الفصل الثامن

حقًّا لم يُظهر بسمارك استعدادًا لكمِّ فَمِه وعدم إبداء رأيِه، فأما الحاضرُ فكان يُبدي لمعاصريه نَقْدَه حوله بواسطة الصحافة، وأما الماضي والمستقبل فقد وضع عنهما كتابًا، ولمَّا عنَّ له في السنين العشر السابقة أن يضع كتابًا عندما يكون لديه فراغٌ بعد اعتزاله لم يَعْدُ ذلك حدَّ النظر، ولم يقعْ ذلك عن رغبة في الإبداع، وهو لم يُرِدْ عندئذٍ سوى قضاء فراغه في العمل، ومن الأسباب الحافزة إياه إلى ذلك الآن ما كان من طلب الناشر الألمانيِّ كوتا المستعدِّ لتحدِّي المقاطعة. ولا يقوم السببُ الثاني على سابق حكمةٍ ولا على تنوير بصيرة، بل على دهاء وحبِّ انتقام، وبسمارك في سنين كثيرة كان يكتفي بما يُدبِّجه يَرَاع أصدقائه عما يقصُّه من أنباءِ أعماله إجمالًا وتفصيلًا فيسدُّ بذلك ما في تاريخه من ثُغْراتٍ حالًا، شأنُ المصوِّر المزخرِف، واليوم حلَّ أجلُ تصفية الحساب.

وهنالك يُرى ما في روح بسمارك من قليل خيالٍ ومن كثيرِ قيمةٍ في الأمر الراهن، وإن هذا المتفنن في اللغة الألمانية، وإن هذا الرجل الذي أبدع في كثير من خُطبه ووثائقه ورسائله وأحاديثه أسلوبًا ألمانيًّا خيرًا من كلِّ ما تمَّ منذ أيام أستاذ البيان والخالد بآثاره غوته، يُجهِّزنا بمذكِّراته بجذع ساطع، لا بأثر فنيٍّ رائع؛ وهذا لأنها تهدف إلى غاية، ولأنها وليدةُ حالٍ نفسية خاصة، لا لأنه طعن في السنِّ أو لأنه كُدِّر كثيرًا، ما ظهر الآن قادرًا على إملاء أنفس المقالات وأعسف المجادلات عن شئون الزمن العتيد، وما دلَّت عليه رسائلُه الأخيرة من هوًى رجوليٍّ ممزوجٍ بسوداء هادئةٍ كما في الماضي، وهو — حتى عندما يتكلم عن الماضي أبًا — يؤدي نظرُ سامعه ووجودُ كلبه وإمساكه القَدَح بيده إلى إعارة روحه أجنحةً وتثبيتِ نَسَقِ نعوته.

والآن يجلس في مكتبه فيريد أن يرسُم في نفسه مجرَى سابق حياته، ومن أجل مَن؟ وماذا كانت عليه الأمة؟ وهل لهذه الكلمة معنًى مُقرَّر؟ وهل للأمة معالمُ؟ يبدو قادرًا كتابةً وتكلُّمًا على رسْم أقسام من تاريخه بروعةٍ إذا ما تناول الملكَ والرَّيشتاغ وقصَد التأثير في سامعيه، ولكنه إذا وَدَّ الآن أن يزوِّد جمعًا مجهولًا بصورة فنية عن أعماله وبنموذج عن البناء الذي أتمَّ شَيْدَه احتاج إلى صبر وانسجام وقدرة على إنكار الذات؛ ولذا أوجب شعورُه بأمر الأسلوب تمرُّدَه على كتابة مذكرات على النموذج المألوف.

وفي البداءة يجعل عنوان مسوَّداته «مُذكِّرات وأفكار»، وهو بهذا النوع من الجمْع الواسع يسهل عليه أن يَلُمَّ أفكاره ويضُمَّ بعضها إلى بعض، وهو لسلامة القرينة في أسلوبه لم يحاول أن يأتيَ بأيِّ انتقال بين ما ذكر من الوقائع، وهكذا لم يكن الكتاب الجليل الذي تركه تراثًا للألمان تاجًا يصلح حتى لجبينه الخاصِّ، وهكذا نرى هذا الكتابَ مجموعةً من الحجارة الكريمة المنفصلة وغير المرصَّعة، ولكن مع حسنِ نحتٍ وتشذيبٍ.

ومن مميزات أسلوبه في هذا الكتاب بلوغُه الغاية، وهذا الكتاب مشحون بالجُمَل الموجزة التي يُعبِّر غيرُه عما في الواحدة منها بستة أمثالها، وهذا إلى خُلُوِّ الكتاب من التكلُّف والتنميق، وهذا إلى الحفر فيه بمنقاش دقيق حتى صار بيانه سِفْرَ أخبارٍ مكثَّف. وفي الكتاب تُبصِر جميع مشاعره وأحقاده مستترةً وراء الوقائع فلا يجد عُسرًا في صَرْعِ أعدائه، وهو يختار موضوعه مُحابيًا مجتنبًا نقْدَ نفسه غيرَ مادح لها، وحِيَلُ القطب السياسي هذا، وهذا العبثُ الرائع بين الماضي والذراري، مما يُضاعِف استمتاع مَن يعرفون طبيعتَه جيدًا، وعلى جميع الناس أن يقرءوه مع ذلك، ولو من أجل أسلوبه الألمانيِّ الكامل الذي ليس بالكلاسيِّ١ ولا بالعصريِّ.

وتعدلُ قيمة هذه الوثيقة التاريخية قيمةَ مذكِّرات نابليون، وهي دون مذكرات قيصر نفعًا، وقد استطاع النقَّاد أن يجدوا فيها طائفةً من الأغاليط التي إذا ما استثنيتَ واحدةً منها لم تعُدَّها تلفيقًا، ولا غرو، فالمؤلف لم يزعم أنه يتوخَّى الدقة المطلقة ولا الكمال الأمثل. ولنا قولٌ عن بسمارك لإهماله أهمَّ الوقائع عن الكفاح الثقافيِّ، ولسكوته عن القانود المضادِّ للاشتراكية وعن سياسته الاقتصادية، وليس لنا ما نقولُه حول ما علمناه من المسائل، وهو فضلًا عن ذلك، وهو لأنه عدوُّ مذهب ماركس الأزرق، يُشعِر بنفوذ سلطانِه الشخصيِّ في التاريخ، والعيبُ الوحيد في تصويره البطوليِّ هو أنه — مع استثناء أُوغُوستا — لم يُبدِ على نسيجه صورةً أخرى تُقاس بصورته الخاصة وتستحقُّ أن تكون خصمًا له.

ولم تزل العفاريتُ الثلاثة التي كانت بجانب مَهْد بسمارك — وهي العُجْب والشجاعة والحقد — تسيطر على هذا الشيخ عندما كتب مذكِّراته، وهي قد بلغت من السيطرة عليه ما بَدَت معه اعترافاتُه صورةً عن روحه الملغِزة، ولا تكاد تجدُ في كتابه المؤلَّف من ثمانمائة صفحةٍ شخصًا أثنى عليه، ولا تستثنِ من ذلك معلِّميه ولا رؤساءه الرسميين ولا الأمراء ولا النوَّاب ولا الزملاء ولا التابعين. ولا ترى من هؤلاء من مُدِح مدحًا غير مُقيد، حتى إن رون الذي هو أخلصُ الجميع لم يَخلُ من تنديد به، ولا تُبصِر غيرَ الأصاغر، كستيفان وهُولْشتَاين وشِوينِنْجر مَن سَلِم من الذمِّ، وإذا ما استحوذ الحقدُ والهزوء على قلمه صلُح له كلُّ شيءٍ، ومما لا مِراء فيه أنه هدَف إلى إطراء مولاه الشائب خلافًا لمولاه الشابِّ.

والحقدُ حتى في أمر وِلْهِلْم الأول وجَد إلى قلب بسمارك سبيلًا، ويمكن استجلاءُ الوجه الذي عامل به كبار أعدائه وصغارهم من مطالعة الصفحة التي صَبَّ فيها جامَ غضبه على الطبيب الألمانيِّ المجهول الأمر الذي أسفرتْ مداواتُه له في سان بطرسبرغ عن أذًى كبيرٍ له، ولم يكتفِ بسمارك بإسقاط هذا الطبيب مع مضيِّ ثلاثين عامًا على ذلك، بل أشار مغاضبًا إلى الدوكة الكبرى التي أوصَتْه وأوصَتْ بلاط سان بطرسبرغ به.

وبسمارك بين سراحٍ ومراحٍ وحتى موت بوشر في سنة ١٨٩٢، أملى على هذا المفضال جوهر المجلدات الثلاثة، ثم غيَّر فيها مقدارًا لا يُستهان به متبسِّطًا هنا وهنالك، وهو لم يُبدِ كبيرَ حماسةٍ حول هذا العمل، وإذا حضر الطبيبُ شوِينِنْجِر أبصرَ — في الغالب — ما يأتي فقال: «بوشرُ أبكمُ مكتئبٌ متجهم مرهفُ الأذنين مستدقُّ القلم الرصاصيِّ جالسٌ أمام ورقة بيضاء، والأميرُ مضطجعٌ على كرسيٍّ طويل متأملٌ في الصحف غيرُ ناطق بكلمة، وبوشرُ ليس أقلَّ منه صموتًا، وتظلُّ الورقة بيضاء»، ثم يساعده الطبيب قليلًا، ومن المحتمل أن يتلوَ بعض المقالات، وقد يجد بسبب أحد الزوار ما يدفعه إلى الإملاء ذات حين.

figure
بسمارك في سنة ١٨٩٥.

وكان بوشر دون بسمارك حماسةً للأمر مع تمتعه بذاكرة أحسنَ من ذاكرة ذلك، وكان يشكو من كون الأمير «يكرِّر كثيرًا من الأمور عدَّة مرات وعلى أوجه مختلفة تقريبًا، وهو يقفُ عند أكثر المسائل أهميةً ويُعيد نفسَه متناقضًا، وهو إذا تناول أمورًا كان نصيبُها الحبوط تنصَّل من مسئوليتها؛ حذرَ اللوم، ولا تكاد ترى مَن يبدو مثله خطرًا، وقد أنكر كتابه إلى بريم (في سنة ١٨٧٠) إلى أن ذكرتُه بأنني أنا الذي نقَله إلى الجنرال في مدريد، ومن المحتمل أن يكون قد فكَّر في مؤرخي المستقبل وفي ترك وصية للأعقاب، ولكنه يفكِّر أيضًا في الحال، وفي الحال يريد أن يؤثِّر».

وبسمارك إذ عَطِل من المستندات وكان راغبًا في الانتقام من أعدائه وخروجه رابحًا لقضيته، راعه ما أبصره من تناقُض بين ما أبداه من رأي خاصٍّ وما أبداه من رأي عامٍّ عن السلطة الملكية، فقد قال: «ما فتئتُ منذ سنة ١٨٤٧ أدافع عن المبدأ الملكيِّ وأرفعُه كالراية، ولكنه كُشِف لي أمرُ ثلاثة ملوك فوجدتُ تصرفاتِهم لا تُناسب مَن هم في مثل سموِّهم، ومما يناقض المبدأ الملكيَّ أن يُذاع هذا بين الأنام، ومما يتعذر عليَّ مع ذلك أن أسلُك سبيل النذالة فأسكت عن ذلك أو أن أذكر أمورًا على غير وجهها.»

وهكذا، وفي نهاية الأمر يرى هذا الممثل الأكبر أن يكفِّر عن عيشه في عالمَين، والآن يجب على هذا الذي لم ينطق بالحقِّ إلا وراء المسارح حتى الساعة الراهنة أن يقول الصدق للمرة الأولى على نور المنحدر، وبسمارك حتى في ذلك التاريخ يضفو حقدُه على عامله السياسيِّ فيُدبِّج يراع هذا الملكيِّ ذات حين فصله المشهور عن وِلْهِلْم الثاني فيصوِّب به سهمًا مُميتًا إلى سُمعة هذا العاهل، ولا يتناول في ذلك هذا العاهلَ وحده ما أبدى آلَ هوهنزلِّرن هنالك بأقتم صورة، ولن تجدَ ما هو أبلغُ من ذلك الفصل ضدَّ النظام الملكيِّ.

وكان بسمارك بصيرًا بصرًا تامًّا بما يكون لذلك من أثرٍ بالغ حينما أمر بنشر جميع كتابه فورَ وفاته، ويدَّعي ورثتُه وجودَ إشارة فيُفضلون حماية الإمبراطور على دفاع أبيهم عن نفسه من قبره، وهم لم يمتنعوا عن نشرِ المجلد الثالث في سنة ١٨٩٨ فقط، بل داوموا على حفظ سُمعة وِلْهِلْم الثاني حتى بعد فِراره من ألمانية سنة ١٩١٨، وقد احتجوا على ما كان من «نشرها الفوريِّ» عند تلك الهزيمة مؤيِّدين القضيةَ التي رفعها الإمبراطورُ ضدَّ الناشر بدلًا من أن يتخذوا جميع الوسائل وصولًا إلى عرض تلك الوصية على أعين الأمة في نهاية الأمر.

١  Classique.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤