الفصل السابع

يستخرج المنفيُّ حياةً جديدة من حِقده، والحقدُ أشدُّ المشاعر لدى هذا المُبعَد، وإذا كان العالم ينتقم من رجل عبَّدَه، فإن هذا ما صنعته ألمانية عند سقوط بسمارك، وأمواجُ الحقدِ تعود إلى الشاطئ الذي سالتْ منه، وكان أبناءُ طبقته ومرتبته؛ أي أكابر الموظفين والأشراف والأمراء، أكثرَ الناس صفاقةً مخزية كما دلَّ عليه سلوكُهم.

وإذا حدث في عيد أو احتفال عامٍّ أن أُرِيد الإبراق إلى فرِدْرِيكْسرُوه منَع مدير المنطقة ذلك معتذرًا بأن ذلك يؤدي إلى فقدِه وظيفتَه، ولا أحدَ من زملاء بسمارك سابقًا يجرؤُ على زيارته، وينوي فالدِرسي الذهابَ إلى همبرغ فيسألُ برلين أن تأذنَ له في زيارته، والمرة الوحيدة التي قرأ فيها الأمير بسمارك إمضاءَ كابريفي في أسفل وثيقةٍ هي المرة التي طالبت فيها الحكومة الإمبراطورية هذا الرجلَ الذي خدم بروسية والإمبراطورية مدة أربعين سنة بأن يُعيدَ الراتب الذي أخذه عما بين اليوم العشرين واليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس سنة ١٨٩٠ مستندةً في ذلك إلى أن اسمه في ذلك الحين كان مسجَّلًا في جدول المتقاعدين، وفي الوقت نفسه جعل كابريفي هذا سفراءَه يُبلِّغون جميعَ الحكومات الأجنبية رسميًّا بألا تُعلِّق أدنى أهمية على آراء الأمير بسمارك.

ويُصرِّح أحدُ زعماء حزب الوسط أمام الناس بأنه: «لا ينبغي للأمير بسمارك أن يكون ذا نصيب في عظمة ألمانية ومجدها! فمن العار علينا أن يحتويَ وطنُنا أناسًا من طِرازه!» ويُمنَع سِيبِلُ من الوثائق الضرورية لإتمام تاريخه؛ وذلك لتمجيده في ذلك الأثر بسمارك أكثر من تمجيده وِلْهِلْم، وإذا استثنيت كاردورف وآخرين قليلين رأيتَ أكابر الأشراف ببرلين قد اتفقوا — بعد نقاش شامل — على الابتعاد عنه بعد سقوطه، فيقول إنه يُجتنب كما تُجتنب الهَيْضة١ في همبرغ، «والنذالة حِرفةٌ رابحةٌ، وماذا أقول عن وغْد كأُوغُوسْت دُونْهُوف يدور في الطريق؛ لكيلا يُلاقيَ هربرت!»

ويعزِّر دوك بادن الأكبر رئيسَ بلدية هذه المدينة؛ لأن مجلسها أراد منْحَ بسمارك لقب متوطِّنِ شرف، وتصرح الإمبراطورة فردريك لهُوهِنْلُوهِه بأن بسمارك مدينٌ في فوزه لمولاه المسنِّ، ويجد فرنسوا جوزيف أن من «الفواجع إمكانَ سقوط مثل هذا الرجل بهذا المقدار»، ويراقب الإمبراطورُ فرِدْرِيكْسرُوه، ولا يتفلَّت من عيون جواسيسه سوى الزوَّار الذين ينزلون على استحياء إلى محطة بوشن ليتمُّوا رحلتَهم إليه في قطار محلِّيٍّ غير مراقب.

ويأمر وِلْهِلْم بفتح الرسائل والكتب التي تُرسَل إلى الأمير بواسطة البريد، ولا يدعوه وِلْهِلْم إلى حفلات تسليم الأوسمة مع أنه حامل لرتبة فارس النسر الأسود، ويقول وِلْهِلْم لفرنسيٍّ إنه لا ينوي «أن ينال من الدوك بقوة محكمة الإمبراطورية العليا ما لا يودُّ أن يمنحني إياه طيِّبَ النفس»، ووِلْهِلْم وحده هو الذي يستعمل نحوه لقب دوك الذي أنعم به عليه، ولا تجد غير وليِّ أمرٍ واحد يأسف على سقوط المستشار بسمارك الذي هو أكثر سُوَّاس أوروبة دهاءً، غيرَ ليون الثالث عشر الذي كان أشدَّ الناس عداوةً لبسمارك فيقول: أفتقدُ بسمارك.

ومن بين الذين عملوا مساعدين له نذكر ذلك الذي كان خصمًا له سابقًا فصار أكثر الناس ولاءً له، نذكر شلُوزِر: الرجل الوحيد الذي جلب العزل إلى نفسه لجهره بتأييد رئيسه السابق، والآن تكون ثلاثون سنةً قد مرَّت على احترابهما بسان بُطرسبرغ في سبيل شرفهما، والآن حينما جرَّدت الحكومة الجديدة شلُوزِر من منصبه المهمِّ لدى الفاتيكان يزور فرِدْرِيكْسرُوه «لينقُل خبر تسريحه»، وكان شلُوزِر في السبعين من عمره، وكان من شدة العناية بالأمير بسمارك ما يبدو معه مثلَ ولدٍ له، فيأتي إليه بأحسن مقعدٍ ويرقب غليونه، ويُبدي له بذلك قيمةَ الصلح الحقيقي مرة أخرى.

وإذا جَرُؤ إنسان على الصراخ في ساشنفالد رجع الصدى إليها، ويهزأُ الشيخ بجميع مَن يسقطون ولا يستثني منهم أحدًا، ويُعدِّد خطايا خلفه، ويقول عن كابريفي ساخرًا: «إنه جنرال فاضل.» ويقول عن ميكِل: «إنه أحسنُ خطيبٍ ألمانيٍّ، فصَوغُ العبارات هو آية زماننا.» وهو يرقب سقوطَ فالدِرسي وكابريفي وبوتِّيشر مسرورًا، وإذا أردنا تمثُّل وضْعَه تجاه المجتمع البرلينيِّ الذي أبعده وجب علينا أن نُبصره رئيسًا لوليمة عندما يرفع نظارتَه القديمة ذات الإطار الذهبيِّ ليرى المدعوِّين بها فيسأل بصوت خافت: «ما هو اسم ذلك البادنيِّ الدِّبْلُمِيِّ الجالس هنالك؟» ويقول الرجل الذي يقصُّ علينا هذا النبأ، ويقول الرجل الذي سُئل عن ذلك، إن وضْعَه كان كوضْع الأسد الناظر إلى ذبابة.

وهو لا يضنُّ على الإمبراطور بمظاهر الاحترام، فترى صورة مكبَّرة لهذا العاهل معلَّقةً في غرفة الطعام، وينهض في عيد ميلاد وِلْهِلْم ويقول: «أشرب نَخْب صاحب الجلالة الإمبراطور والملك.» وترنُّ هذه الكلمة رنينًا باردًا في الغرفة، ولا شيءَ يدلُّ على أنه يهدِف إلى رجل أجنبيٍّ أكثرَ منها، وجميعُ مَن يسمعونها من بسمارك يعلمون مؤلم الحقائق عن سقوطه وعن الإمبراطور، ومن ذلك قوله: «إن كاتون كان رجلًا ممتازًا إلى الغاية، وما فتئَ موته يبدو لي رائعًا، ولو كنتُ في مكانه لسِرْتُ على سنته أيضًا فما طلبتُ عفوَ قيصر، وقد بلغ رجال ذلك الزمن من احترام أنفسهم ما لا ترون مثله في أيامنا.» وقِس على هذا ما كان يصدُر عنه من كلام بعد رويَّة!

وأقسى من ذلك ما أبداه لفريونْغَ من ملاحظة، ويقرأ كتاب اللصوص لشيلِّر ليلًا، فيأتي إلى قول فرانزمور للشائب: «إذن، أنت تهوى أن تعيش مخلَّدًا؟» ويُعلِّق بسمارك على هذا قولَه: «إذن، ينتصب مصيري أمام عينيَّ.» ويقول الراوي: إنه نطق بهذه الكلمة مع اهتزاز خفيف في الصوت، ولكن من غير تغيُّر في وجهه الشديد التكرش، ثم صمت الأمير كثيرًا مفكِّرًا وهو يرسم صُوَرًا بطرف عصاه على الأرض النديَّة، ثمَّ يعود إليه وعيُه فيطمس ما رسم، ويقول: «لا تظنُّوا أنني جُرِحت جرحًا بليغًا بما حدث في السنوات القليلة الأخيرة، وإن شئتم فقولوا إنني فخورٌ بما صنعت في العالم فلا أدَعُ تلك الحوادث ترجُّني.»

بيدَ أنَّ غَضَب المعتدَى عليه يبدو في اعترافه لصديقته سبِيتْزِنْبِرغ، وقد جاء هذا الاعتراف بعد العاصفة بعام، ومنه نعلم أن الرعد لا يزال يقصف، قال بسمارك: «قُذِف بنا في الشارع كاللصوص، وطردني الإمبراطور كالخادم، وكانت سِيرتي في جميع حياتي سيرةَ شريف لا يمكنُ سبُّه بلا تعويض، وأشتمل على نسيجِ ماجدٍ لا يُعتدَى عليه من غير أن يُعاقب، ولكنني لا أقدر على مطالبة الإمبراطور باسترضائي، ولا أحمل تجاه أولئك الناس من المشاعر غيرَ ما لدى غوتزفون برْلِيشِنْجن٢ عند النافذة، ولا أستثني الإمبراطور من هؤلاء، وأبشعُ ما في أخلاقه وأخطر ما في سجيَّته هو أنه لا يستقرُّ عند مؤثِّر وأنه عرضةٌ لجميع المؤثرات في الحين بعد الحين، ولن أسُرَّه بالموت، وهم كلما أمعنوا في تهديدي أريتُهم مَن هو الرجل الذي يعاملون، ويا ليتني أختمُ حياتي قائمًا بعمل فاجع!»

وهكذا يتأجَّج شوقًا إلى الانتقام ويتوهج، وهكذا يترشح من جميع مسامِّه شعورُه بأفضليته، غير أن ما فُطر عليه هذا المتمرد من مشاعر إكرام للدم الملكيِّ يعترض له بغتةً، غير أن ما تمَّ لهذا المتمرد من عادات في نصف قرن جعله ينظر إلى مليكه نظَرَه إلى رجل لا يقدر على تحدِّيه فيدعوه إلى النِّزال.

ويشعر وِلْهِلْم بأن الأمة تميل إلى تأييد قضية بسمارك شيئًا فشيئًا، ويسعى وِلْهِلْم أن يكسب شوطًا في اللعب، فلما مرَّتْ ثلاثة أعوام على الخصام مَرِض بسمارك فوجد وِلْهِلْم وسيلةً لوصْل ما انقطع فعرَض عليه قصرًا يُمرَّض فيه فرفض بسمارك ذلك برقيًّا، وهنالك يُرسِل وِلْهِلْم إليه مقدارًا من المُعتَّقة٣ المشهورة فيشربه بسمارك عن حقدٍ مع هاردِن الذي هو أشدُّ الناس عداوةً للإمبراطور، ويقول بسمارك لأحد أصدقائه: «ينتقص صاحبُ الجلالة قُواي، فهو يُشير عليَّ بأن أشرب قدحًا واحدًا من الرحيق في كلِّ يوم، مع أنني أحتاج يوميًّا إلى ستِّ زجاجات منه حتى أصحَّ.»
ومهما يكن من أمرٍ فإنه يتعذر على بسمارك بعد تَينِك المحاولتَين اللتين قام بهما وِلْهِلْم أن يجتنب الشكر له شخصيًّا، ولو لم يفعلْ ذلك لوجده هؤلاء القوم الطُّوَّعُ مخطئًا، ومما يُزعجهم ما يتمثل لهم من خصام بين الإمبراطور والمستشار السابق، وهم يفضِّلون صمَّه٤ على لَحْمِه٥ رَوْمًا٦ لكَتْمِه، وهذا إلى أن بسمارك يودُّ إخافة خصومه ببرلين.

وبسمارك قبل قيامه بزيارة الشكر هذه يستدعي ضابطًا ليعلمَ منه تفاصيلَ عن الزيِّ الرسميِّ المناسب، ثم يسأله هازئًا: «وما هي أَقْوم طريق لإمساك السيف وفقَ النظام الجديد؟»

والواقع أن لُبس البزَّات الرسمية مع تقلُّد السيوف من الأمور الشائعة في برلين، ويودُّ الإمبراطور أن يُقنِع نفسه ويُقنع الآخرين بأنه يستقبل جنرالًا، فينظِّم كلَّ أمر بين كتيبة الشرف المحيطة بعَربة البلاط وكتيبة الشرف أمام القصر كما لو كان الشيخ مولتكه هو الزائرَ، والآن على الإمبراطور أن يسمع صابرًا هُتافاتِ الترحيب بخصمه العظيم، والآن على الإمبراطور أن يُطيقَ تصفيق الجمهور لشخصٍ غيرِه.

ولا يُسرُّ بسمارك بهذا الرِّئاء الشعبيِّ، ويصفُه مَن رأَوه جالسًا في عربته في ذلك الحين بطيفٍ لابسٍ بِزَّة بيضاء شاحب اللون شارد الذهن كما لو كان يُفكِّر في أمور بعيدة جدًّا، ولا بد من أن تكون مشاعرُه آنئذٍ مزيجًا من الهزوء والازدراء، وهو إذا ما رجع بصره إلى الذكريات التاريخية لم يَغِبْ عن باله أن واحدةً من زياراته النافعة للبلاط لم تُثِرْ مثل هذا الابتهاج الذي اتفق للرواية الراهنة الخالية من الخير، ومما لا ريبَ فيه أنه يتمثل حينما ينحني الآن احترامًا ما أتاه من تلقين في أربعين سنةً بأن الملك وكيلُ الله، فيرى ما في هذا التلقين من باطل ما دام يحتقر من أعماق فؤاده ذلك الرجلَ الذي يُبدي له إجلالًا على ذلك الوجه! وكيف يحتمل مع كبريائه مثل تلك الساعة إذا لم يُقنِع نفسَه بأن العاهل يُبجله كذلك؟

ولم يكد بسمارك يبلغ درجات القصر المعهودة، ولم يكد بسمارك يُبصِر تلك الوجوه التي لم يَرَها منذ أربع سنين حتى أخذ يُناكد الجميع فيأتي بهربرت معه خلافًا للبرنامج المقرَّر، ويأتي زعيمٌ٧ لتحيته فلا يقول له غيرَ كلمة: «كيسِّل؟ يلوح لي أنك أصغرُ مما كنت عليه في ذلك الحين.» وكلُّ واحد في غرفة الانتظار يسمع كلام بسمارك، وكلُّ ما يقوله بسمارك يُطبَّق عليهم، ويَلزُمون جانب الصمت جميعًا، ويدخل بسمارك على الإمبراطور وحده، وينحني احترامًا ويُعدِّله الإمبراطور ويقبِّله هذا العاهل البغيض، وتمضي دقائقُ قليلةٌ فيأتي الأمراء الصغار وتُسفِر أصواتهم الصبيانية عن بهجة، ويُقدَّم الغداء في الساعة الرابعة، ويُرجى من بسمارك أن يُداريَ نفسه بعد متاعبه.
وفي الليل تُقام له حفلةُ عشاءٍ كبيرةٌ فتَحضُرها الحاشية، ويَصِلُ بِيلُ غيرَ مدعوٍّ كهربرت، ويجلس بسمارك بين ابنَيه فيشعر بأنه أكثر أمانًا، ويُحِسُّ — أبًا — أنه أعلى من العاهل الهُوهِنْزُلِّرني، ولا يؤدي وجودُ ابنَيه إلى غير اشتداد الحقد عليه، فيعمُّ الجميعَ روحُ انقباض، ولم يشعُر أحدٌ بأنه في مأمن حول المائدة حتى عندما يأتي بسمارك الشيخُ بالنوادر، وهل هنالك مَن يحمرُّ وجهُه بفعل الخمر، فتخرُج مِن فِيه كلمةٌ قاسية كما جاء في الأساطير التوتونيَّة؟٨ وهل يستلُّ الآخرُ سيفَه فيقاتل ابنَا بسماركَ فرسانَ الإمبراطور؟ يعرف أوتوفون بسماركُ جيدًا كيف يَمسِك بسيف النظام القديم، ولكن هذا لا يعدو حدَّ الخيال، ولا يفكِّر أحدٌ — ولا الإمبراطور — في هذا جديًّا، ويَعُدُّ الإمبراطورُ الدقائقَ على الساعة الدقَّاقة نَزِقًا منتظرًا الوقت الذي يغادر فيه هذا الضيفُ الخبيث قصرَه وعاصمته، فالحقُّ أن جميع مَن هم حول المائدة يخشونه مع عدم إكرام، وعليهم مع ذلك أن يشعروا بأنهم أصحابُ السلطان تجاه هذا المنفيِّ.

ثم يتنفَّس الجميعُ الصعداء، فقد أشعر خادمٌ بعربة الضيف، ويُشيِّع الإمبراطور عدوَّه هذا ليلًا، ويعود هذا العدوُّ إلى منفاه في منتصف الليل.

ويَردُّ الإمبراطورُ الزيارةَ إلى بسماركَ في فرِدْرِيكْسرُوه فيأخذ معه نموذجًا من الجهاز الحربيِّ الجديد ليسأل القطب السياسيَّ الأول في عصره عن رأيه في الجراب وفي اليوم التالي يتساءلُ الناسُ عمَّا دار بين الإمبراطور والمستشار السابق من حديث، فيقرءون في جريدة بسمارك كلمةً أملاها بسمارك مجاملًا مع خُبثٍ — كما هو واضح — فقد جاء فيها: «إن الإمبراطور تفضل فسأل الأمير بسمارك عن أمر مهم، تفضل فسأله عن رأيه في تخفيف أجهزة الجنود المشاة لدى الخدمة الفعلية، تفضل فعرض عليه عسكريين كاملي العُدَّة طالبًا ملاحظاتِه، وقد رئي تعديلُ القَبَّة٩ بأيسرَ مما كانت عليه من قبل»، فبمثل هذا البيان البريء يجعل الشيخ ذلك الشابَّ محلَّ سخرية في عيون نصف ألمانية.
وبسمارك مع ذلك ينشر ما يستطيعه ضدَّ وِلْهِلْم وحكومته قائلًا: «ليس من الإخلاص أن أمتنعَ عن إبداء رأيي الصريح، كما يتوقع أناسٌ من أهل برلين على ما يظهر، ومن قول هؤلاء الناس إنني إذا التزمت جانب السكوت كان تأثيري في التاريخ أعظمَ ومنظري فيه أروع.» وما بقيَا عليه من عدم صُلحٍ فيُرى من خلال ما حدث في السنين الأربع الأخيرة من تقلُّبات، ويبلغ بسمارك الثمانين من عمره، ويأتيه الإمبراطور في عيد ميلاده مع دبدبة وعُدَّة وحَفَدة،١٠ ويُسلِّم إلى بسماركَ سيفَ شرفٍ من ذهب ويُلقِي خطبة بهيَّة، ولكن بسمارك لا يجيب عنها، وتُفتتح قناةُ كييل التي تصلُ بين بحر الشمال والبحر البلطيِّ والتي هي من آثار بسمارك فلا يُذكر لهذا المستشار السابق اسمٌ، ويُحتفل في سنة ١٨٩٦ بعيد الريخ الفضيِّ فيرسل وِلْهِلْم إلى بسمارك برقيةَ شكر خالدةً، ويُحتفل في سنة ١٨٩٧ بمرور مائة عام على ولادة وِلْهِلْم الأول فتُذكر أسماءُ صِغار مساعديه ولا تُقال كلمةٌ عن بسمارك.

وتُرسَل إليه نماذجُ سفنٍ حربية ذات يوم، ويُضطرُّ أحدُ الكونتات في يوم آخرَ إلى إلغاء دعوة هربرت إلى عُرسٍ بعد أن انتهت إليه هذه الدعوة؛ وذلك لأن الإمبرطور علَّق حضورَه العُرسَ على ذلك الإلغاء.

وهكذا يتوقف مقياسُ نعمة الإمبراطور ونقمته على ما يُحدثه بسمارك من هزَّات في الحكومة بما يُبديه من نشاط سياسيٍّ.

١  الهيضة: الوباء المعروف بالكوليرا.
٢  هو فارس ألمانيٌّ، عُرف باليد الحديدية (١٤٨٠–١٥٦٢)، وقد جعل منه غوته في سنة ١٧٧٣ بطلًا لإحدى رواياته.
٣  المعتَّقة: الخمر القديمة الجيدة.
٤  صَمَّ القارورة: سدَّها.
٥  لَحَمَ الصائغُ المعدن: لَأَمَهُ.
٦  رام الشيء: أراده.
٧  Colonel.
٨  التوتونية: الألمانية.
٩  Collar.
١٠  الحفدة: جمع الحافد، وهو الخادم أو التابع أو الناصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤