قطع من كتاب الأدب الكبير

في السلامة

«إن أردت السلامة فأشعر قلبك الهيبة للأمور، من غير أن تَظهر للناس منك الهيبة، فتفطِّنهم لنفسك وتُجرِّئهم عليك، ويدعو ذلك إليك منهم كل ما تهاب فاشعَب١ لمداراة ذلك من كتمان المهابة وإظهار الجراءة والتهاون طائفةً من رأيك، وإن ابتُليت بمجازاة عدو فخالف هذه الطريقة التي وُصِفت لك.»٢

في الحث على الجد

«إذا تراكمت الأعمال عليك فلا تلتمس الروح في مُدافعتها بالرَّوغان منها؛ فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها يخففها، وإنَّ الضجر منها هو يُراكمها عليك؛ فتعهد من ذلك في نفسك خصلة قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال؛ وذلك أن الرجل يكون في أمر من أموره، فيرد عليه شُغل آخر، ويأتيه شاغل من الناس يكره تأخيرَه فيكدِّر ذلك بنفسه تكديرًا يُفسد ما كان فيه، وما ورد عليه؛ حتى لا يُحكم واحدًا منهما؛ فإن تَوَرد عليك مثل ذلك، فليكن معك رأيك الذي تختار به الأمور ثم اختر أوْلى الأمرين بشغلك فاشتغل به حتى تفرغ منه، ولا يَعظمن عليك فَوْت ما فات وتأخير ما تأخَّر، إذا أعملت الرأي مَعمله وجعلت شغلك في حقه.»٣

في أدب الاستماع

«ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها، إذا حدَّث الرجل حديثًا تعرفه، ألا تُسابقه إليه، وتفتحه عليه، وتُشاركه فيه، حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم من مثل الذي يعلم، وما عليك أن تهنئه بذلك وتُفرده به.»٤

مثل هذه الجمل في كلام ابن المقفع كثير جدًّا تجدونه في الأدب الكبير، والأدب الصغير، وكليلة ودمنة، ورسائله الخاصة التي كان يرسلها إلى إخوانه.

عود إلى المفاضلة بين عبد الحميد وابن المقفع

وليس هذا يطعن في كفاية ابن المقفع ولا مقدرته الخاصة، فقد كان يكتب في أول عهد النثر الفني بالوجود، فليس غريبًا ألا يستقيم له النثر كما كان يستقيم لرجل كعبد الحميد.

وليس ابن المقفع بدعًا في هذا، فكتَّاب اليونان كانوا على مثل ما كان عليه ابن المقفع من ضعف في التعبير؛ لأنهم لم يتعودوا أداء هذه المعاني من قبل، فليس على ابن المقفع حرج في أن تضطرب لغته وتستعصي عليه، وإنما الحرج على الذين يريدون أن يتخذوا ابن المقفع مثلًا وآية للبلاغة دون إمعان أو روية.

وأنا أنصح لطلاب الأدب أن يحتاطوا عندما يريدون أن يتخذوا ابن المقفع نموذجًا للتعبير والبلاغة.

النثر في آخر القرن الثاني

بعد هذا نلاحظ أن النثر في آخر القرن الثاني قد تطور، فازدادت المعاني التي يتناولها بكثرة ما تناوله من الفنون والخواطر التي أثارها الكتاب والفلاسفة، وتقدم العلوم العربية نفسها، فتطورت لغة هذه الفنون وصارت أقرب إلى السهولة.

ولم يكد يأتي القرن الثالث للهجرة حتى كان النثر قد استقام وأصبح ذلولًا مطيعًا لأصحابه يؤدون به المعاني المختلفة، ولم يكد ينتهي هذا القرن حتى كان العرب قد استوعبوا كل هذه العلوم في النثر، وبدأت فكرة تدوين القواعد التي تضبط هذا النثر، فإذا شئتم فسأحدثكم عن ذلك في المحاضرة الآتية.

١  اشعب: اجمع.
٢  رسائل البلغاء ص٨٧.
٣  المرجع نفسه ٩٢-٩٣.
٤  المرجع نفسه ص١٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤