الأدب العربي ومكانته بين الآداب الكبرى العالمية١

سيداتي، وسادتي

أستأذنكم قبل أن أبدأ كلامي في موضوع المحاضرة في لحظة قصيرة، أقدم بها أجمل الشكر إلى الجامعة الأمريكية التي تفضلت فطلبت إليَّ أن ألقي هذه المحاضرة، وإذا شكرت للجامعة هذا الفضلَ فأنا أشكرها لأمرين:
  • الأول: حسن ظنها بي الذي دعاها إلى طلب هذه المحاضرة.
  • والثاني: فضلها العظيم، الذي أتاح لي أن أتصل بالجمهور المصري، بعد أن حيل بيني وبينه.

والآن أريد أن أتحدث إليكم عن هذا الموضوع: «مكانة الأدب العربي بين الآداب الكبرى العالمية».

الأدب العربي والآداب الأخرى

وهو موضوع كما ترون غريب، ليس يُدرَى من يريد أن يتحدث فيه كيف يعرض له، ولا من أين يأتيه.

فالأدب العربي وحده، أدب عاشت عليها أمم كثيرة نحو خمسة عشر قرنًا، والآداب الغربية الكبرى في العالم آداب عاشت عليه أمم، ليست أقل من الأمم التي عاشت على الأدب العربي عددًا ولا خطرًا، ولا مكانة في التاريخ.

ومهما يكن الأستاذ بارعًا فلن يستطيع أن يحيط بالأدب العربيِّ كله، والآداب الأخرى كلها، فالموضوع في نفسه أوسع وأجل خطرًا من أن يعرض له في محاضرة واحدة أو أكثر.

ولكني مع ذلك سأحاول أن أضع أمامكم فكرة، إن لم تكن دقيقة، فهي قريبة إلى حد ما من الأدب العربي والآداب الكبرى التي شغلت الناس وعاشت عليها الإنسانية قديمًا، وما زالت تعيش عليها.

هناك احتياط لا بد لي منه قبل البدء في الحديث، وهذا الاحتياط يضطرني إلى أن أنبهكم منذ الآن إلى أني لن أحاول المقارنة بين الأدب العربي والآداب الغربية الحديثة؛ لأني سأظلم ظلمًا قبيحًا إن عرضتُ لهذه المقارنة.

فبين أي الأدبين العربيين نريد أن نقارن: بأدب القدماء؟ أم بأدب المحدثين؟

فإن أردنا أن نقارن بين الأدب العربي القديم والآداب الأوروبية الحديثة، ظلمنا الأدب العربي؛ لأننا نكلفه أكثر مما يتكلف، فليس الأدب العربي ملزمًا بأن يتنبأ عما ستصير إليه الحضارة الحديثة، وبتقدم العقل والفلسفة والعلم.

ليس مكلفًا أن يتنبأ بهذا كله، وأن يستعد وأن يتأهب ليثبت للمقارنة، فنحن إذن نظلم الأدب العربي إن قلنا إنه ضعيف أو ساذج، بالنسبة للأدب الفرنسي، أو الأدب الإنجليزي أو الأدب الألماني؛ لأن الظروف التي أحاطت بالأدب العربي القديم مخالفة للظروف التي تحيط بالآداب الأوروبية الكبرى.

وإذا أردنا أن نقارن بين الأدب العربي الحديث والآداب الأوروبية الكبرى ظلمنا أنفسنا؛ ذلك أنَّا في بدء نهضتنا لم نكد نتحلل من القيود الكثيرة التي تحول بيننا وبين الحياة العقلية الحرة، فمن الظلم لنا ولأدبنا الحديث أن نقارن بينه وبين الآداب الأوروبية الكبرى، ونحن أيضًا نظلم هذه الآداب الأوروبية إذا قارنا بينها وبين آدابنا الحديثة الناشئة، التي تحاول أن تنهض على قدميها.

لن أتعرض إذن للآداب الأوروبية، ولا للأدب الحديث الذي ننشئه ونعيش به، وإنما أريد أن أحصر موضوع الحديث في المكانة التي كانت لأدبنا القديم بين الآداب الكبرى.

هذه الآداب الكبرى قليلة يمكن أن تُحصَر في ثلاثة أو أربعة آداب: هناك الأدب اليوناني القديم، وهناك الأدب الروماني أو اللاتيني، والأدب الفارسي، والأدب العربي.

هذه الآداب هي التي نستطيع أن نتحدث عنها، ونجتهد في أن نتعرف مكانة أدبنا منها، فأما ما سوى هذه الآداب، فالعالم الحديث — سواء أكان في أوروبا أم في الشرق — لا يكاد يعرف عنها شيئًا، وإنما هي محصورة بين العلماء، معروفة عند الإخصائيين الذين يبذلون جهودهم في مكاتبهم.

لن أتعرض إذن للآداب الهندية ولا الصينية؛ لأني لا أعرف من هذه ولا من تلك شيئًا، وإنما أحصر حديثي على هذه الآداب الأربعة: اليونانية، واللاتينية، والفارسية، والعربية. وأريد أن أتعرف المكان الذي يجب أن يكون فيه أدبنا بين هؤلاء.

بروكلمن والأدب العربي

عندما أراد الأستاذ «بروكلمن» أن يكتب الفصل القيم الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية عن الأدب العربي، ابتدأ فشبه ما كان عند العرب قبل ظهور الإسلام بزمن بعيد بهذه الآداب التي توجد عند الزنوج، أو عند سكان جزر المحيط الهادي؛ لأن هذه الآداب التي كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون، لم تكن تزيد عن أن تكون تعبيرًا بسيطًا عن حياة ساذجة توشك أن تكون منحطة لا قيمة لها، وهي حياة أهل البادية الذين لا حظ لهم من ثروة أو ترف أو رقيٍّ عقلي.

ولكن «بروكلمن» لم يكد يتتبع الأدب العربي البسيط، الذي كان يشبهه في أول فصله بأدب الزنوج، لحظات قصارًا حتى اضطر أن يعرف لهذا الأدب العربي مكانته، وأن يضعه في منزلة عُليا هي التي تضطر جماعة من كبار العلماء أن يقفوا عليه حياتهم، وأن يضحوا بجهودهم.

ذلك لأن الأدب العربي الذي كان يشبه في أول أمره أدب الزنوج لم يكد يتصل بالحضارات في القرن الخامس والسادس للمسيح، وتنشأ الصلات بينه وبين الحياة خارج شبه جزيرة العرب، حتى ظهر أنه كان في نفسه أقوم وأخصب من أن يظل أدبًا يشبه بأدب الزنوج، وأنه كان يحمل في نفسه طبيعة خصبة إلى أقصى ما يمكن من الخصب، غنية إلى أقصى ما يمكن من الغنى.

فلم يكد يتجاوز البادية حتى استحالت هذه الطبيعة الخصبة، التي كانت منكمشة، إلى جذوة من النار لم تلبث أن اشتعلت، فشملت العالم القديم وصهرته وحوَّلته إلى طبيعة جديدة، مخالفة كل المخالفة لما كانت عليه قبل الإسلام.

الأدب العربي في ظل الإسلام

ليس من شأني الآن أن أبحث عن الأسباب التي دعت إلى أن ينتشر الأدب العربي في بقية البلاد التي انتشر فيها الإسلام، فقد يكون هذا معروفًا، ولكنا نعرف جميعًا أن الإسلام لم يكد يظهر ويتجاوز الجزيرة أيام أبي بكر وعمر حتى انتقلت معه اللغة وما فيها من أدب، وانتقل معها كتابها المقدس القرآن الكريم.

ولم يكد القرآن الكريم يستقر في الأمصار خارج الجزيرة حتى بدأت الشعوب تتأثر به تأثرًا سريعًا، ولم يكد ينتهي القرن الأول ويبتدئ القرن الثاني حتى نلاحظ في هذه البلاد التي فتحها المسلمون، في الشام ومصر والعراق وإفريقيا الشمالية وفي إسبانيا — أن هذه الشعوب قد أخذت تتطور تطورًا سريعًا، كلها يسرع إلى الإسلام، وكلها يحاول أن يتعلم لغة الإسلام، وكثير منهم لا يكتفي بتعلم اللغة، بل يريد أن يتقنها ويتقن آدابها، وأن يكون له حظ موفور من هذه الآداب.

وما نكاد نصل إلى منتصف القرن الثاني حتى نجد أن كثرة الشعراء ليست من العرب، بل من الشعوب الأجنبية التي أخضعها العرب.

فأنتم عندما تستعرضون الشعراء الذين امتازوا في القرن الثاني، والذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، والذين كانوا جمال بغداد والعراق، تجدون كثرتهم إما من الفرس، وإما من الموالي من أصل ساميٍّ: نبطي أو آرامي، أجاد العربية وبرع فيها، وأصبح شاعرًا ينافس شعراء العرب، ويستأثر دونهم بالمكانة الأولى.

ثم لم يكد يتقدم هذا القرن الثاني حتى نرى اللغة العربية التي كانت منذ قرن لغة منحصرة في جزيرة العرب بل في شمالها، لا يتكلمها إلا طوائف من البدو حظهم من الحياة الخشنة أشق من أن يوصف، قد لانت وسهلت وأخذت من المرونة بحظ عظيم، واستطاعت أن تسع آداب الهند وفلسفة اليونان وثقافة الفرس.

كل هذا في زمن قليل لا نكاد نصدق أنه يكفي لتنتقل هذه الثقافات إلى لغة واحدة، وأن تتحول هذه الأمم إلى أمة واحدة متجانسة في الشعور، متجانسة في التفكير، لها حضارة واحدة، لا يظهر فيها اختلاف.

لا أريد أيضًا أن أبحث عن الأسباب فربما كانت معجزة، وحياة الإسلام سلسلة معجزات، بدئت بالمعجزة الكبرى وهي القرآن.

مهما يكن من شيء أيها السادة، فإن القرنين الثاني والثالث للهجرة، شهدا هذه الظاهرة الغريبة، وهي أن هذا العالم الذي كان قبل ظهور الإسلام منقسمًا قسمين: أحدهما تابع لسيطرة الروم، والآخر تابع لسيطرة الفرس. هذا العالم الذي كان منقسمًا أشد الانقسام، ومتباينًا أشد التباين، في التفكير والشعور حتى إن الحروب كانت متصلة فيه دائمًا، تحوَّل بفضل ظهور الإسلام، وبفضل انتشار اللغة العربية والثقافة الجديدة، إلى أمة واحدة متحدة في كل شيء تقريبًا لغتها العلمية والأدبية واحدة هي العربية، فيها تتكلم، وفيها تنشئ شعرها وتكتب نثرها، وفيها تضع كتبها العلمية.

تحققت إذن هذه الظاهرة العربية الغربية، ومنذ ذلك الوقت ظلت اللغة العربية لغة هذا القسم العظيم من العالم القديم، ومع ذلك فالآداب التي كانت سائدة في العالم قبل العربية لم تكن بسيطة ولا يسيرة، ولم يكن «بروكلمن» يستطيع أن يشبهها بآداب الزنوج. ويكفي أن نلاحظ أن البلاد المفتوحة كانت خاضعة لسلطان الأدب اليوناني، وهو إلى الآن أقوى أدب عرفه الإنسان، وقد أثَّر منذ الإسكندر في عقلية العالم تأثيرًا كبيرًا.

الصراع بين الأدب العربي والآداب الأخرى

وإلى جانب هذا الأدب كانت تقوم في الشام والجزيرة والعراق آداب أخرى سامية، منها آرامية ومنها يهودية، وكانت هذه الآداب قوية خصبة، عاش بها الناس وأثرت في نفوسهم، وكونتها تكوينًا خاصًّا، ومع ذلك لم تكد كل هذه الآداب تلقى الأدب العربي حتى عجزت عن أن تثبت له، واندمجت فيه واستحالت إلى جداول قوية خصبة، ولكنها كانت تنتهي دائمًا إلى هذا النهر العظيم.

لم يثبت للأدب العربي في البلاد التي أغار عليها أدب أجنبي، حتى البلاد التي لم تستطع العرب أن تمحو لغتها، وهي بلاد الفرس، فإن الأدب العربي على انتشاره في بلاد الفرس لم يمحُ لغة الفرس، فإنهم كانوا يستعملونها في حياتهم اليومية.

برغم هذا لم يستطع الأدب الفارسي أن يثبت للأدب العربي في بلاد الفرس نفسها، فكان الشعر الذي يُنشَد في بلاد الفرس في القرن الأول والثاني والثالث للهجرة هو الشعر العربي، وكان العلم طوال هذه القرون عربيًّا، وكانت الفلسفة عربية أيضًا، وقام الأدب العربي مقام الأدب الفارسي، أي إن الفارسي الذي يريد أن يكون مثقفًا كان لا بد له من العربية.

أما في الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا، فالآداب اليونانية والقبطية والآرامية لم تثبت للأدب العربي، بل قام الأدب العربي مقامها جميعًا، وانكمش الأدب اليوناني أمامه انكماشًا عظيمًا، وتقلص ظله في هذه البلاد وانقرض حتى انحصر في البلاد البيزنطية، أي آسيا الصغرى وما يجاورها في أوروبا.

وظل الأدب العربي مسيطرًا على هذا العالم القديم الذي سيطر عليه الأدب اليوناني منذ الإسكندر إلى ظهور الإسلام إلى الآن، ظل الأدب العربي مسيطرًا عليه مع ما ناله من خطوب واختلف عليه من صروف.

ولكن قوة أخرى لم تستطع أن تمحوه أو تميته، قاومه الفرس مقاومة شديدة في القرنين الثاني والثالث، وبنوع خاص في القرن الرابع، ثم قاومه الترك مقاومة عنيفة حتى طردوه من الشام وألجأوه إلى مصر، وقاومته أوروبا في إسبانيا وإفريقيا الشمالية، وما تزال أوروبا تقاومه في كل مكان، ولواؤه مرفوع لم تستطع قوة أن تنتزع منه هذا اللواء.

الأدب العربي بين خصومه وأنصاره

ومع ذلك، فلهذا الأدب العربي خصوم، منهم القدماء ومنهم المحدثون، كان له خصوم في القرن الأول والثاني والثالث، من هؤلاء الفرس والموالي الذين غُلبوا على أمرهم، واضطروا إلى تعلم اللغة العربية، واتخاذ الأدب العربي.

وكان هؤلاء الناس يخاصمون الأدب العربي وينكرون أن تكون له قيمة، هؤلاء هم الشعوبية، ومن أجمل ما يقرأ تلك المحاورات والخصومات التي حفظ لنا الجاحظ شيئًا منها بين العرب والشعوبية.

هذه الخصومة، اضطرت الشعوبية والذين كانوا يعادون الأدب العربي إلى أن ينكروا عليه كل قيمة، فيزعموا أن ليس له قيمة بالقياس إلى الآداب الأخرى، ويزعموا أنه إن كان للأدب العربي خطر، فمصدره راجع إلى القرآن الكريم، واضطر أنصار العرب أن يغلوا غلوًّا فاحشًا في الدفاع عن الأدب العربي ويمثلهم الجاحظ؛ إذ زعم أن الأدب العرب هو وحده الأدب، وأن الأمم الأخرى لا حظَّ لها من الأدب.

فاليونان لا حظَّ لهم إلا من الفلسفة، والفرس والهنود لا حظَّ لهم إلا من هذه الحِكم السائرة، فأما الأدب العربي فهو الأدب حقًّا، الذي يظهر فيه هذا الشعر الخصب المتميز، الذي لا تكلف فيه ولا صناعة، ويكفي أن يوجه العربيُّ فكره إلى المعنى حتى يتدفق الشعر على لسانه تدفقًا، والأدب العربي أدب الخطابة الذي أنتج «عليًّا» و«زيادًا» و«الحجاج»، وهو الأدب الذي أنشأ الأمثال السائرة والحكم، أما الأمم الأخرى فلا قيمة لأدبهم عند الجاحظ.

كان خصوم الأدب العربي مسرفين مبالغين، وكان أنصار الأدب العربي مبالغين مسرفين لقيمة الأدب.

ومن غريب الأمر أن هذا الموقف هو الموقف نفسه الذي نشهده الآن فيما نقرأ من الفصول والمقالات التي يكتبها أحيانًا أنصار القديم وأنصار الجديد.

أما أنصار الجديد فيزعمون أن هذا الأدب كانت له قيمة في عصره القديم، ويجب أن يُعدَل عنه إلى أدب جديد يستمدونه من الأدب الأوروبي والحضارة الأوروبية.

وهم يغلون في هذا غلوًّا شديدًا، حتى إنهم ينفِّرون أنفسهم وينفِّرون الشباب من قراءة الأدب القديم.

فإذا قالوا هذا نهض لهم أنصار القديم فاعتزوا بالخطباء والشعراء، ونفَّروا الشبان من الأدب الحديث؛ لأن أقل ما يحمل من الشر أنه مفسدة للأدب العربي، ومضيعة للغة القرآن الكريم، وأنكروا أن يكون للأدب الحديث قيمة.

وأولئك وهؤلاء غلاة مسرفون؛ فالأدب العربي القديم لا يُسمَّى «أدبًا ميتًا» لأنه لا يزال حيًّا، ومهما نحاول، ومهما نبذل من جهد، ومهما نستعن بالآداب الأوروبية فلن نستطيع أن نضعف الأدب العربي ونعرضه للخطر. والآداب الأوروبية الحديثة لا نستطيع بحال أن نقاومها أو أن نرفضها؛ فنحن في حاجة إلى أن نستمد من الأدب الأوروبي الحديث، وكذلك أراد الله أن تكون الحياة دائمًا مزاجًا من صالح القديم والجديد.

الشعر القصصي والتمثيلي في الأدب العربي

خصوم القديم وأنصار الحديث يزعمون أن الأدب العربي كان حسنًا في عصره وأصبح الآن غير ملائم؛ ذلك لأن هناك فنونًا من الأدب لم يعرفها الأدب العربي.

فالشعر العربي فقير بالنسبة للشعر الأجنبي؛ فليس فيه شعر قصصي ولا تمثيلي، كما كان عند اليونان، وإذن فلا بد من العدول عن هذا الأدب القديم إلى الأدب الحديث.

وهذا غريب، فلست واثقًا كل الثقة من أن الأدب العربي يخلو من القصص، وأخشى أن يكون من يجحدون وجود الأدب القصصي عند العرب إنما جحدوه لأنه لم يحققوا بالضبط معنى الأدب القصصي، فالذين يقرءون الشعر الجاهلي أو ما صح منه، والذين يقرءون الشعر الأموي كشعر جرير والفرزدق والأخطل يلاحظون أن مزايا كثيرة من خصائص الشعر القصصي موجودة في الشعر العربي، فأهم ما يمتاز به هذا الشعر القصصي أن شخصية الشاعر تفنى، وأن هذا الشعر يكون مرآة لحياة الجماعة، وأنا أستطيع أن أؤكد لكم أنَّا لا نعرف شيئًا يصور الأمة أصدق تصوير، ويضطرنا أن نلمسها بأيدينا كالشعر العربي.

إذا قرأتم قصيدة من شعر جرير أو الفرزدق أو الأخطل فأنتم ترون العرب في البادية، وتسمعونهم يتحدثون، وتحسون حياتهم كما تحسون أنفسكم، ولا تكادون تلمسون شخصية الشعراء في أشعارهم، فإذا لم توجد عندنا «إلياذة» أو «أودسا» فليس من شك أن ما أدته الإلياذة والأودسا قد أداه لنا الشعر القديم من تصوير الحياة الاجتماعية وتصوير حياة الأبطال.

ثم من الذي يستطيع أن ينكر أن في أدبنا العربي القصصي جمالًا ليس أقل من جمال الإلياذة والأودسا؟ وليس ذنب الأدب العربي ألا يقرأه الناس ولا يعرفوه.

أي الأدباء عنى بقصص أبي زيد وعنترة، وما إليه من الأقاصيص الكثيرة التي تغنى بها العامة؟

أيكم يدرسه فهو مضطر إلى أن يعترف أن للأدب العربي من هذا الجمال الفني الرائع ما لا يقل عن الإلياذة والأودسا.

فليقرأ أدباؤنا أولًا، وأنا واثق أن هذا الأدب الذي ندعه لقهوات العامة ونزدريه، سيحدث في أدبنا العربي نهضة واسعة المدى.

مكانة النثر من الأدب العربي

كان بعض الذين يُعنَون بالأدب العربي ويدرسونه في المدارس الرسمية لا يتحرجون أن يقولوا إنه فقير لا حظ له من النثر، فأما النثر الفني الرائع الذي نجده عند الفرنسيين والإنجليز فليس للأدب العربي حظ منه.

ولست أستطيع أن أصف هذا القول بأقل من أنه كلام من لم يقرأ الأدب العربي، فأما الذين يقرءون الجاحظ، وابن المقفع، وأبا حيان، وابن العميد، والصاحب بن عباد، والهمذاني، ويلتمسون معرفة الفنون المختلفة التي تعرضوا لها، فسيرون أنها ليست شيئًا ضيقًا محصورًا في بعض الكتب والرسائل، إنما هي شيء خصب غزير.

هؤلاء الذين يدرسون هذا الأدب الفني لا يستطيعون أن يجحدوا أن للأدب العربي حظًّا من النثر.

الأدب العربي والآداب الأربعة اليوناني والروماني واللاتيني والفارسي

الأدب العربي شعره ونثره وعلمه وفلسفته لا يمكن بحال من الأحوال أن يقل عن الآداب الأربعة القديمة، بل هو من غير شك متقدم على اللاتيني والفارسي، وإذا لم يكن بد من أن يكون له مناظر، وأن الأدب العربي ينحني له مع شيء من الإجلال الذي تملؤه العزة، فهو الأدب اليوناني.

وأما الأدب اللاتيني، فسترون أنه يقوم على تقليد الأدب اليوناني، فهو ليس أدبًا مبتكرًا، وإنما خطباء الرومان تلاميذ لخطباء اليونان مهما برعوا. وأبرعهم وهو «سيسيرون» تلميذ «لأرسطاطاليس» و«ديموستين».

ومؤرخوهم، وأبرعهم «تتليف» و«تاسيت» تلميذان «لهيرودوت» و«توسديد».

وشعراؤهم، وأكبرهم «فرجيل»، تلاميذ «لهوميروس» وغيره من شعراء اليونان.

وليس للرومان شعر تمثيلي يُذكَر، وما وُجِد عندهم من التمثيلي فهو تقليد سيئ رديء لتمثيل اليونان.

كل هذا الأدب الروماني تقليد لليوناني، أما نحن فقد تأثرنا من غير شك باليونان والرومان والهنود والفرس، ولكن من المستحيل أن يزعم زاعم أننا مقلدون ليس غير، فشخصية العرب ظهرت قوية في الشعر والنثر والعلم، لا يقال عنا إننا مقلدون أخذنا عن غيرنا، ولكنا لم نكد نأخذ عن غيرنا، حتى أسغنا ما أخذناه أولًا، وهضمناه، ثم محوناه.

ما أفاده الأدب العربي من الأدب الفارسي

أما الأدب الفارسي فهناك أسطورة غريبة جدًّا قائمة على خطأ شنيع: زعموا أن الأدب العربي مدين بشيء كثير جدًّا للأدب الفارسي، وأن العرب كانوا في العصر العباسي تلاميذ الفرس في كل شيء، كان الشعراء فرسًا، والعلماء فرسًا، ورجال البلاد فرسًا.

أما أنا فلست أنكر أن الفرس قد أثروا في الحياة العربية تأثيرًا شديدًا، ولكنه في كثير من الأحيان سيئ جدًّا.

وحسبنا أن الفرس هم الذين أدخلوا على العرب سياسة الحكم المطلق، وجعلوا قصور الخلفاء في بغداد أشبه بقصور الأكاسرة في المدائن، فقد تعلمنا من الفرس طرائقهم في الأكل والشرب واللبس، وتأسيس القصور واللهو والعبث.

ولكني مضطر أن أعترف أننا حين نبحث عن الأدب الفارسي الذي أثر في الأدب العربي، لا نكاد نجد شيئًا.

كان الفرس أصحاب السيادة في القرنين: الثاني والثالث، وكانوا يبذلون كل شيء في إظهار نفوذهم، ومع ذلك، فأين الكتب الفارسية الكثيرة التي تُرجِمت إلى العربية؟ وأين الشعر الفارسي الذي تُرجِم وأثَّر في الشعر العربي؟

لا تكاد الكتب الفارسية التي تُرجِمت تُذكَر إلى جانب ما تُرجِم عن الأمة اليونانية من العلوم والفلسفة.

وأنا أذهب إلى أبعد من هذا، فإنه إذا كانت أمة مدينة لأخرى في الأدب فليست العربية هي المدينة، بل الأمة الفارسية هي المدينة للعربية.

ذلك أنكم عندما تريدون أن تدرسوا تاريخ الأدب الفارسي الحديث، ستجدون أن هذا التاريخ يبتدئ في القرن الرابع للهجرة، وستجدون أن هذا الأدب نشأ في شكل رد فعل للأدب العربي، ومقاومة له.

وكان الفرس في أول الأمر مقلدين للعرب، أخذوا عن العرب مذاهبهم في الشعر وعلومهم، أو يكفي أن تلاحظوا أن الشعر الفارسي يقال إلى الآن، وإلى ما بعد الآن، في أوزان الشعر العربي والشهنامة، وهي فخر الفرس وآية من آيات الأدب، منظومة على البحر المتقارب، وهو بحر عربي.

ويكفي أن تقرءوا أي شاعر من شعراء الفرس، لتروا أنهم جميعًا متأثرون إلى حد بعيد جدًّا بناحية من أنحاء الأدب العربي.

بين الأدب العربي والآداب الأربعة

إذن فبين هذا الآداب الأربعة: اليوناني والفارسي واللاتيني والعربي — بين هذه الآداب التي شاعت في العصر القديم والقرون الوسطى — لا أكاد أعترف إلا بأن أولها اليوناني، ثم يليه الأدب العربي.

ويكفي أن نلاحظ أن الأدب العربي هو الأدب الذي عاشت عليه كل الأمم العربية، وهو الأدب الذي حمل لواء العلم والعقل طوال القرون الوسطى، في حين كان الأدب اليوناني منحازًا في القسطنطينية، وكانت أوروبا منهمكة في جهالتها، ويكفي أن نلاحظ أن النهضة الأولى التي ظهرت في القرن الثاني عشر في أوروبا إنما هي نتيجة لاتصال أوروبا بالعرب، فأدبنا هو الذي أحيا العقل الأوروبي، حتى جاءت النهضة الثانية التي اتصل فيها الأدب الأوروبي بالأدب اليوناني القديم.

فلو لم يكن للأدب العربي إلا أنه قد حمل لواء الأدب الإنساني والعقل الإنساني في عشرة قرون، لكان هذا كافيًا للاعتراف بأن هذا الأدب من الآداب التي تعتز بنفسها، وتستطيع أن تثبت لصروف الزمان.

نحن الآن نعيش على الأدب العربي مهما نفعل ونحاول فلن نستطيع أن نتخلص منه، وأوروبا التي تسيطر الآن على العالم بآدابها وعلمها وقوتها، أترون أنها حقيقة استطاعت أن تستغني عن الأدب العربي؟ … لا …

أما أنا فأعتقد أن هذا الأدب العربي المسكين كان سببًا في تأسيس مجد مؤثل لأوروبا، وحسبكم أن تنظروا إلى المجهودات العنيفة التي يبذلها المستشرقون في درس الأدب العربي، ويفنون فيه قوتهم وأموالهم، ما عناية أوروبا؟ وما عناية أمريكا بدرس الأدب العربي؟ ألأنه أدب لا قيمة له؟ أم لأنه أدب له قيمته، خليق أن يُدرَس؟

إذا استطاعت أوروبا أن تفخر الآن بعلمائها المستشرقين، فأنا واثق بأنها مدينة بهذا للأدب العربي.

فلولا «سيبويه» و«الجاحظ» و«المعري» وغيرهم لما وُجِد عند الفرنسيين «رينان» ولا «كازانوفا» ولا «ماسينيون» ولا غيرهم.

ولا وُجِد عند الإنجليز أعلام البحث في الأدب العربي، ولولا هذا الأدب لما وُجِد عند الألمان هؤلاء الأعلام.

الأدب العربي بين القديم والحديث

وإذن فأين مكان الأدب العربي من الآداب القديمة؟

أهو كما يقول الجاحظ: أول هذه الآداب وأرقاها، ولا يوجد أدب آخر غيره؟ … لا … فمن الإسراف أن تنكر قيمة الآداب الأخرى.

أم هو كما يقول بعض الأوروبيين والمجددين شيء لا قيمة له؟ … لا … ليس الأدب العربي أرقى الآداب، ولا هو أضعف الآداب، وليس وسطًا، بل هو من أرقى الآداب، فإذا ذُكِر الأدب القديم فهو الثاني.

أما إذا ذُكِر الأدب الحديث، فليس عندنا إلا الأمل، وكل شيء يدل على أن زمنًا قصيرًا لن يمضي حتى يستطيع أدبنا الحديث أن يثبت للآداب الأجنبية، كما ثبت لها أدبنا القديم.

١  أُلقِيَتْ في الجامعة الأمريكية في نوفمبر ١٩٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤