الفصل التاسع

«يقضي الواجب عليَّ بأن أتكلم، ويُسدَّد هذا الواجبُ إلى وجداني كالمسدس الذي يُصوَّب إلى كياني، وبما أنني أعتقد أن السياسة الحاضرة تقودُ الوطنَ إلى ورطة يجمُل اجتنابها، وبما أنني أعرف هذه الورطة على حين يُخادع الآخرون أنفسَهم حولها؛ كان من الخيانة أن أسكت، ويريد أصدقائي الأعزاء أن أكون ميِّتًا حيًّا مكتومًا بكيمًا١ فلا يحقُّ لي أن أُبديَ حَراكًا، ولكنني في عزلتي أستطيع أن أداوم على خدمة وطني، والآن أجدني طليقَ اليدين أكثر مما كنت عليه من بعض الوجوه، والآن وقد خلوتُ من العوائق الإدارية أقدر في الخارج على الدعاية في سبيل السِّلم التي ما انفكَّت تكون غايتي الوحيدة منذ عشرين سنة.»

وهكذا يسيرُ اكتراثُه لتُراثه مع عِدائه لخلفائه وشوقِه إلى الانتقام من الطاعنين فيه، ويسترد المُبعَد في العقد الأخير من عمره سلطانَه على الرأي العام الذي أضاعه في السنين السابقة، وهو لكي يَصِل إلى هذه الغاية يلوح له أن يُسوِّغ جميعَ صُنعه بما يطيب له من الوسائل، وهو يرى أن يُلقيَ إلى الصحف بواسطة خُلصائه ما لديه من كُتُب مهمة من وِلْهِلْم الأول، فيحميَ نفسه من مثل ما أصاب به أرنيم بأن يقال عند الضرورة مثلًا إن بعض هؤلاء الخُلصاء لا بد من أن يكون قد استنسخ تلك الرسائل عند تقليبها ضيفًا في فرِدْرِيكْسرُوه، وهذا إلى قوله إن الكتب الخاصة التي أرسلها إلى الملك هي ملكٌ أدبيٌّ له، «فما يكون من إدماج الأفكار الواحدة في الرسائل لا يجعل لها صفة رسمية.» ويبوح بسمارك بأمور أخرى إلى هاردِن الذي دعاه إليه بعد أن قرأ مقالاته والذي كان محلَّ سرِّه وموضعَ صداقته في سنين.

وبسمارك — خلافًا لما يُظنُّ في البداءة — لم يتصرفْ في صُحُف كثيرة في أول اعتزاله، فكان معظم الجرائد الألمانية يخشى مجازفةَ الاتصال به، وبسمارك لم يستقبل في الأشهر الأولى غيرَ صحافيين من الأجانب مع ذلك، وجريدةُ هَنبُرغِرنَخريختِن وحدها هي التي فتحت صدرها للمستشار السابق، فظلت أكثر الصحف الألمانية طرافةً عدَّة سنين، ويُملي بسمارك مقالاتٍ كثيرةً لها، ويوحي بسمارك بغير قليلٍ من المقالات إليها، حتى صار الناس يعُدُّونها مونِيتور٢ فرِدْرِيكْسرُوه، وقد تصدَّتْ جريدة هَنبُرغِر تلك لجريدة «رايخسانْزِيجِر» في الأزمتَين أو الأزمات الثلاث التي حدثت في تلك السنوات.

وبسمارك بعد عامين من سقوطه يُواجه خَطبًا جللًا، وبيان الأمر:

أن الأمة التي بَعُدت منه منذ زمنٍ طويل صارت تعود إليه بعد عزْله، وتغدو تلك الأحوالُ معلومةً بالتدريج فيُسفِر ذلك عن عزيف رياحٍ وعن إثارةِ عواطفَ كثيرةٍ، ويأخذ بسمارك — في الأيام القليلة الأولى — أكثرَ من ستة آلاف برقيةِ حمدٍ وثناء، وتتبنَّى مدينة همبرغ الحرةُ قضيةَ جارها الجديد، وتستقبلُه استقبالًا باهرًا، وفيما كان يَمُرُّ راكبًا عربتَه من الشوارع المزيَّنة بالأعلام إذ يُهرَعُ إليه ملَّاحٌ إنكليزيٌّ وهو يقول: «أريد أن أصافحك!» ولا ريبَ في أن هذه هي المرة الأولى التي يصافح فيها إنسانًا من العوامِّ، ولم يحدُث قبل ذلك أن دعا فلَّاحًا إلى مائدته، والآن يُدعى إلى الغداء معه فلَّاحان حَمِسان من شُونْهاوْزِن؛ لِما أبدَياه من تقديس مؤثِّر له، ويُلخِّص هربرت الوضعَ بعبارته البارعة: «إنهم يعدونك ضمانًا لهم، والحقُّ معهم.»

وتظلُّ هذه الحوادثُ منعزلةً لكبيرِ وقتٍ، حتى إن المنفيَّ بعد عامين؛ أي في أواخر شهر مايو سنة ١٨٩٢، استطاع أن يقول: «أجلْ، إنني خُدعت في أمر الشعب الألمانيِّ، وهذا الشعبُ لم يُدرِك أن الذي يدفعني إلى الانتقاد هو قلقي العظيم حول مستقبل الإمبراطورية الذي يُقِضُّ تفكيري في أمره مضاجعي، لا ما يُظَنُّ؛ من ضغينةٍ ولا حبِّ انتقامٍ ولا أمل في العود إلى السلطان.»

وما كان ليقول مثل ذلك بعد أسبوعين، ويصبح هربرت خاطبًا لوارثة نمسوية مُثرية وفقَ رغبة أبيه، ويرى بسمارك أن يذهب إلى فِيَنَّة ليحضُر العرس، ويلتمس مقابلة فرنسوا جوزيف فيُقال له إنه سيُرحَّب به، بيدَ أن وِلْهِلْم وأعضاء بلاطه يخشون أن يكون المستشار السابق حاملًا مقاصدَ سيئة، ويئزُّ٣ زعانفُ٤ وِلْهِلْمستراس، ويخافون اكفهرار الجوِّ ويرفعون أصابعَ التحذير، ويكتب الإمبراطور وِلْهِلْم إلى الإمبراطور فرنسوا جوزيف قولَه: «سيسافرُ بسمارك إلى فِيَنَّة في أواخر الشهر، اقتطافًا لِما أعدَّه المعجبون به من استقبالٍ حماسيٍّ، وأنت تعرف أن من آثاره تلك المعاهدة الروسية ذات الوجهين التي وُضِعت وراء ظهرك فأبطلتُها. وما انفكَّ بسمارك منذ اعتزاله يشنُّ حربًا غادرة ضدِّي وضدَّ وزيري كابريفي، وهو لم يألُ جُهدًا في إبداء ضروب المكر والحِيَل حتى يُحوِّل المسائل بما يعتقدُ معه العالمُ أنني أتقدَّم إليه بسُلَفٍ، ويبدو له أن يقوم بمقابلتك كما طلب، وقد تكون هذه المقابلة أهمَّ ما يهدفُ إليه، فأطلب إليك — والحالة هذه — ألَّا تُعقِّد وضْعي في بلدي بمقابلة هذا التابع غير الطائع ما لم يأتني معترفًا بذنبه.»

وفي الوقت الذي يُرسَل فيه ذلك الكتاب الوقح يُرسَل كتابٌ آخر إلى سفير ألمانية في فِيَنَّة الأمير رُوسَّ من إنشاء هُولْشتَاين وبإمضاء كابريفي جاء فيه: «إذا ما زار سموَّكم الأميرُ أو أيُّ واحد من أفراد أسرته؛ فإنني أرجو منكم أن يُقتصَر ذلك على الشكليَّات وألا تقبلوا منه أيةَ دعوة إلى العُرس، وبهذا التوجيه يُخاطَب رجالُ السفارة كما تُخاطَبون. وأضيفُ إلى هذا أن صاحب الجلالة لن يقبل دعوةً إلى هذا العُرس، ونُوصي سموَّكم بإنباء (الوزير) الكونت كلنوكي بهذا الأمر بما ترونه من أسلوب.» وهكذا يُوصَم بسمارك رسميًّا بالرجل الذي لا يُقبَل، وهكذا يُحذَّر وزير خارجية النمسة منه.

ويُخبَر بسمارك سِرًّا بأمر ذلك الكتاب، ويدعو كابريفي إلى المبارزة قائلًا: «لقد اخترتُ شاهدي، ولا تزال يدي اليمنى سليمةً، ولي خبرةٌ في إطلاق النار من المسدس، ولكنني قلَّبتُ الأمر في ذهني فوجدتُني ضابطًا يرى عرضَ الأمر على محكمة شرفٍ مؤلَّفة من شيوخ القوَّاد، ليس لي أن أدعَه يواجه هذا المسدس.» وعلى هذا الوجه يُبدي ذلك المارد بسالةَ الأسد فيه ابنًا للسابعة والسبعين من سنِيه، وهو يريد أن يدافع عن اسمه ومرتبته وشرفه مخاطرًا بحياته، ولن يُرسِل ابنَه ليقومَ مقامه في ذلك، وهو يودُّ مقابلة الموسيقى بنفسه، وهو — كما في كلِّ حين — تُساوره رغبةٌ روائية في ختمِ حياته المكدَّرة بفاجعة.

وبسمارك يسلُك أقومَ الطرق، وبسمارك يصفُ لخُلَّانه «كتاب أوريَّا»٥ هذا بالمجون، وبسمارك يُذيع في جريدته على الجمهور ما يأتي: «إن ما اتُّخذ من الوسائل لحمْل عاهل النمسة على عدم مقابلة الأمير — بعد أن كان مستعدًّا لذلك — حُمِل على انتقاص مقام الأمير الاجتماعيِّ والحَطِّ من قدْره، وعُدَّ إهانةً لشخصه، فلا نَجدُ في سابق سيرة الأمير ما يُسوِّغ ازدراءَه بمثل هذا.» وتنفجرُ هذه القنبلةُ وتُجاوز شظاياها ما وراء حدود ألمانية.

ولم يحدُث منذ وُجدت بروسية أن أثار ملكٌ بروسيٌّ شعبَه ضدَّه بمثل ذلك، ولم يصُبَّ البروسيون في سنة ١٨٤٨ غضبَهم على العاهل الضعيف في الحقيقة، والآن يبدو نصفُ ألمانية في هرج ومرج، والآن حين يمرُّ آل بسمارك من برلين يزدحم الجمهور على رصيف المحطة ويطلب من الشيخ أن يُلقيَ خُطبة، ولكنه يجد من الحكمة أن يضبط نفسه فيصمُت لإحكامه خِطط انتقامه، ويشُقُّ الأمر على طبقة الأشراف في فِيَنَّة ثم تبتعد، ويتظاهر سفير ألمانية بالمرض ويلزم سريره على حين تناضل زوجه الأميرة الفيمارية بشجاعة عن المستشار السابق المشتوم. وفيما تحفُّ ببسمارك تلك المشاعرُ يحتفل ابنُه هربرت بتزوُّجه الكونتِس هويو بعد عشر سنين من امتناعه عن الزواج بإليزابِت هاتسفِلد لمثل تلك الأسباب.

ويشعر بسمارك الشيخ برجوع شبابه إليه تجاه تلك النظرات المعادية، ويُفكِّر مُردِّدًا سابقَ قوله بلسان الحال: «نجهل فوق جهل مَن يجهل علينا!» فيدعو إلى مقابلته رئيس تحرير جريدة نيوفري بريسِّه فيُهاجم الحكومة جهرًا بما لم يصنع مثله منذ أربع وأربعين سنة، وفي الماضي لامَ الملك على نذالته أمام الشعب، والآن يلوم الحكومة على حماقتها حيث يقول: «لا ريب في أن النمسة أفادت ما استطاعت من ضعف مُفوَّضينا وعجزهم في المعاهدة التجارية، وكانت النتيجة عندنا أن أرى الآن في المقدمة أناسًا كنتُ أدَعُهم في المؤخرة لما رُئيَ من وجوب تغيير كلِّ شيء، ثم إنني لا أرى ارتباطي في عهد تجاه أيِّ رجل ذي منصبٍ ولا تجاه خَلَفي، فجميعُ الجسور هُدمت، وقُطِع الحبل الذي كان يربطنا بروسية، وقد عَطِلت برلين من السلطان الشخصي والطمأنينة.»

وفي برلين يستحوذُ الغمُّ على أولياء الأمور، وهؤلاء إذ لم يستطيعوا أن يعيبوا هذا «الشيخ الثرثار» خِفيةً، وجب عليهم أن يقوموا بذلك علنًا؛ ولذا تبدأ الآن جريدتا «المونيتور» بالمبارزة أمام ألمانية الهائجة على حين تنظر أوروبة إلى ذلك بعين الفرح والارتياح، وفي تلك المبارزة لا تُصيبُ كلُّ طعنة تُصوِّبها الحكومةُ الهدفَ، وفي تلك المبارزة تبلغ كلُّ قذيفة يوجهها الخصم غايتَها.

جاء في صحيفة كابريفي: «لا نذكر وجود رجلِ دولةٍ في تاريخ البُلدان الأخرى، بَلْهَ ألمانية، سلَك مثل تلك السبيل بعد ترك منصبه، والذي يلوح أن الأمير لا يألو جُهدًا في نشْر عدم الثقة معقِّدًا بذلك سَوْقَ مركبة الإمبراطورية الصعب، وهل هذا من الوطنية؟ وتخونه ذاكرته، ولا أحدَ يستطيع أن يقدِّر مبلغ الأذى الذي يتأهب الأمير ليصيب به وطنه الخاصَّ.»

وفي اليوم التالي يُبدي بسماركُ نفسَه صِحافيًّا بارعًا، فيبدو معتقدًا أن تلك المقالة من إنشاء رئيس تحرير تلك الجريدة المهاجِمة، وبذلك يمكنه — مع احترام ساخر — أن يوجِّه سِهامه إلى الحكومة غير المسمَّاة فيقول: «إن من المستحيل أن يكون أناسٌ مُحنَّكين مهذَّبين كأولئك الذين يُسيِّرون شئون الدولة مسئولين عن مقالة صِحافيَّة سليطة مثلِ تلك المقالة، ويُفترض أن ذلك قَذْف، ولا يَسَعُ الأميرَ إلا أن يرى من المضحك انتصابَ رئيسِ التحرير بنْتِر فوق منصَّة الخطابة ليعظه، ولا شيءَ يسرُّ الأميرَ بسمارك أكثر من تعقُّبه قانونًا، ولا يجد الأمير محذورًا في ختْم عمله السياسيِّ بتلك الخاتمة الروائية.»

ويظهر أن حَنَق الجمهور الألمانيِّ انقلب إلى ضِحك بعد ذلك الجواب، بيدَ أن أولياء الأمور ببرلين فقدوا رُشدهم غضبًا، فحملوا على بسمارك وعلى نصف الأمة أيضًا، فنشروا في ذلك التاريخ ما أُصدر إلى سفارة فِيَنَّة من إرشادات خسيسة، فبذلك أُتيح لكلِّ ألمانيٍّ أن يقرأ في جريدة «رايْخسانْزِيجِر» كيف أن المستشار الجديد كان حريصًا على إهانة سلفه، ويغلي دمُ الأمة، وفي البداءة عَدَّ مئات الألوف من الألمان عزْلَ بسمارك عملًا غليظًا، ولكن مع الفائدة، فرأَوْا أن الإمبراطور قام بذلك عن دهاء وحسنِ ذوقٍ، والآن يُدرك كلُّ واحد عطَل الإمبراطور من هذا وذلك، ويُسفر ذلك عن تبدُّد آخرِ شعورٍ عدائيٍّ ضدَّ بسمارك بطوفان من الهُتاف الشعبيِّ لم يتفق قبل ذلك لرجل في ألمانية غيرِ متوَّجٍ أو غير لابسٍ بِزَّةً رسمية.

وكان على بسمارك أن يبلُغ الثمانين من عمره قبل أن يفوز بالشعب الألمانيِّ، وبسمارك، نائبًا، كان خصمًا للشعب، وبسمارك رئيسًا للوزارة البروسية كان مكافحًا للشغب، وبسمارك مستشارًا للإمبراطورية كان عدوًّا للريشتاغ، وكان بسمارك في منزله وفي أملاكه الريفية يعيش بين أبناء طبقته الخاصة بعيدًا من الطبقة الوسطى ومن ذوي الثقافة فلا تجد بين عُشرائه أساتذةً ولا رجالَ أعمال ولا أربابَ فنٍّ، وبسمارك عاش بين السياسيين والأشراف ستين سنة، وبسمارك في كلتا الحربين على الأكثر، وفي حياته الزراعية كشريف على الأكثر؛ تنفَّس بمثل هواء هذا الشعب الذي عَمِل من أجل ذراريه عشراتِ السنين فشعر بوجوده.

واليوم تأتي جماهيرُ كثيرةٌ لتحيته في جميع الأماكن التي يمرُّ منها في أثناء رحلته من فِيَنَّة إلى كِيسِّينْغِن، واليوم تلتمس المدن شرفَ استقباله استقبالًا عامًّا، واليوم يرحب به جميعُ أقوام الألمان الذين قهرهم أو عاسرهم كأهل سكسونية وجنوب ألمانية، وتسخر أوروبة من منْع حكومة بروسية مدينتَي هالِّه ومَغْدبُرغ من تكريم بسمارك وذلك حين كانت موسيقى كولبِرْغ الحربية مستعدةً للعزْف، فأخذت تُرسِل ألحانها راجعةً؛ لكيلا تحتفل بعدوِّ البلد، ولكن الفرح يعمُّ ألمانية عند قراءة ما حدث في يِنَا.

فهنالك في السوق القديمة تحتشد المدينة والجامعة وفلَّاحو القُرى المجاورة والأساتذة والوِلدان والنساء، ويستقبل رئيسُ الجامعة الأميرَ في بيت لوثر، ويخرج بسمارك إلى الباحة حيث كانت تشتعل نيرانُ المعسكر الفرنسيِّ منذ تسعين سنة فوجدها بسمارك مكتظةً بالموائد الطويلة وما عليها من قَناني الخمر والجِعَة وبالأغاني وآلات الطرب وبأهل هذه المدينة الألمانية الإقليمية المنتظرين المرحِّبين به ترحيبًا روائيًّا المتشوِّقين إليه المتحمسين له.

وهنالك يتقدم هذا الطويل النِّجاد اللابس معطفًا أسودَ ويطوف على الجموع ويُلقي تسعَ خُطب لا تشتمل واحدة منها على عبارة فارغة، ثم يلتفت إلى تمثال غوتزفون برليشِنجن ويقتبس قولَ غوته الذي أجراه على لسان غوتز هذا جوابًا عن وصفِ وكيل إياه باللصِّ، وإليكه: «لو لم تكن ممثِّلًا لإمبراطوري الذي أُقدِّس له حتى في مثل هذا الوضع القذر؛ لَحَملْتك على ابتلاع هذه الكلمة حتى تُتْخمَ أو تُفْزرَ بها!» وما كان ينطق بالكلمات الأولى من جملة غوتز الغليظة هذه التي ما انفكَّ يُردِّدها في حياته حتى تعالتْ أصوات الهتاف البالغ حدَّ الجنون، ثم قال مستنتجًا: «يمكن الرجلَ أن يكون تابعًا مخلصًا لأسرة مليكه ولعاهله ولإمبراطوره من غير أن يعتقد الحكمة فيما يأتيه عُمَّالُ هذا العاهل أو الإمبراطور من التدابير، وإني غير معتقد وجودَ تلك الحكمة فيما يقوم به عُمَّال وليِّ الأمر عندنا، ولا أكتم رأيي في ذلك في الحال والمستقبل!»

تلك اللهجة هي لإلقاء البهجة في نفوس أُناس من الألمان جلسوا حول موائد أقداحٍ مُدَّتْ في ميدان عام ذات مساء من يوم صيف، غيرَ مسئولين عما قيل بها، وهنالك حين عودته إلى عربته لم يقدرْ على الخطو لشدة الازدحام، فتُبصر مئات الناس يحاولون لمسَ تلك اليد التي ظلُّوا يخشَون شدة وقْعِها ثلاثين عامًا فأصبح صاحبُها الشيخ يمدُّها إلى الجميع للمصافحة، ويسكت عنه ارتيابُه الفطريُّ لقليل ساعاتٍ أو لبضعة أسابيع، ويسأل نفسه عن إمكان صدور أصدق الأقوال وأعمقها من هؤلاء العوامِّ أكثر من صدورها عن طبقته الخاصة التي حسدَتْه حينما كان قابضًا على زمام الحُكم فخانته ثم أسقطته في نهاية الأمر.

وهو في أثناء هذه الاحتفالات والولائم والمواكب التي جعلت من سياحته — مجاوزًا جنوب ألمانية — مظاهرَ نصرٍ، وهو في غضون ما لقيه من ولاء وحماسة وجد ما يدفعُه إلى التفكير في منح مثل هؤلاء القوم من السلطان أكثرَ مما لديهم، وهكذا في تاريخ لاحق، ونتيجة لجور يتوجع منه، يُبصر بسمارك كيف أضاع الفُرَص، وتلك الخُطب كانت أولى خُطَبه الشعبية، وهو قد ألقاها في دوائر البلدية وحانات الجعة وفي أعلى الشُّرَف وفي الساحات العامة بين دِرِسدِن وميونيخ، وبتلك الخُطب ينطق ذلك الشيخُ بإنذاراته المتأخرة كما يأتي:

يقوم النظام الملكيُّ الدستوريُّ الذي نعيش به على تعاون بين إرادة العاهل وقناعة الرعية، ومن المحتمل أن أعَنْتُ من غير قصدٍ على خفض شأن البرلمان إلى مستواه الراهن، ولم أُرِد قط أن يبقى على مستواه المنخفض زمنًا طويلًا، وأتمنى أن أرى في البرلمان أكثريةً ثابتة لِما لا يكون له من السلطان الضروريِّ بغير هذه الأكثرية، وإن الواجب الدائم للمجلس التمثيلي هو أن ينتقد ويرقُب ويُنذِر ويُحذِّر، وأن يُوجِّه الحكومة في بعض الأحوال، ولا يهدأ لي بالٌ حول دوام نشوئنا القوميِّ ومتانته ما لم يتحول الرَّيشتاغ على ذلك الوجه، وفي الماضي كنت لا أدَّخر وُسعًا في تقوية الشعور الملكيِّ في الشعب، وقد هُتف لي وشُكر لي في البلاطات وفي العالم الرسميِّ مع رغبة الشعب في رجمي، واليوم يهتف لي الشعب ويُصفِّق لي على حين يطوي أركانُ البلاط والأوساط الرسمية كشحًا عني، وأظنُّ أن هذا يُسمَّى سخرية القدر.

فبتلك البراعة يتخلص ذلك النقادة الأعظم في أصعب أدوار خطته حين يهدف إلى التأثير في الجمهور، والحقُّ أن تصرُّفه ينطوي على سخرية فاجعة، وهو يعرف هذا، وعن هذا التحوُّل المتأخر يصدُر سُهاده، وإذا نظرتَ إلى عمله السياسيِّ في جميع حياته وجدتَه مركَّزًا تركيزًا ذاتيًّا، مُفكَّرًا فيه تفكيرًا ذاتيًّا، موجَّهًا له توجيهًا ذاتيًّا، وبسمارك في جميع حياته يردُّ كلَّ شيء إلى المبدأ الحكوميِّ الآتي وهو: أن عِداءَ بسمارك العميق للشعب لم ينشأ عن رغبته في الإشراق ما دام استخفافه بالناس صانه من هذا الزهوِ، كما أنه لم ينشأ عن نَيله سلطانَه وحفظِه هذا السلطانَ بفرضه من عَلٍ، وإنما نشأ عما في الرجل من ذكاء يُعَدُّ ضربًا من العبقرية الفطرية وعن شعوره دومًا، ومن ناحية الدم بأنه سليلُ طبقة عالية، فلا يريد الحكم بسوى هذه الطبقة التي هي طبقتُه وإن لم تكن هذه الطبقةُ عنده دون غيرها محلًّا للانتقاد، وكان يرى أن الملك وطبقةَ الأشراف ركنَا الدولة، فلا يعدو منحُ حقِّ التصويت العامِّ حدَّ إعطاء جيلٍ يسير في الظلام امتيازًا عن غصبٍ، فمن إضعاف البرلمان وإخضاعه لسلطة الملك يتألف مبدأ بسمارك الأساسيُّ بانيًا للدولة، وعلى هذا المبدأ سار بسمارك في عشرات السنين.

ولم يكن النظام الملكيُّ القويُّ الذي كان يُباهي به بسمارك في اللَّندتاغ والرَّيشتاغ غيرَ سلطان صوريٍّ كالنظام الملكيِّ الإنكليزيِّ الذي لم يُقصِّر في انتقاده، ولكن بينما ترى الشعب في إنكلترة جوهرًا لشكل النظام الملكيِّ ترى جوهر شكل النظام الملكيِّ في ألمانية هو المستشار، وإن شئت فقُل بسمارك نفسه، وبسمارك قد عرف بما فيه الكفاية وجهَ الخدعة في ملاعبته الشعب، وذلك من غير أن يأذنَ لأي غريب أن يدخل بين الإمبراطور والمستشار في تلك الرواية الاستبدادية، والإمبراطوريةُ هي إمبراطوريتُه، ولا يرى لسواه حقًّا في إصدار الأوامر، وما كان ليرضى بعمله، وما كان لاعتداده بذاته أن يسكُن بغير هذه الشروط، وقد دام هذا حتى حدث المستحيل، وهو أن الملكية التي ما فتئ يُعلِن سلطانها مدة ثلاثين سنةً قُضيت في مكافحة ممثلي الشعب؛ لم تَنشَب أن تجسدت في شخص آخر فبدتْ بكلِّ قوتها وأسقطت مولاها، وهنالك وقف ذات حينٍ وحيدًا بلا وليٍّ وبجانب الشعب.

والآن حينما انحاز الشعب إلى بسمارك اعترف هذا الشيخ بما في حساباته من خطأ، والآن يقفُ بجانب الشعب عن هوًى غريزيٍّ؛ أي لمثل السبب الذي سبق أن وقف به مخلصًا بجانب النظام الملكيِّ، والآن يتنزل عن مقدار كبير من كبريائه فيعترف أمام بني وطنه وأمام أوروبة بقوله: «إن من المحتمل أن أعنتُ — عن غير قصد — على خَفْض شأن البرلمان إلى مستواه الراهن.»

وفي تلك الأسابيع يقيم رجال الفن بميونيخ وليمةً له، ويرفع لينباخ قعبًا مملوءًا بجعة ميونيخ تكريمًا لضيف الشرف، ولكنه وجد قعبَ الجِعَة من الثِّقَل ما خشيَ معه أن يُسقطه فأعاده إلى المائدة، وهنالك يصرخ بقوله مُلهَم هزَّ به مشاعرَ الحضور، وهو: «مَن يعجز عن حمْلِه يضعْه!»

وبتلك الكلمة المرتجلة يلخص المصور ما بين وِلْهِلْم وبسمارك من صراع، ويقول بسمارك: «إذا ما دنا قطاري من محطة وأخذ يدخلها ببطء سمعتُ هُتاف الجمهور الذي ينتظرني وهزجَه فيكاد قلبي يطير فرحًا من عدم نسيان ألمانية إيَّاي.»

١  البكيم: هو الأبكم.
٢  المونيتور: هي جريدة الحكومة الفرنسية فيما بين السنة الثامنة من العهد الجمهوري حتى سنة ١٨٦٩، وقد أنشأها الكتبي بانكوك سنة ١٧٨٩.
٣  أَزَّت القِدر: غلَتْ.
٤  الزعانف: جمع الزعنفة؛ أي القصير.
٥  أوريا: ضابط عبريٌّ وزوج لبتشابع التي أُولع بها داود فأرسله إلى مركز خطر حيث مات — كما جاء في التوراة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤