الفصل السادس

أثمرت نصائح لامبون ثمرًا جنيًّا، وكذَّبتْ ساعةُ الوصْل ما كنتُ أتَوَهَّمه في الغرام من الأكدار والتعساء، وغدوت لا أفكِّر إلَّا بأن لي حبيبة أحبها وتحبني، وتغار عليَّ كما أغار عليها فقلت أخاطب طَيْفَها:

أذْعنَ للحُسْنِ عصيُّ العنان
وحاولت عيناك أمرًا فكان
يعيش جفناك لِبَثِّ المُنى
أو للأسى في قلب راجٍ وعان
يا قمرًا في التيه ما ينتهي
أخاف أن يفنى علينا الزمان
ويا كثيرَ الذُّلِّ في عزه
لا تنسَ لي عزِّي قُبَيْلَ الهوان
ويا شديد العجب مَهْلًا فما
مِنْ مُنْكَر أنك زَيْنُ الحِسان
رضيتُ لم أجْزَع ولكنَّما
مِن الرِّضا سخْطٌ ومنه امْتِنان
مضى القَلِيل النَّزْر من حِيلتي
والجَلَدُ المَذْخُور ولَّى وَخَان

اجتمعتُ بريتا وافترقنا، وما كان منَّا فلا يَغْبَى عن أحد؛ أمَّا وِصَالها فبدلًا من أنْ يخفِّف شدَّة الغرام أصْلَى قَلْبَيْنا بنارٍ أحرُّ نار الجحيم أبردُها، وكأنه بدَّل كبدينا وقيَّدهما بقيود من حديد، فصار قلبي ملكها وصار قلبها ملكي.

•••

ولكن ما ذاك الرخاء الذي شعرتُ به حينما كانت إلى جانبي أضمُّها مرةً وتضمني مرَّات، كأننا غُصْنَا دوحةٍ تضمُّهما الطبيعةُ ويحرِّكهما الهوى! … بل، كيف لا أشعر بذلك وأنا لست خشبة بغير حياة، ولا حجرًا بغير إحساس؟ وريتا أجمل النساء وألطفهن وأوفرهن ذكاءً وعلمًا.

ولما رأيت لامبون شمختُ كالطاووس حين ينتفض ويفرش ريشه، ويُعجَب بجماله، وضحكت ضحكة المسرور بطالعه المفتتن بنجمته فضحك بي، وبعد نظرٍ طويل إليَّ قال: ما للأرض تضيق بك؟ أراك تنتفخ كالبعير فهل استعملتَ الوقاحة مع حبيبتك؟

– الوقاحة والتذلُّل.

– وهل كانت النتيجة حسنة؟

– فوق ما كنتُ أرجو.

– ذلك كان منتظرًا … والآن، إذ قد فُزْتَ بطلابك ونلْتَ مُشْتهاك وتبدَّل لون وجهك الترابي بلونٍ آخر وردي، فهل لك أنْ تدلَّني على حبيبتك؟

– ذلك فوق مقدرتي.

– قل لي على الأقل من أيِّ طبقةٍ من الناس هي؟

– لا أعلم.

– أظنها امرأة شيخٍ مسنٍّ تغار عليه وتخدعه كما يخدعها.

– لله درُّك ما أبرعَك بحلِّ الألغاز وإدراك الأسرار!

– نعم، عندي بعض الخبرة بهذه العلوم، وقد درست على يد الزمان فعلَّمني ما لم يعْلَمْه غيري، فعندي نصيحة أخرى لك، وهي أنْ تحرص على سعادتك حرصًا شديدًا، وتسهر عليها من خطر المخاوِف التي قد تعتريها.

– لا خطر عليَّ؛ لأني أحبها ولا أحب سواها، وهي كذلك لا تحب سواي، وأنا لا أخاف غيرتها، ولا أظنها تهوى غيري، فأغار عليها؛ لأنها تهاب زوجها وتخاف أنْ ينكشف أمرها إذا كثر عشاقها، وعليه فيكون الخطر على سعادتها أكبر منه على سعادتي.

وفي المساء عدْتُ إلى البيت فوجدت على مكتبي كتابًا منها بخطِّ يدها تقول فيه:

حبيبي

تمارَضْ غدًا وانتظرني في البيت … في الساعة الحادية عشرة أكون عندك، أقبلك قبلات كثيرة والسلام.

الإمضاء

فأخذت الكتاب وجعلت أقرؤه وعيناي تذرفان الدمع سِجامًا من الفرح، وأنَّ هذا الكتاب كان أول كتاب أرسلته إليَّ، وبينما أنا في هذه السكرة سمعت حمامة تنوح على غُصْنِ بانٍ قرب الشباك نواحًا مُحْزِنًا فقلت:

هل تيَّم البان فؤاد الحمام
فنَاحَ فاستَبْكى جُفُون الغَمام
أم شفَّه ما شَفَّني فانْثَنَى
مُبَلْبَلَ البالِ شريدَ المنام
يهزُّه الأَيْكُ إلى إِلْفِه
هزَّ الفراش المُدنفَ المُسْتَهام
كذلك العاشِق عند الدجا
يا للهوى مما يثير الظلام
له إذا هبَّ الجوى صَرْعة
من دونها السحر وفعل المُدام
يا زمن الوصْل لأنت المُنى
وللمُنى عقد وأنت النظام
لله عيشٌ لي وعَيْشٌ لها
كنتَ به سمحًا رخيَّ الزمام

وقد تولَّتْني فرحة شديدة أنْسَتْنِي أنه كان يجب على ريتا أنْ تكتب لي أكثر من سطرين؛ نظرًا لما بيننا من الغرام، فشمخت بأنفي وملأني حبُّ الذات، وجعلت أنظر إلى ذيْنِك السطرين نَظَرَ البُنيَّة إلى لُعَبِها، وأضمها إلى صدري ضمَّ تلك لعبتَها، حتى تعبت فجلست على المقعد والكتاب في يدي أحسبه كنزًا ثمينًا.

واتَّفَقَ في الغد أن رسائل الخارج كانت قليلة فسُرِرْتُ جدًّا، وبعد أنْ أَجَبْتُ عليها بتروٍّ وحكمة، أتيت السوق فاشتريت طاقات من الزهور المتنوِّعة وفرشتُ بها بيتي المُعتِم، وبينما كنت أُسرِّح الطَّرْف من النافذة إذا بها في مُلتَوى الطريق تنزل من العربة، فأقبَلَتْ نحوي تتهادى بين إدلالٍ وابتسام، فقلت أناجيها عن بُعْد:

صُونِي جَمالَك عنَّا إنَّنا بَشَر
مِن التُّراب وهذا الحُسْن روحاني
أوْ فابْتَغِي فلكًا تأْوِينَه ملكا
لم يتخذ شركًا في العالم الفاني
السِّرُّ يحرسه والذِّكْر يُؤنِسُه
والشهب حَوْلَيه بالمرصاد للجاني
ينساب في النور مَشْغُوفًا بصورته
مُنعَّمًا في بديعات الحلى هاني
إذا تبسَّم أبدى الكون زِينتَه
وإن تنسَّم أهدى أي ريحان
وأشرفي من سماء العزِّ مُشرِقةً
بمنظرٍ ضاحِك اللألاء فتَّان
عسى تكف دموعٌ فيك هامية
لا تطلع الشمس والأنداء في آن

وكانت مرتدية بثوب مثل ثياب أهل القرى كيلا يعرفها أحد، ومُسدِلة على وجهها نقابًا ثخينًا يستر جمالها وما هي إلَّا دقيقة حتى:

سَفَرَ الحبيب فقلت يا عين انظري
وتنزَّهي في حسن هذا المنظر
وبدا يميس فَلَاحَ لي قَمَر على
غُصْن رَطِيب بالمَحاسِن مُثمِر
رشاءٌ إذا هزَّ النسيم قَوامَه
أزْرَى بغُصْن البانة المُتخطِّر
متمايل الأعطاف ورد خدوده
يُغنِي المحب عن الشقيق الأحمر
جمع المحاسن إذ تثنَّى قدُّه
وتفرَّدت ألحاظُه بتكسُّر
فإذا رَنا يَسْبِي العقول أو انْثَنى
تحْلُو رَشاقَة قدِّه للمُبصِر

فوضعتْ خمارها وبرنيطتها على فراشي، وقالت لي بصوتٍ مُضطَرِب من السرور: «آهٍ يا حبيبي كيف يمضي يومٌ كامل ولا أراك …؟ كم كان هذا اليوم طويلًا!» فأجلستها قرب المُصْطَلى المشبوب، وجلست على أقدامها أشتمُّ رائحة أنفاسها العطرة، فقالت: ها نحن معًا الآن أيها الحبيب لا نخشى رقيبًا، كلانا عاشقٌ ومعشوق، ليتك تعلم كم أخاف الرُّقَباء، وأشتهي لهم الضَّرَّاء؛ لأني أودُّ أنْ أعيش مُنعَّمةً سعيدة آمنة، ولا سعادة لي إذا فُصِلتُ عنك … هل وجدتَ طريقةً سهلة لأن نجتمع معًا ونتحابَّ دون أنْ تصل إلينا أعْيُن العيون والعواذل، أم لم يَدُرْ بعْدُ في رأسك العديم الاهتمام بالأشياء هذا الأمر الضروري … أمَّا أنا فكنت بالأمس أفتِّش بلا انقطاع على بيتٍ بعيد عن الناس، لا تجوز إليه أنظار الجواسيس الأشرار، وبعد تَعَبٍ وجهد وجدت منزلًا موافقًا في طريق كوبنهاك فاكْتَرَيْتُه للحال، وجئت إليك لأهنِّئك، ألَا تشكر لي فعلي …؟ ألَا تحرِّك فَمَك لتقبيل خدِّي …؟ ألَا تحرك يديك لتضمني …؟ فضممتها إلى صدري، وملأتها بالقُبَل، وقلت: إني كنت أتأمَّل بهاءك يا خنتي المعبود، وكنزي المرصود، فقالت: ويسرُّك أكثر أنَّ صاحبة البيت أرملة لا تملك غيره، فهي تعيش بأجرته، وللبيت بابان ومفتاحان، هذا مفتاحٌ لك، والآخر لي، وخذ هذه نمرة البيت فيجب عليك من الآن فصاعدًا إذا شئت أنْ تُرسِل لي كتابًا أم تلغرافًا أنْ ترسله بهذا العنوان، وأنْ تذهب إليه في كلِّ مساء بعد انصرافك من المكتب، فربما أكون هناك من حيث لا تعلم.

ثم قامت ولبست برنيطتها، وقبل أنْ تضع الخمار على وجهها ضمتني إلى أقداس صدرها وقبَّلتني، ولما رأت عليَّ ملامح الحزن، قالت: خرجت من البيت على غير عادة أنْ أخرج منه في مثل هذه الساعة، وأخاف أنْ يسأل عني البارون إذا طالت غيبتي … فأستودعك الله يا حبيبي وحياتي … موعدنا قريب.

كانت زيارتها أقصر من لمع البرق، ولمَّا خَرَجَتْ شعرت بميلٍ لرؤية بيتنا الجديد، وإذ لم تكن لي أشغال تمنعني سِرْت إلى حي أوروبا، وبينا كنت سائرًا كنت أتأمل بجرأة ريتا، وحرية ضميرها، وأحسدها على شجاعتها، ونشاطها الطبيعي، ووددت لو يكون لي مثل أخلاقها وصفاتها … ومَن لا يُعجَب من ريتا وهي بالأمس وُلِد حبها، واليوم أضحى لها معبودًا وصار كأنه من ضروريات حياتها، أمَّا أنا فلست أكثر من آلة غير عاملة، وكان المنزل الجديد على ما يوافق حالنا خاليًا من حركة الناس وأصواتهم، وهو طبقة فوق طبقة، ونوافذه مُحكمة، وداخله نظيف جدًّا، أمَّا مفروشاته فكانت من الحرير الأحمر المعرق، وفي القاعة مرآة كبيرة وزخارف عديدة، ومع أنَّ ريتا لم تأْتِه أكثر من مرة، فقد ملأته من آثارها، فوضعت على المُصطَلى زهورًا كثيرة الأنواع، وجرائد مختلفة اللغات واللهجات، ورأيت صورتها على إحدى الطاولات ملفوفة بشرائط حمراء في طاقة كبيرة من الورد.

آه، ما أسعدَ الساعةَ التي كنت مُزمِعًا أنْ أقضيها مع ريتا في هذا البيت يوم الأحد!

ولما حان وقت الموعد المضروب سبقتُها، ولعلمي أنها مولعة بالحلوى مثل النساء الإيطاليات، ملأت سلة من أصناف الحلوى، وأخذت معي من أنواع المُدام شيئًا كثيرًا، ولما دخلت البيت أوقدت فيه قدرًا من الحطب كي تزداد حرارته، وإذا بالباب ينفتح فاضطربت أعصابي فرحًا وأُغْمِي عليَّ، ولما استفقت رأيتها إلى جانبي تؤانسني وتلاطفني.

آه، ما أسعد هذه الساعة التي كنت مُزمِعًا أنْ أقضيها معها في هذا البيت!

فقالت لي وهي تصلح زيَّ شعرها: أتعلم يا مكسيم مَن أنا في عين أرملة أنور صاحبة هذا البيت؟

– إنَّ سيدنا إبليس — عليه السلام — لم يعطني ما أعطى تيراز ياس من معرفة الخفايا وحلِّ الألغاز.

– قد سمَّيْت نفسي روزا كازينولي، وهي إحدى المغنيات الشهيرات في ميلان، وكيلا أجعل لها سبيلًا لمراقبتنا احْتَلْتُ عليها حِيلة غريبة، فقلت إني عاشقة والذي أحبه شابٌ غنيٌ يحبني ويغار عليَّ، أنت هو ذلك الشاب، وهذه الحيلة مع كونها مألوفة فهي قريبة من التصديق بساطتُها، وقد قال المثل: إنَّ الأقاصيص البسيطة أقرب للأفهام من سواها.

– وماذا سمَّيت حبيبك؟

– قلت فقط إنك ممثل مولع بالموسيقى، وقد قال المثل: تجنَّب الكذب غير المفيد، ولم يقل المفيد …

– بالحقيقة إنك داهية يا مولاتي.

– عجبًا! كيف تسمِّيني مولاتك ألَا يكفيك أني حبيبتك؟

– أنت هذه وتلك، وليس بمستغرب على الله أنْ يجعل اثنين في واحد.

– كيف رأيت هذا البيت؟

– أتعنين هذا البيت الذي نحن فيه مختبئان كمجنونَيْنِ؟

– نسيت أنْ تُضِيف إلى مجنونين كلمةَ غرام، فقل كمجنونَيْ غرام.

– رأيت أنه أحسنُ أبنية الدنيا.

– أُحب أنْ أتناول فيه الطعام معك في بعض الأيام، فأوَّل مرة لا يأتي هو البيت أعلمك.

«هو» كناية عن زوجها الذي حلفت ألَّا تسميه أمامي.

ثم قالت: لا بُدَّ أنه يدعو حبيبته الهولندية لتتناول معه الطعام في الحانة فيومئذٍ …

ثم تركت من يدها كأس الخمر، وتناولت بدلًا منها قطعة من الحلوى وقالت ضاحكة: وبما أنه يحب النوم فسينام معها على فراش واحد، ونحن نقيم عيدًا هنا … وننام معًا أيضًا على هذا الفراش …! مثل اليوم …

باتت بطرف مسهد
مطهومة تتمرَّد
لها من الظرف والحسـ
ـن زائد يتجدَّد
فكل حسن بديع
من حسنها يتولَّد
في القلب مني عليها
حرارة تتوقَّد
تعود بالوصْل طورًا
والعود بالوصْل أحمد

تمضي أوقات اللَّذة مُضِيَّ الأحلام، ولا تبقى للحبيبين غير لوعة وذكرى وهيام، وكان نصف الليل الأول على وشك الانتهاء، فنظرت إلى ساعتها وقالت: صرنا في الساعة الثانية عشرة، ونحن لا نشعر ولا أعلم إذا كانت ساعتي تغالط.

ثم دَنَتْ مني ونظرت في ساعتي، فإذا الوقت فيها مثله في ساعتها فنهضت للحال، ولبست برنيطتها وتهيَّأت للذهاب فقلت لها: ماذا؟ فقالت أستودعك الله يا حبيبي قبلني قُبَلَ الوداع … أيضًا … أيضًا … القبل للعشاق كسر المسحة للمرضى.

وبعد ثلاثة أيام كتبت لي كتابًا تقول فيه: إن «هو» مدعوٌّ اليوم للعشاء في النادي الفرنساوي، ولا مراء أنه سوف يسكر، وبناءً عليه فسأجيء إليك في الساعة الثامنة بعد الظهر.

فقمت من فوري وذهبت إلى السوق فاشتريت شيئًا كثيرًا من ألوان … الآن ازداد رضاي عليك.

الطعام اللذيذة ومن أصناف الخمور المُعتَّقة، ومن الزهور الجديد قطوفها، ثم أشعلت النار، وأنرت القناديل المُعلَّقة، وكلَّلتها بالأزهار البهيَّة العطرة، وفرشت المقاعد والكراسي بصنوف الورد والرياحين.

وإذا بها داخلة، ووجهها يتهلَّل بشرًا، والسعادة ترقص على جبهتها وجبينيها، والسرور يجول في عينيها فقالت: نعم أنا هي التي تنتظرها، أنا ريتا لا تخف … أنا ريتا السعيدة بأن أراك، الحرة إلَّا في هواك، الصادقة في ولائها وحبها، الأميرة إلَّا على قلبها، وبعد أنْ كان لا يخطر ببالي أنْ أخون فركنباك، أصبحت وأنا أرصد غيبته بفروغ صبر لأجيء إليك، وأعاطيك كئوس الهوى، ولو كان يعلم ذاك المغرور بما بيننا، لامتزج صفو أيامه مع جوزيفا بالكَدَر والحزن.

– دعينا من هذا الحديث وهاتِ حديثًا أطيب.

– أظنُّك هيَّأت الطعام، وأعددت كلَّ شيء على أحسن نظام.

– نعم قد هيَّأت كلَّ شيءٍ، وجعلته على أحسن ما تتصورين من الذوق، فهل أنت راضية على مكسيم حبيبك؟

– خذ الجواب من عينيَّ فهما أفصح من لساني، وسلْهُما عن شخصك في قلبي، فهما اللتان دلَّتا القلب عليك، وهما اللتان أوجدتا الحبَّ حين نظرت بعيني ونظرت بعينك … ولكن لماذا تجلس بعيدًا عني …؟ اقترب اقترب أيضًا … الآن ازداد رضاي عليك.

– قد تهيَّأ الطعام.

كان عشاؤنا كما يجب أنْ يكون؛ أي نارًا تشبُّها المزاحات والمداعبات الصبيانية، بل مطر قبلات، بل ساعة جنون غرامي، وبقدر ما تكلَّمتْ ومازحت، بقدر ما شربت من الشنبانيا إلى أنْ سكرت وغاب عقلها، حتى لو رأت تمثالًا من حجر لحسبته إنسانًا ودعته ليشرب معنا كأسًا.

ثم إنها طوقت عنقي بيدها، وقالت بصوتٍ مترجرجٍ: أنا مسرورة بأنك قريب مني، سعيدة بأني قريبة منك … وقد كنت في جِنَّةٍ يوم قدَّمت لك قلبي فرفضته، ولو أني رفضت قلبك حين قدمته لي، لكان جنوني أشد من جنونك؛ لأن في الحب لذة لا أدري كيف أعبِّر عنها … وأنا أحبك من كلِّ قوة قلبي ونشاطه … وأود أنْ أمحو ذكرى أحزاني الغابِرة، وأود أنْ أؤرِّخ حياتي من يوم عرفتك، بل من ساعة دخلت غرفتي، تلك الساعة التي رأيتك فيها لأول مرَّة، وكأن صوتًا سريًّا كان يقول لي إني سأكون لك وتكون لي … فكأن أشعة شمسٍ بدَّدت ما كان ينوب نفسي من الظلمات وبقوى قبلاتك انزاح الحجاب الذي كان يحجب عني الذهول، والغفلات الإلهية التي أفنيتُ عمري في تصوُّرها فلم أنَلْها، وقضيت معظم أيامي في طلابها فلم تستتمَّ لي … فأنا أحبك الآن حبًّا فوق مَن يتصور العشاق، بحيث أشعر في نفسي أني أموت لو غبتَ عني.

وبينما كان فمها الوردي يفتش على فمي وخدي، خطر ببالي فِكْر خَشِن لا يُقال لحبيبة، ففاتحْتُها به ببرودة دون أنْ أبحث عمَّا إذا كان يغضبها ويؤلمها أم لا يؤلمها، مثل الطفل الذي يمزق جلد الطبل؛ ليرى ما في داخله، أو كالبنية التي تكسر لُعبها؛ لترى ما فيها، فقلت من فوري: وهل إني يا حبيبتي ريتا أول عاشق عشقتِهِ؟

فأخذتها لهذا السؤال رَجْفة مُؤلِمة ألقتْها إلى الوراء، وأظهر وجهها دليل كآبة وعذاب حتى إني ندمت على هذا الذنب، فقالت: إنك سيِّئ النية يا مكسيم.

– هَبِي أني لم أستعلمك عن شيء، فلا أحبُّ أنْ أعلم شيئًا من ذلك.

– وأنا أحب أنْ أخبرك بكلِّ شيء، وقد خنت ضميرك ومع جهلي بسبب ذلك فإني أستنتج منك أنك تميل لمعرفة المجهول من حياتي، وإذا كان لا بد لك أنْ تعرفه عاجلًا أو آجلًا، فأنا أقصه عليك الآن بصراحة … فاعلم أني قبل أنْ أعرفك حدث لي حادِثتا غرام «ولستُ الآن أحلِّي مقالي وأَطْلِيه بزخرف لأتنصَّل من ذنبي، بل أقول الحقيقة كما كانت، فقد عشقت المركيز دي … لا فائدة من ذكر اسمه» مدة أسبوع كامل، وإنما كتمت اسمه عنك؛ لأنك تجتمع به أحيانًا وربما تكرهه إذا ذكرتُ أنه امتَلَكَني قبلك، وقد كان ذلك بعد زواجنا بأربعة أشهر.

وكان هذا المركيز معروفًا بالغنى والذكاء والمهارة بالرقص، ففي ذات يوم زارني ولم يكن البارون في البيت فشرح لي هواه، وبعد نصف ساعة كنت حبيبته على أني رفضته بعد أسبوع لإساءةٍ بدت منه، وما كانت هذه المرة لتخفِّف نيران غرامي، فقد كنت أشعر دائمًا باحتياج عظيم للحب، وأفتش عن حبيب أمين أبادله الغرام، فاتفق ذات يوم أنْ جاءنا أحد أقارب البارون، وكان شابًّا جميلًا فاستقبلته بوجهٍ بشوش، ورحَّبْت به ومن ذاك الحين نشأ حبُّنا، وأخذ يزداد ويعظم، فخُيِّل لي أني غرقت في بحور الغرام، وبعد ثلاثة أشهر أمرته الحكومة بالسفر عن باريس فبكيت لبُعده كثيرًا، وإذ رأيت أنَّ الدهر ما دام يسقيني كئوس الحنظل عقدت النية على الوقوف عند هذا الحدِّ من الحب، إلَّا إذا وجدتُ لي حبيبًا جميلًا أمينًا، لا يسافر عن باريس، فبقيت مُنتظِرة أقاسي ألم الاحتباس، وضجر الانتظار مدة ثمان سنوات إلى أنْ رأيتُك يا حبيبي … آهٍ لو تعلم كم أحبك وكيف أهواك.

ثم أخذتها سِنَة الكَرَى فاستقلت على ذراعي ونامت، وكانت في نومها تستهل تارة، وتبتسم أخرى، وتصعد أنفاسها كخرير المياه الجارية في الخمائل النضيرة، وبقيت إلى نصف الليل فرأيت من الحكمة أنْ أوقظها، فقبَّلت جبهتها البيضاء النديَّة، فاستفاقت وسألتني عن الساعة فقلت: قد انتصف الليل، فقامت بسرعة إلى السرير ولبست أكفَّ يديها وبرنيطتها، وتهيَّأت للذهاب، ثم قبَّلتني ومضت.

فلما رأيتني وحدي على الفراش الذي كنَّا عليه معًا منذ دقائق انهملت الدموع من عيني، وأخذت الأفكار تنصبُّ على رأسي كالصواعق، أمَّا الشموع فأكثرُها انطفأ والباقي كاد ينطفئ، وكانت بقايا الطعام حسنة هنا وهناك، والخلاصة أنَّ ذَهابها كان أشبه بإنزال الستار في تشخيص الروايات.

وما زلت أنتقل من فكرٍ إلى فكر ومن خيال إلى آخر، إلى أنْ رفَّ جُنْح الظلام، وانفتحت من الكَرَى عينُ الفجر، فقلت: أطويل يا تُرى عهد غرامنا أم قصير؟ وهل تدوم على هذه الحال أم تغيِّرها الأقدار؟

إنَّ ريتا تحبُّني بلا مراء، أمَّا أنا فلا أدري إنْ كنت أحبها مثل حبِّها لي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤