الفصل الثاني

دامت المراقص تتابع مدة، وأنا أخلو بلويزا، وأحدِّثها مليًّا غير خائف من عين عمِّتها، وأدنو منها شيئًا فشيئًا، وأجعل ذراعها في ذراعي، وأهمس في أذنها ألف شيء من جدٍّ وهزلٍ، وعاودتني دعتي، وأخذت طلاقتي القديمة كأني أسير رأي النار بعد الأسر الطويل، وجعلت أترصَّد الفرص لأخْلُو بها، وأفتح لها قلبي، وأبادلها حديث الشباب.

على أنني رحت في تفكُّرٍ طويل، وتساءلت عما إذا كانت عواطفي نحوها ليست من وراء هوًى خفيٍّ ناعم الظفر، ينمو ويترعرع ضاحكًا من إرادتي ساخرًا بها، ثم جعلت أتمثَّل حالتها فيما إذا اشتد الحب بيننا كيف تكون، وهل إنَّ إله الغرام يسترنا، فلا تنفذ إلينا مُلِمة رجَّافة، ولا تصل إلى كَبِدينا سهامٌ صائبة؟ أو أنَّ ريتا تغار عليَّ ممن أهواها، فتدس لها السم، وتدمِّر رجاءها، وتدك مُناها، ثم تسرع إليَّ وتُعِيد عليَّ ما قالته لي من قبل: «أنت مُطلَق الحرية إلَّا بقلبك؛ لأنه لي وأسمح لك بكلِّ شيء إلا بالخيانة.»

ولكن كيف كانت الحال، فإن ريتا عشقتني، فهي تقاوم كلَّ ما يحول دون عشقها، وأنا اليوم عشقت لويزا، فيجب عليَّ أنْ أقاوم كلَّ ما يحول دون عشقي مقاومةَ الرجال الأشداء؛ لأن مَن أهواها كأنها ملاك كريم تستحقُّ أنْ أُلاقِي لأجلها بعضَ الشَّقاء والعناء، ولما كان الله — عز وجل — قد جعل لكلِّ يوم صباحًا ومساءً، ولكلِّ شأن ابتداء وانتهاء، فقد أوفي اليوم بحب ريتا على الختام، وكأني أرى شمس حبِّها مُغلَّلة بأطراف الظلام، وأرى شمس حبي مُزْدَهية في مشرقها جميلة في تألُّقها، وبينا هي تودِّع غرامها أستقبل غرامي، وبينما عيناها تدمع لبعد من تهواه، أمتِّع أنا عيني برؤية حبيبتي لويزا الشبيهة بالملاك، وهكذا الأيام يومٌ لهذا ويوم لذاك.

وبينما كانت الأقدار تجري في مجراها، والأيام تترامى في مرماها، حدث حادِث أقلق فكري، وشدَّد عليَّ أمري؛ وذلك أن شابًّا من أكابر الباريسيين رأى لويزا في المراقص، فعشقها وتيَّمه جمالها، فبات وهو شريد البال، كثير البلبال، طويل الليل والبكاء، أليف السهاد والعناء، فطلب إلى أبيه أنْ يخطبها له من البارون، وفي ذات يوم كنَّا معًا نتجاذب أطراف الحديث، فقال البارون لولجونريت: لقد جاءني اليوم مسيو دي فرفيل، وأخبرني أن ابنه رأى لويزا، فأحبَّها حبًّا شديدًا، أفضى به إلى حالة صعبة جدًّا، وقد الْتَمَس مني أنْ أسألك عما إذا كنتِ ترْضَينَ أنْ يكون صهرًا لك، وقد رأى أن لا يطلبها منكِ عروسًا لابنه قبل أنْ تستطلعي أفكارها في هذا الشأن.

فقالت ريتا: إنَّ دي فرفيل من أرباب البيوتات العريقة في الشرف، الشهيرة بالغنى والوجاهة، فلا أرى أنسب من هذا الزواج، وقد لا يكون زوجًا للويزا أحسن من ابن دي فرفيل، ولكن هل أخبرك دي فرفيل بشيء عن مهر ابنه؟ فقال البارون: نعم، قال إنه يعطيه كلَّ أملاكه بشسناي، وهي تُقدَّر بخمسمائة ألف فرنك دَخْلُها في السنة ينيِّف على ألف فرنك، ويعطيه أيضًا مَسْكنًا في باريس يُقدَّر بمليون فرنك، فقالت ريتا: إنَّ هذا النصيب فوق ما كنا نُرجِّي، فلا تدع إذن هذه الفرصة تفوت، فإنها من أسعد الفرص، وقد أتت على غفلة من الليالي، فقالت جونريت: إذا رَضِيَتْ لويزا بذلك، فأنا لا أعارض فيه أبدًا، وأرى رأيك مصيبًا فماذا تقولين يا لويزا؟

فوقفتْ دورة دمي عند هذا السؤال، وانقلبت ملامحي من حال إلى حال، فقلتُ أناجيها سرًّا الوداع الوداع أيَّتُها الحبيبة الجميلة، فما هي إلَّا دقيقة حتى تنصرف أميالك عني، وتتغيَّر نظراتك إليَّ، ويخلفني آخر في قلبك الشريف الطاهر، وما هي إلَّا لحظة حتى يغلبك المال على الهوى، وما هي إلَّا لفظة من فمك الوردي حتى تموت نفسٌ، وتحيا نفس، وتكبر آمال، وتخيب آمال، فإنَّنا لله وإن إليه المآل، وأصبحت أفكاري كأنها غوارب دأماء، قلقة لا تَثْوي في اللُّجَج، ولا تستقر فوق الماء، رجافة تنحت مكاسرها بأظافيرها، وتمتزج أوائلها بأواخرها، فعلمت عندئذٍ ما فعلت عيناها بسويدائي، وما أسالت ابتساماتها في دمي وأعضائي، وأن ذلك ناجم عن غرام غير ممازح، اطمأن في القلب والجوانح، وتأكدت أنَّ ابتسامات العذارى قادرة، وأنَّ عيونها ساحرة، وأنَّ نظراتها بالقلوب أمَّارة تصيد حبَّاتها بغير صنَّارة، ودون استشارة، على أن موقفي في ذلك الوقت كان أعظم وأشد مما يَتصوَّر القارئ؛ لأني مع ما تولَّاني من الخوف والألم كنت مضطرًّا أن ألازم الصمت، ولا أفوه بِبِنْتِ شَفَة، وأن أتكلَّف الهدوء والسكينة، وأتظاهر بعدم الاكتراث بهذا الأمر والاهتمام به، على أن دمي ماعَتمَ أن دار في عروقي دورته المعتادة، وأخذ وجهي صفاءه المألوف دون أن يُدْرِك أحد من الحضور ما حلَّ بي؛ وذلك لأنهن كنَّ مستغرقات في الحديث.

فقالت مدام جونريت لابنتها: ما رأيك يا ابنتي في هذا؟ وهل أنت راضية بهذا الخطيب؟ أم هناك مانع يحول دون وصوله إليك؟

فقالت لويزا بصوتٍ غير مُتقطِّع ولا مُترَجْرِج: ما كنت يا أماه لأخالف لك رأيًا، وإني أرى ما ترين حسنًا، وأعد ما تشتهينه عليَّ فرضًا من الفروض المقدَّسة الواجبة على أني إطاعةً لأمرك وإجابة لسؤال عمتي أُبْدِي رأيي في هذا الأمر الخطير؛ لأن عليه تتوقَّف حياتي وسعادتي وشقائي، ولما كانت الحياة طويلة وعزيزة أيضًا كان من الواجب علينا أن نتفكَّر في الأمر مليًّا، وننظر إليه من جميع وجوهه، وأن لا نتهافت على عمل ربما ساءت عُقْباه، واضطرتنا أن نعَضَّ أطراف البنان، حيث لا تنفع الندامة ولا تُجْدِي الأحزان.

– ومتى يقرُّ قرارك، وتطمئن أفكارك، أبعد شهر أم بعد شهرين؟

– إن أمرًا كهذا عظيمًا تتوقَّف عليه السعادة والشقاء، لا يُجزَم فيه بدقيقة واحدة، وإن لفظة تُعلَّق عليها حياة كاملة لا تُقال بلحظة واحدة، بل ربما لا تُقال بعد عدة شهور.

– إن كلامك يا بنتي مع ما فيه من الحكمة فهو غير مُقْنِع؛ لأن ظروف الحال تقتضي غير ما تقولين؛ لأنك تعرفين ابن فرفيل حقَّ المعرفة، وقد رَقَصْتِ معه مرارًا وكلمته، ومازحتِه، فكيف وجدت أخلاقه وعقله وحديثه؟ وهل مال قلبك إليه؟

– هو على أرفع درجات الأُنْس يسحر القلب بعذوبة اللفظ، ودماثة الخلق، وانتظام الملامح، وله في امتلاك الفؤاد وسائل من الحكمة، وله في اجتذاب العواطف سبلٌ من الحديث لا يَسَعُ السامع الامتناع عليها، ولا يقوى على الوقوف دونها، وهو مع ذلك بارع بالرقص سريع الحركة، خفيف الانتقال والوطء، له مهارة عجيبة وخِفة غريبة.

– أيحلو لكِ؟

– إني لا أستقبحه.

– إذا كان على ما ذكرت جامعًا العلم وكمال النُّهَى والمال، فماذا ترومين أن تعلمي عنه أيضًا؟

– أروم أن أعلم ما إذا كان حسن الذوق، ليِّن العريكة، شريف النفس، يحب الخير، ويعرف الشفقة على الإنسانية، ويغضي عن الهَفْوة، وإذا كانت طباعُه توافق طباعي وإذا لم يكن ذا خصال وخيمة وعوائد تجرح الآباء وتخفض المقام، وأروم أن أعرف أخيرًا إذا كان يرى الحياة بالعين التي بها أراها، ويقضيها كما أرضاها، وإذا كان قلبي يميل إلى قلبه أم لا؟

– أي إنك تعتمدين في ذلك على ميلك؟

– نعم، على ميلي وهذه هي الكلمة الوحيدة التي تجمع جميع أفكاري.

– إن ابن فرفيل ذائع الصيت، طائر الشهرة بالمال والأدب والجمال، وأمثاله في باريس يُعدُّون بالآحاد، فإذا كنتِ لا ترضينه زوجًا لك تندمين أيَّة ندامة، وتُلامين أيَّة ملامة، وإذا كنتِ لا تتزوجين إلَّا برجل مثل الذي وصفته لنا، فعنقاء مغرب أدنى إليك منه وإن الحياة يقظة، ثم غفلة لا يدري المرء كيف تمر، وبينا هو في زهوة الشباب إذا هو أبيض الشعر على منتهى العمر فتبصَّري يا بنتي، وأنعمي الفكرة قليلًا لعلكِ تهتدين إلى الصواب، فتلِجِين هذه الجنة المفتوحة أمامك قبل أن يُقفَل دونك الباب، وتقضين أيامك بألم الانتظار وتعب النفس وبلبلة الأفكار.

فابتسمت لويزا لكلام أمِّها ابتسامة ملوكية، وأجابتها بصوتٍ يتجاذبه طرفا المزاح والجد قائلة: سأنتظر ما يشاء الله.

فسكت الكل سكوتًا تامًّا، وظهرت على وجوههم علامات الاكتئاب والكَدَر إلا البارون فركنباك، فإن وجهه امتلأ سرورًا، وإن عينيه طفحتا حبورًا، وكأن رفض لويزا جاء مُطابِقًا لإرادته، مُوافِقًا لأفكاره، فأخذ يُلاطِفها ويؤانسها، ثم قال لها: أتذهبين معي إلى الأوبرا في هذا المساء؟

– أيَّة رواية يمثِّلون اليوم؟

– رواية الفتاة المجنونة، وهي ذات ثلاثة فصول، وفيها ألحان مؤثِّرة حسنة التوقيع.

– أذكر أنني قرأت هذه الرواية في صِغَري، ويسرُّني جدًّا أنْ أرى تمثيلها.

– سوف تطْرَبِين منتهى الطَّرَب، وتجدين في تمثيل رواية الفتاة المجنونة، وألحانها آياتٍ تُوجِب العجب، وتأخذ بمجامع الألباب، وتنتهب الأسماع أيَّما انتهاب، ولا جَرَمَ أنَّ أمَّك جونريت تودُّ أنْ تقاسمنا هذه المسرَّات وتشاطرنا هذه الملذَّات.

فعَبَسَتْ جونريت، وقالت: دعْنِي من روايات المجانين، فقد شاهدت اليوم رواية لا تقل عن تلك حقيقة ومعنًى، وأبصرتْ عيني اليوم فتاةً أجنَّ من فتاة الرواية وأكثر اغترارًا منها.

فأجابتها لويزا من فورها، وقالت: إذا أُنْزِلت الحكمةُ منزلةَ الجنون، وعُرِّضت الدِّراية لسِهام السَّبِّ والملام، فقولي على الحكماء العَفاء وعلى الحكمة السلام.

فلم تُجِبْها أمُّها على أنها ضحكت ضحكة مستغربة، ثم التفتت إلى البارون، وقالت إني أسمح لها بالذهاب معك إذا وعدتْنِي أنك تردُّها عن غيِّها وتحوِّل أفكارها ولا تفارقها غرارًا.

فقال لها البارون: كوني ناعمة البال مُطمِئنة الخاطر؛ لأني سوف أداريها، وأبذل وسعي لأسليها، وأشرح صدرها، ثم نظر إليَّ وقال: قم بنا يا مكسيم إلى المكتب، فإن عندنا شئونًا كثيرة نقضيها اليوم.

فقمنا للحال ومضينا، وبينما كنا على الطريق قال: إني مدعوٌّ للرقص مع جوزيفا في هذا المساء، وقد ضربنا موعدًا، وقلنا الحِرُّ يُنْجِز ما وَعَد، فيجب أن أذهب إليها، وأتمتع برؤية عينيها، ولو كنت أعلم أن جونريت تعتذر عن المجيء إلى الأوبرا؛ لما دعوت لويزا وشدَدْتُ عليها، فكيف العمل الآن؟ وما هي الحِيلة للهرب؟ وأيُّ عُذْر أتنصَّل لأفْلِت منها؟

فقلت: إنَّ هذا الشكل صعب يجب أن تحلَّه على وجه حسن مقبول؛ لأنك إذا أخلفت وعدك إلى لويزا تسيء إليها فتسيء الظن بك، ثم إنك تحرِّك أفكار البارونة، وتولِّه أفكارها إليك، وربما أفضى بك هذا الأمر إلى ما لا تشتهيه.

فقال: عونك يا مكسيم، فأنا الآن بين نارين، وكيفا أصنع أُلامُ، وبينما أنا أَفِي بوعد أُخْلِف بوعدٍ، وبينما أقضي حقًّا واجبًا أهمل حقًّا آخر؛ لأنها (ثم فكر قليلًا)، وقال: نعم، نعم، وجدت حلًّا لهذا المُشكِل لا يكون أحسن منه، وهو أنْ تجيء إلى الأوبرا يا مكسيم، وتنتظرنا هناك إلى أن نجيء، فأعهد إليك مؤانسة لويزا ومحادثتها، ريثما أروح إلى جوزيفا وأعود، وإن هذا الحلَّ على ما أرى بقدر ما يسرُّني يسرُّك؛ لأنه من حيث يمكنني من الاجتماع بحبيبتي يجمعك بحبيبتك، ثم أطْرَقَ هُنيهةً، وقال: إن لويزا تهواك وتميل إليك، وقد اتضح لي ذلك اليوم من رَفْضِها ابن فرفيل؛ لأني لا أصدِّق أنَّ امتناعها كان لعِلَّة من العلل التي ذكرتها، بل إنَّ ذلك لأمرٌ دفين في صدرها، قد تغلَّب على عواطفها، وقيَّد إرادتها، وهذا الأمر هو الغرام.

وإذ ذاك وصَلْنا المكتب، فجلس كلٌّ على طاولته، وبدأنا بالعمل حتى عصاري النهار، فانصرف كلٌّ إلى حيث شاء.

ولما هبطت حُجُب الظلماء، وزحفت جيوش الدجنة على بقيات الضياء، ونشر الليل رواقه في الفضاء، ونابت عن شمس السماء نجومها الوضَّاءة، قمت إلى الأوبرا لأُكَحِّل عيني بمنظر الحبيب، وأفتح لها قلبي الأشد وجدًا من جميع القلوب، وأريها بماذا أصيب، وأسأل قلبها الطاهر الشريف، الرفق والرحمة بقلبي البائس الضعيف، فرأيت الناس يُهْطِعون من كلِّ أوبٍ إلى الأوبرا زُمرًا وفُرادى، هذه تتيه في دلِّها، وتلك تتهادى بين عُشَّاقها، فسرَّحْت طرفي في هذا السواد العظيم علَّ أن أرى مليكة الفؤاد، فارتدَّ الطرف كليلًا، دون أن يعرف إليها سبيلًا، ولم يفده البحث فتيلًا، فكَثُرت تأوُّهاتي، ولجَّت بي حسراتي، واشتدَّ عليَّ البلبال، وأخذ مني الخيال، وهلع قلبي حتى كأني لست من الرجال، فندمت على إسراعي بالمجيء قبل اللزوم، وهكذا المرء إذا جدَّ إلى شيء، ولم يجده تتناوله الهموم.

فجلست قَلِقًا مضطرب البال واجفَ القلب، أفكِّر في لويزا، وفيما يجب أنْ أصنعه لأكتسب حبَّها وأملك قلبها، وهمَمْت أن أحمل قلبي على يدي وأذهب إليها، وأنطرح على قدميها، وأقدِّمه لها وأقول: حنِّي أيتها العذراء الجميلة بنظرة على هذا القلب الولهان، فإن نظرة من عينيك تردَّه سعيدًا، ونظرة من ناظريك تجعله تعيسًا وتغادره صريعًا فقيدًا، على أني خِفْت من أن شهرة الغرام على هذه الصورة تُخْجِلها، فيفر قلبها، ويجفل عني فأكون كَدَّرْت بلحظة واحدة الكأسَ التي اشْتَغَلْتُ في تصْفِيتِها أكثر من شهرين، ورأيت أن من الحكمة والضرورة انتهاج غير هذا الباب، واستخدام وسيلة دانية المتناوَل أقرب من تلك لبلوغ المُنى وإدراك الأمنية.

وبينا كانت عيناي لا تستقران في مكان، وفؤادي لا يهتدي سبيلًا إلى الدعة والاطمئنان، وكانت تموُّجات بصري تنهال على الجمهور، ودمائي تدور في عروقي ما تدور:

أقْبَلتْ تنثني بقدٍّ رشيق
وجمالٍ تَغار منه البدور
تتهادى في مشيها مثل غصن
هزَّه في مروره العصفور

كأن طلعتها صباح العيد، وكأن عينيها رشدٌ بدا للهائم الشريد، بيضاء صاغها النعيم، فأدقَّها وأجلَّها، وجعل الجمال في مقاطعها كلِّها، قد ازدهت بطهارتها، واطمأنت ببكارتها، فهي مثل البدر بهاءً، وأكثر من المهاة دلًّا وحياءً، وهي مثل الورد تلوينًا وأكثر منه رقة وأجلُّ تكوينًا، وهي مثل الشمس ضياءً، لكنها لا تغيب مساءً.

قد كونها الله تعالى:

من استدارة القمر
إلى لطافة الزهر
إلى تراوح العشب
إلى رشاقة القضب
فلحظات الريم
فقلق النسيم
فبهجة الشعاع
فقسوة السباع
فزهوة الطاووس
تأخذ بالنفوس
فالشهد في المذاق
فخفة الأوراق
إلى الْتِفات النَّبْت
ذا خفَّة وثبت
فنغم الهدير
فهذر العصفور

فقمت لملاقاتها، أَعِدُ العين برؤية وجهها، والفم بتقبيل وجناتها، وكانت لابسة ذاتَ المطرف الذي رأيتها به أول ليلة رقصت معها، وكان زيُّ شعرها مثله يومئذٍ، فلما دَنَوْت منها أخذتني هزَّة مثل الهزَّة التي شعرت بها يوم خاصَرْتُها، ولم أَعُدْ أعي ما أقول وما أفعل، ونسيت ما كنت همَمْتُ أنْ أقوله لها، ولم أقف الوقفة التي كان يجب عليَّ أنْ أقفها، وخِفت أنْ أوجِّه إليها أنظاري وأصرفها، فابتدرتها بالسلام، فمدَّت إليَّ يدها البيضاء، وردَّت السلام بأحسن منه، ثم قالت: إني أحمد الظروف التي أسعدتني بلقاك، وإني أشكر الإله الذي سمح لي بأن أشاهدك وأراك.

فأجابها البارون قائلًا: إنني ضربت موعدًا لصاحبٍ لي، وأنا ذاهب إليه فهل تأذنين لي؟

فقالت: بقدر ما يسرُّني لقاء مكسيم يسوءني فراقك، وأنا الآن رابحة وخاسرة بوقتٍ واحد.

ولما ذهب البارون ابتدأت الموسيقى بضرب الألحان الرخيمة، وأخذ الممثلون بتمثيل أدوارهم، فأجادوا إلقاءً وإيماءً، وكانت خلاصة الفصل الأول حبيبين يتبادلان عبارات الغرام، ويشرحان هواهما، وحينما انتهى الفصل الأول همَمْت أنْ أقبِّل يديها، وأركع على قدميها، وأفتح لها كتاب الغرام الذي آن لها أنْ تقرأه وأخبرها أني أهواها، وأروم الاقتران بها، وأنَّ عمَّها يود ذلك ويتمنَّاه، ولكن خانتْنِي قواي، وتوقَّف الكلام على فمي، وخفق قلبي، فقالت: أتظن يا مكسيم أن غيبة عمي تطول؟

فقلت: إنه آتٍ عن قريب وقد أكَّد لي ذلك.

وابتدأ الفصل الثاني، وتلاه الثالث، وفيه التقى العاشقان بعد الفراق الطويل، وأُسْعِدا بعد العناء والشقاء، فرأيت لويزا صامتة لا تُبْدِي حراكًا لشدة تأثير التمثيل عليها، ثم إن المُمثِّل أخذ حبيبته بين يديه، وضمَّها إلى مذبح الحب، وقبلها قبلة دوَّى منها المرسح، وتأثَّر لها كلُّ الحضور فنظرت عندئذٍ إلى لويزا، فرأيت عينيها ممتلئتين بالدموع، وكأنها طربت لحديث الحب السماوي، وسُرَّت لاجتماع الحبيبين بعد العذاب والتبريح، ثم إن الدمع غلب عليها، فتركتني وذهبت إلى القاعة بسرعة فتتبعت خطاها، فجلستْ على المقعد وجعلت تبكي وتتأوَّه مثل الطفل الصغير، فجلست على قدميها وأمسكت يديها، ثم ضممتها إلى صدري، وجعلت ألاطفها، ثم قلت: لماذا تبكين يا حبيبتي؟

فقالت: إني تعبة، وأحس بدوران خفيف، على أنَّ هذا يحدث لي أحيانًا ثم يزول، فكن مُطْمئِن البال ولا تُرَعْ.

فثارت في دمي عندئذٍ مفاعيل الغرام، وتسابق على لساني الكلام، فقلت لها والدموع تسيل على الوجنات: وأنا أيضًا أشعر بما تشعرين، وليس ذلك لعِلَّة مثل عِلَّتك، بل ذلك لمرض في الفؤاد دفين … لويزا حبيبتي حياتي مليكتي إنني أهواك وليس في الهوى لوم، وأنا أهواك منذ شهرين مثل ما أهواك اليوم، وقد براني هواك حتى لولا العظام، لكنت مثل الخيال، فهلا رفقت بقلبٍ يحتوي على فؤادك؟ وهلا رحمت فتًى شقيًّا ليس يقوى على جفاك وبعادك؟ وإلَّا فردي إليَّ فؤادي وأعيدي إليَّ رشادي.

فاحمرت عيناها، وتورَّدت وجنتاها، وفاضت دموع عينيها أكثر من قبل فجعلت أُكَفْكِف عبراتها وعبراتي، وأمزج زفراتها بزفراتي، وتأوُّهاتها بتأوُّهاتي، ثم قلت: أيتها الغادة الطاهرة الكريمة قولي كلمة، ردِّي عليَّ بلفظة أو بحركة أو بإشارة، احكمي على مكسيم بالسعادة أو بالشقاء، فإن نفسي تكاد تموت، فنَهْنَهت دموعها، واعتدلت على المقعد، ثم قالت: لقد سبقتني إلى ما كنت أسعى إليه، وفتحتَ لي قلبك قبل أنْ أفتح لك قلبي والآن إذ برح الخفاء، وتمَّ لي ما كنت أشاء، فأنا أقرُّ أمامك بغرامي، وأعترف أنك حبيبي وبهجة أيامي، وقد ملكت قلبي، وسحرت لُبِّي، وأن هذا الجسم الماثل لديك، تحييه وتميته نظرةٌ من عينيك، ولكن هل غرامك طاهر شريف، أم إنك تخادعني لتنال مأربًا دنيئًا؟ فقلت: معاذ الله أنْ أخادعك كما يفعل النذل، وأن أضع شرفي مَوْطِئ النعل، وإنما أنا أحبك حبًّا أصفى من القطر، وأكبر من السماء والبحر، وأقسم لك بالله وأسمائه، وملائكته وأنبيائه، إنني أهواكِ هوًى عذريًّا نقيًّا، أبقى عليه إلى أن أقترن بك أو أموت.

فعدنا عندئذٍ إلى المرسح وما كدنا نصل حتى دخل البارون، وعلى وجهه شيء أبيض علق به من خدود جوزيفا.

فقال لها: لا مِرية في أن مكسيم لم يترك قصة لم يقصَّها عليك؟

فقالت: نعم، وإنني أشكر له لطفه، فقد قصَّ عليَّ نوادر لم ينلني معها ضجر.

ولما انتهى التمثيل استأذنْتُها بالذهاب، ومضيت على وجهي، لا أعلم كيف أذهب وأنَّى أسير، وجعلت أعدو في الطريق حائرَ الفكر رجلاي على الأرض وعيناي في النجوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤