إلى العشاء بعد حين لم يُلبِّ الدعوةَ غير مرةٍ قائلًا إنه لا يستطيع أن يسمع مثلما سمع عن مولاه في المرة الأولى.

ثم يواثب القلقُ بسمارك فيسأل كابريفي عن المعاهدة الروسية في أثناء تنزُّهٍ في حديقة المستشارية، فيجيب هذا الجنرال عن ذلك بقوله: «يمكن رجلًا مثلَكم أن يلعب بخمسة كُراتٍ دفعةً واحدة على حين يكتفي الآخرون باللعب بكرة واحدة أو كرتين.» ويجتمع المستشارون، ويوجِّههم هُولْشتَاين، ويصرِّحون بأن ما تشتمل عليه هذه المعاهدة من فوائد هو لروسية، ويقولون إنها تُشجع روسية على إثارة أزمة في الشرق، فتنقضُّ فرنسة على ألمانية آنئذٍ!

وهكذا ترى إزالة ركنٍ من أُسُس عمل بسمارك في ثلاثة أيام نتيجةً لتلك الحُجج الواهية التي تنمُّ على قِصَر بَصَر، ونتيجةً لحقدٍ ودسٍّ فيهتزُّ جميعُ البنيان، وهُولْشتَايْن فضلًا عن ذلك يؤثِّر في أناس من ذوي القَدر بكلام يخرج من فِيه، ثم يؤثِّر كابريفي فيما يأتي به هولْشتاين من تلقين قاصدًا أن يجيءَ بشيء جديد يحمل به مولاه الشابَّ على الإعراض عن القيصر البغيض، ويُسَرُّ الإمبراطور بأنه وجد أخيرًا ناصحًا بدلًا من الثعلب الخطِر «يعمل بهدوء وصراحة ووضوح ومع اجتناب للمخاطر الدِّبْلُمِيَّة»، ويشعر وِلْهِلْم بأنه يسير سيرًا مستقيمًا كالبروسيِّ الحقيقيِّ في قديم الأزمان، وينبئُ هُولْشتَاين في نهاية المقابلة بأن الإمبراطور قال: «والآن يجب أن يُسدَل سِتارٌ على المسألة، وأراني آسفًا على قول هذا.»

كلماتٌ قليلةٌ يسهُل النطقُ بها في حجرة صغيرة من ذلك القصر الذي وُلد فيه ذلك الإمبراطورُ الشابُّ منذ ثلاثين سنة، كلماتٌ قليلة يُمْليها المَيل والحقد والحسد والطموح والحمَّى والفزع والهلع والهوى ونسيجٌ مستعصٍ من الفتون كان عدمُ شعور العاهل به أقلَّ من سواه، كلماتٌ قليلة لم يَسطِعْ أحد أن يُبصرها غير ذلك البصير الذي عاد لا يُسأل عن رأيه، كلماتٌ قليلة تُزلزل سلامة الإمبراطورية الألمانية، كلماتٌ قليلة تُسفر عن التحالف الفرنسيِّ الروسيِّ.

وبسمارك في الأيام الأخيرة التي يقضيها في برلين يزيد ثباتَ خُلقٍ، وبسمارك لا يكظم غيظه، ولكن ضربًا من المكر كان يَحُول دون تبرُّمه فيهدف إلى إظهار نفسه رجلَ العالم، وهو لا يُبدي شيئًا لزملائه العدائيِّين، وهو يقول لبوتِّيشر الذي قبَّل يديه مودِّعًا: «إنكم مسئولون جزئيًّا عن هذا الفراق.» ويُقيم مأدبة وداع خيالية للوزراء في الغرف الخالية التي أَنَى له أن يغادرها فلم يصافح بوتِّيشر عند وصوله مزدريًا مع أنه هو الداعي ومع اشتهاره بمراعاة الرسميَّات في مثل هذه الأمور، ويعرض عليه زملاؤه إقامة وليمة له فيرفض ذلك بصوت ثابت: «لم أرَ بين موظفي الإمبراطورية غيرَ وجوه باسمة، وهذا إلى أنني عدتُ الآن غير مستشار بما اقترفتموه من ذنب.» وفي تلك الأحايين تساور فؤادَ ذلك الوثنيِّ مشاعرُ الحقد والانتقام، وليس هذا من الخسة، بل هو زئير أسد جريح.

ومن يَزُرْه يأخذْ رشَاشًا من الصحة، ومن ذلك أن جاءه سفيرُ النمسة بكتاب ودِّيٍّ رقيق من الإمبراطور فرنسوا جوزيف، وفي هذا الكتاب إشارةٌ إلى أن استقالة بسمارك كانت لانحرافِ صحته، فيرُدُّ المستشار السابق هذا السببَ مناقضًا بذلك ما ذكره الإمبراطور وِلْهِلْم مصدرًا للأمر، مبيِّنًا أنه كان يتمتع بصحة جيدة جدًّا حين استقالته، ومن ذلك أن جعل السلطان يعلَم بواسطة سفير تركية أنه عُزل من منصبه عزلًا، ومن ذلك أن قال لسفير بافارية إن الإمبراطور لا قلبَ له وأنْ وصَف له وِلْهِلْم بالرجل الذي «سيدمر الإمبراطورية» وقد ذهب مودِّعًا إلى السفارات الأجنبية فمحَى بالقلم الرصاصيِّ كلمةَ «مستشار الإمبراطورية» من البطاقات التي تركها فيها، وقد تكلَّم عن وضْعه الجديد فقال: «يسرُّني أن يخاطبَني الناس باسم بسمارك، فإذا حدَث أن استعملتُ لقب دوك كان ذلك عند سياحتي مُتنكِّرًا.» وقد اتَّهم دوك بادِنَ الأكبر مواجهةً بحَوْك الدسائس حتى تركه هذا الأخير مُغاضبًا.

ويذهب بسمارك لتوديع الإمبراطور شكلًا، فلا يَدَعُ مسئولية وِلْهِلْم في عزْلِه تمرُّ مقنَّعةً، ولمَّا تظاهر الإمبراطور بالسؤال عن صحته مع الاكتراث قاطعه بغلظة قائلًا: «إن صحتي جيدةٌ يا صاحب الجلالة.» ولكنه لم يستطع أن يجعلَ وِلْهِلْم يوافقُ على نشرِ كتاب استقالته، ويعود إلى المنزل فيقول: «إن أمورًا نفسية استحوذت عليَّ» في تلك الزيارة، وفي الوقت نفسه يُضطَر بسمارك إلى رَزْم ثلاثمائة صندوق وثلاثة عشر ألف زجاجة خمرٍ على عجلٍ فيؤدي هذا إلى انكسار أدوات ثمينة؛ وذلك لأن خَلَفه كان قد تسلَّم عمله، ولأنه أمهل يومًا واحدًا كما روى، وتموت أوغوستا، وتحاول عدوَّتُه الأخرى فيكتورية أن تشمله بكلِّ مجاملة بعد فوزها العظيم.

ويزور بسمارك التربة الملكيَّة قبل رحيله نهائيًّا، وينتحل وضْعَ شاعرٍ فيضع ثلاث وردات على ضريح مولاه الشائب، ثم يتناول القُربان في منزله، ويريد القسِّيس أن يعِظَ بآية «أحِبَّ أعداءَك»، فتنهض حَنَّة التي نظَّمت تلك الحفلة وتُسكِت القسِّيس المذعور. ثمَّ تمدَّد بسمارك على مُتَّكأ فلخَّص السنين العشرين التي قضاها في هذا البيت كما يأتي: «لقد أمتعت نفسي بأمور كثيرة، وأنا الآن في الخامس والسبعين من عمري، ولا تزال زوجتي معي ولم أفقِد أحدًا من أولادي، فهذه من النعم الكبرى، وكنتُ أعتقد دومًا أنني أموتُ في منصبي، والآن ليس لديَّ ما أصنعُه، وكنت أقوم بشئون الخدمة مترجِّحًا بين المرض والصحة مدة ثمانٍ وعشرين سنة فأستقبل بريدًا وأُرسل بريدًا في كلِّ يوم، والآن قد انتهى ذلك، ولا أعرف ماذا يجب عليَّ أن أعمل، وأجدُني مع ذلك أحسن مما أنا عليه في أيِّ وقت مضى.»

وهنالك العاملُ الفاجع في الوضع، فعملُ الشيخ اليوميُّ هو الذي نُزع منه، وبسمارك في تلك الليلة لم يتكلمْ عن الخِطط ولا عن الرَّيخ الذي أوجده فيشعُر اليوم بأنه في خطر، بل يتكلم عن بريده اليوميِّ، وهكذا تكون آخرُ يدٍ يصافحها هي اليدُ التي لم يحدُث أن مسَّها قبل اليوم مع تناوله موادَّه منها في كل يوم منذ عشرين سنة، هي يدُ لفِرستروم المعروف بالفارس الأسود وببريد بسمارك، لا يدُ وزيرٍ أو يدُ سفيرٍ أو يدُ أميرٍ، ويتجلد لفِرستروم بعد أن يُدعَى قبل انصراف الأمير بثلاث ساعات فيُقابَل من فوره، ويظهر أن هذا هو الوداعُ الوحيد الذي فقد فيه المستشار السابق رباطة جأشه هنيهةً عند النهاية.

ويدخل لِفِرستروم فتتوارد ذكرياتُ اليوم الأول من الإمبراطورية إلى خاطرِ بسمارك، ويفكِّر بسمارك في أيام فِرساي حينما نظر إلى ذلك الرجل للمرة الأولى فعيَّنه في وظيفته الحاضرة، ويسأله بسمارك عن بقائه محبًّا لعمله، ويقول: «لا أزال أذكر الغرفةَ التي قدَّمتَ إليَّ فيها تقريرك الرسميَّ الأول حينما كنتَ قائد عشرة.» ثمَّ يشكُر بسماركُ له صدْقَ خِدمته في تلك السنوات الكثيرة، أي يُبدي له من الشكر ما لم يُبدِ مثلَه لأحد من رجال الإمبراطورية، ثم يُقدِّم إليه ما هو بِدْعٌ لديه من هدية، ويتناول بسمارك أولَ كأس تقعُ تحت يده من الكئوس الفضية الكثيرة ويُسلِّمها إليه «لتكونَ شاهدةً على عرفاني الجميل ولكيلا تنساني».

١  العياب: جمع العيبة؛ أي ما تجعل فيه الثياب كالصندوق.
٢  جوبيتر: سيد الآلهة وأبوها — كما جاء في الأساطير اليونانية — والإمبراطور هو المقصود هنا.
٣  الرجل المثلوج الفؤاد: البليد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤