الفصل الخامس

رقَّاني فركنباك إلى أهمِّ خدمة في مكتبه، وهي فضُّ الأمانات، ففي كلِّ صباح كانت تأتيني رسائل ألمانيا، ورسائل الولايات المتحدة فأترجمها لفركنباك، وبحسب أمره أُجِيب عليها، فبقدر ما تكون الرسائل كثيرة أو قليلة يكون شغلي كثيرًا أو قليلًا.

فبينما كنت ذات يوم عنده أحمل إليه رسائل الخارج وأنتظر أنْ تُمْسِكها تانِكَ اليدان اللتان تنثران دُرًّا حين الكتابة، إذ دخل الخادم وفي يده بطاقة دفعها إليه، فلما قرأها ترك ما كان في يديه وأمرني أنْ أجلس على مكتبه، وأطوي الكتب وأرسلها لأربابها، وقال: أنا ذاهب، أستودعك الله وأرجوك أنْ تذهب إلى البارونة وتقول لها ألَّا تنتظرني؛ لأني مدعوٌّ للأكل عند صاحبٍ لي في أمستردام وهو يُلحُّ عليَّ بالذهاب إليه.

كان هذا الوقت أَنْسَبَ وَقْتٍ وأقرب وسيلة لاختبار مبدأ لامبون، وما كاد البارون يخرج من الباب حتى طويتُ الكتب وأرسلتها، ثم ركبت عربة وسِرْت إلى قصر فركنباك، فذهب الخادم وأعْلَمَها بحضوري، ثم عاد وقال لي: البارونة ترجوك أنْ تنتظرها ريثما تنتهي من بعض شأنها، فانتظرتُها زمنًا طويلًا ولم تأت فخِفتُ، وارتبكت أفكاري، وقلت: إذا قَصَرْتُ زيارتي على إبلاغ ما كُلِّفْتُهُ يعْظُم البلاء، وأجْلُب عليَّ غضبها المُؤبَّد، وإذا فاتحتها بغير ذلك فأي إظهارات تُظهرها لي …؟

وإذا بها مُقبِلة وعلامات الغضب على وجهها، فأمرَتْني أنْ أجلس، ثم قالت بازدراء: طلبتَ مقابلتي، فماذا تريد قلتُ: إني آتٍ من قِبَل البارون لأُخْبِرَك أنه مدعوٌّ للأكل في أمستردام في هذا المساء عند صاحبٍ له، فضحكت مني ضحكةً معنويَّة، وقالت: إنَّ الهولندية التي يحبُّها البارون تُدعَى جوزيفا، وهي أستاذة في أكاديمي الموسيقى، وبيتها في شارع أمستردام … إنك تنقُل الحديث بحروفه، فماذا يعطيك البارون مكافأةً على هذه الخدمة؟

فدار في رأسي غدير دمٍ كاد يقتلني لهذه الإهانة، وأجَبْتُها بوجهٍ صَفَعَتْه الشماتة، أقسم بالسماء وبالأرض، وأقسم لك بكلِّ عزيزٍ لديَّ أني أجهل كلَّ هذه الشروح، وفاضت عيناي بالدموع.

فقلتُ لها والعبرات تتسابق من عيني: لقد عاملْتِني بالقسوة الزائدة، ولو كانت هذه الإهانة من غيرك، لهانت علي، ولكني لا أحتملها ممن أهواها وأفتديها بروحي، بماذا أذنبت إليك يا سيدتي فتقابليني بهذا الجفاء؟ فقالت: وقد أخذَتْ عبوسَتُها بالزوال: أرجوك أنْ تعذُرني فقد غلبت عليَّ الانفعالات النفسانية، وإني أصدِّق مَقالَك، فقلت برِقَّة وتذلُّل: قبل أنْ أذهب من هذه القاعة التي ربما مَنَعْتِني عن دخولها مرة أخرى أُقِر إقرار المُدْنَف أني أهواكِ، وأني من يوم رأيتك على هذا المقعد الذي أنت عليه الآن جميلة كالصبح، شعرت بشيء خرج منك واستولى على قلبي فأخذه مسحورًا:

سَجَدَ الجمالُ لحُسْن وجـ
ـهِكِ واسْتراح إلى جَمالك
وتشوَّقت حُور الجِنا
ن من الخلود إلى مِثالِك
فعشقت وَجْهَك إذ رأيـ
ـتُكِ واعتمدْتُ على وِصالِك

وعندما وضعتِ يدَك في يدي لأول مرة حَسِبْت أني أهواك هوًى فوق كلِّ هوًى، وحينما فتحتِ لي قلبَك الطاهر وأطلعتِني على أسراره ومكنوناته، شعرت بقوة لا أعلم ما هي، وأعلم فقط أنها هاجت دمائي، وأثارت أعصاب يدي التي كانت بيدكِ فاضطربْتُ اضطرابًا غير مألوف، ولم أنم كلَّ ذاك الليل، فإن صُورَتَك البهيَّة كانت دائمًا نُصْب أفكاري وعيني، وإذا كانت القلوب على القلوب شواهد، فلا بُدَّ أنك شعرتِ شعوري، على أني خِفْت عقبى هذا الغرام، وخفت أنْ يعود علينا بالوبال، وهذا ما جعلني أُسِيء إليك الأدب:

إنْ كانَ غاظَكَ شيءٌ لسْتُ أَعْلَمه
منِّي فعفوًا وإنِّي نادمٌ نَدما
ما تشْتَهِين فإني اليوم فاعِلُه
والقلب صبٌّ فما جشَّمْتِهِ جشما

فقالت: صدقت يا مكسيم فقد رأيت على وجهك تلك الدلائل؛ ولهذا لم أشدد النكير عليك، ولكن ساءني منك هذا الجُبْن الذي لم أكن لأظنَّه فيك، مع ما أعهدك عليه من الذكاء.

وكانت جَفْوتُها تزول شيئًا فشيئًا، وبقدر ما كنت أتذلَّل إليها وأُلاطِفها كان غضبها يقل، وينحل، ثم عدت للحديث، فقلت: أرى على وجهك هيئة امرأة تحسبني أُمثِّل روايةً وتظن أني أستخفُّ بالحب، فاسمحي لي يا سيدتي أني أركع على قدميك وأشرح لك ما قاسيته من العذاب في محاربة أميالي … وإذا كنتُ امْتَنعْتُ عن تَلْبِية طلبك فيما مضى وفضَّلتُ أنْ أتعذَّب عذابًا اختياريًّا؛ فذلك لأني لم أشأ أنْ أُبادِلَكِ عواطف قلبي في عربة معرَّضة لأبصار المارَّة، فإذا كنتُ مخطئًا فسامحيني، ثم إني تراميت على أقدامها وملأت يدها بالقبَل الحرَّى، وقلت بصوتٍ يُقطِّعه خفقان القلب وزفرات الفؤاد: أستحلفك بالحب وآياته، وبالطبيعة وكلِّ شيءٍ جميل بألَّا ترفضي قلبًا أقدِّمه لكِ على كفي، وأنْ تقبلي حبًّا سعى إلينا من نفسه دون أنْ نسعى إليه.

وكأنها رثت لحالي، فأخذت يدي وقالت: قف يا حبيبي، فربما يباغتنا أحد على هذه الحال، فارتميت عليها وقبَّلتها، فقبَّلتني قبلةً اقشعرَّ لها جسمي وجسمها:

قبَّلتُها ودموعي مزْج أَدْمُعها
وقبلتْني على خَوْف فمًا لِفَم
قد ذُقْتُ ماء حياةٍ من مُقَبَّلها
لو صاب تربًا لأحيا سالف الأمم

ثم جلست على المقعد وقد دار ماء الحياء في وجهها المشع الإلهي، فقالت: اذهب يا حبيبي، فقد طالت زيارتك وأخاف أنْ يتنبَّه الخُدَّام. فقلت: سمعًا وطاعةً، ولكن متى أجيء إليكِ بإرادتك التامَّة؟ ومتى تفتحين لي إنجيل الغرام الذي كان ممنوعًا عليَّ؟ فوقفت ووضعت يدها على رأسها كأنها تحارب ميلَيْن مختلفَيْنِ، كل واحدٍ يعمل لاكتساب إرادتها ثم قالت: أتكتم السرَّ؟ قلت: كالقبر، قالت: أتكون مُخْلِصًا؟ قلت: جرِّبيني. قالت: وإذا أخلصت:

فلك الله والأمانة والميـ
ـثاق أن لا نخونَكم ما بَقِينا
ثم أن لا يزال حبك عندي
مثله اليوم في الفؤاد مَكِينا
ثم لا تخرب الأمانة عندي
أَغْدَرُ الناس مَن يخونُ الأمينا
ثم أن نفعل المناسب حتى
نترك الناس يرْجُمونَ الظنونا

فقاطعتها وقلت:

ثم أن أرفض النساء سواكم
هل رضيتم؟ قالت: نعم، قد رضينا

قالت: إذن يجب أنْ تكون عندي قبل منتصف الليل … سأرسل الخُدَّام من البيت، وأبقى وحدي، فخذ هذا مفتاح باب الخارج فافتحه بلينٍ، وإيَّاك أنْ تَدُقَّ الجرس.

قالت هذا وقرعت ذر الجرس، فأتى الخادم فقالت له: افتح الباب وشيِّع المسيو مكسيم، ثم أحنت لي رأسها بسكينةٍ ولُطْف، كأن لم يك بيني وبينها أشياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤