الشعر: الحياة الأدبية العربية في القرن الثالث للهجرة١

الأدب والتاريخ بالأحداث السياسية

أيها السادة:

لست من الذين يحبون أن يؤرخوا الآداب بالأحداث السياسية؛ لأني أشك في استقامة هذا النوع من التاريخ، ولكن بعض الأحداث التي تصيب حياة الأمم السياسية قد تكون دليلًا، وقد تميز بعض الظروف الأدبية، فليس هناك بأس أن نعتمد على بعض هذه الحوادث السياسية أحيانًا، لا على أنها تؤرخ تطور الحياة الأدبية، بل كدليل على بعض الوجوه والأنحاء لهذا التطور.

وأريد أن أبدأ هذه المحاضرات عن الشعر العربي في القرن الثالث للهجرة، بأن أقف وقفة قصيرة عند حادثتين سياسيتين، كانت أولاهما في أواسط القرن الثاني للهجرة، وكانت الأخرى في آخر هذا القرن في نحو سنة ١٩٨ للهجرة، هاتان الحادثتان أقف عندهما؛ لأنهما تكادان تحصران عصرًا لم يكن بد منه ليتحقق التطور الأدبي الذي أريد أن أحدثكم عنه، عندما أحدثكم عن شعراء القرن الثالث الهجري.

أُرِيد بهذين الحادثين مقتل خليفتين من خلفاء المسلمين أولهما الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والآخر الأمين بن الرشيد.

يكاد من يقرأ تاريخ هذين الرجلين ويقرأ الحوادث التي انتهت إلى مقتلهما أن يجد تشابهًا عظيمًا جدًّا بينهما، وأن يجد في كل منهما ضحية لطائفة من الظروف المختلفة ظاهرها سياسي، وخافيها أعم وأشمل.

الوليد بن يزيد

كان الوليد بن يزيد مخالفًا في حياته الأدبية والسياسية، مخالفة شديدة للذين سبقوه من الخلفاء، وكانت حياته أثناء ولايته للعهد مخالفة كل المخالفة لحياة الذين سبقوه من ولاة العهد أيضًا، فكلكم يذكر أن الوليد لقي من عمه هشام بن عبد الملك شرًّا كثيرًا، وظاهر الأمر أن عمه كان يريد خلعه من ولاية العهد، وأن يعهد بأمور المسلمين إلى ابنه مسلمة بن هشام بن عبد الملك فلم يُوفَّق، ولكن خلفاء أمويين آخرين أرادوا أن يخلعوا إخوتهم، وأن يولوا مكانهم أبناءهم ولم يُوفَّقوا.

ومع هذا فلم يتعرض ولاة العهد هؤلاء لمثل ما تعرض له الوليد من الشر، ولم تنتهِ حياتهم كما انتهت حياة الوليد، فقد أراد الوليد بن عبد الملك أن يخلع أخاه سليمان بن عبد الملك فلم يفلح، ولم يتعرض سليمان أثناء هذه المحنة لشر؛ ذلك أن مسألة ولاية العهد لم تكن هي المسألة التي أساءت حالة الوليد، كان الوليد رمزًا لحياة جديدة كرهها بنو أمية، وكرهها بنوع خاص الحزب الكبير المتغلب من الأسرة المالكة من بني أمية.

كان الوليد مظهر هذه الحياة الجديدة التي أخذت تظهر في أول القرن الثاني للهجرة، والتي بدأ فيها العرب يتقربون إلى الموالي، ويعتنقون مذهبهم السياسي، وكان الوليد بنوع خاص مشغوفًا أشد الشغف بنوع جديد من الحياة المادية والعقلية، لم يكن العرب يحبونه أو يطمئنون إليه، بل لم تكن الميول الرسمية تحبه وتطمئن إليه.

كان يحب الحضارة الجديدة، وكان يريد أن تكون حياته مظهرًا لهذه الحضارة الجديدة، ونشأ عن حبه لهذه الحضارة وميله إلى ما فيها من الثقافة أن تغيرت حياته العملية فأنكره أمراء بني أمية، وأنكره الحزب المحافظ الذي هو سياج الدولة.

هذا النحو من السيرة لم يكن مقصورًا على الوليد، وإنما كان شائعًا بين أمراء بني أمية، ولكن موقف الوليد السياسي ورغبة هشام في تحويل الأمر إلى «مسلمة» كل هذا جعل أقل ما يأتي به الوليد أمرًا عظيمًا.

وربما كان الوليد نفسه خير من عبَّر عن ذلك بجملة رد بها على هشام عندما سأله هشام: ما شرابك؟ فأجابه: شرابك يا أمير المؤمنين.

ولعله كان أحسن معبر أيضًا عندما أنشد أو أنشأ هذين البيتين وأمر مغنيه أن يغنوا فيهما:

يا أيها السائل عن ديننا
نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفًا وممزوجة
بالسخن أحيانًا وبالفاتر

وأبو شاكر، هو مسلمة بن هشام بن عبد الملك، ومعنى هذا أن الوليد لم يكن بدعًا من أمراء بني أمية، بل لم يكن بدعًا من عمه هشام، فقد كانت الحضارة الإسلامية الناشئة قد طغت طغيانًا شديدًا على الطبقات العربية، ولكن موقف الوليد بن يزيد من السياسة جعل صغيره عظيمًا، وحقيره أمرًا ذا خطر.

ذهب الوليد ضحية لهذه الفتنة السياسية من جهة، ولكنه بنوع خاص ذهب ضحية لهذه الحياة الجديدة، التي كانت دليلًا على انقلاب خطير في الحياة العربية من الناحية العقلية والاجتماعية والسياسية.

الأمين

ولم يكن أمر الأمين خيرًا من أمر الوليد، فقد تم التطور السياسي والاجتماعي والعقلي بين هذين الخليفتين، ثم حدث الانقلاب بسقوط الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية، فتغير الوضع السياسي في الأمة الإسلامية تغيرًا تامًّا، وتحققت المساواة بين العرب وغيرهم من الموالي، وتمَّ التطور الذي تحقق بين العرب وبين الأمم المغلوبة، وتمَّ التطور في كثرة ما نُقِل إلى اللغة العربية من ثقافات الأمم الأجنبية وحضاراتها، تمَّ كل هذا وأحدث آثاره المختلفة ولكنه لم يتم في سهولة ولا في يسر، كما هي طبيعة الأشياء، وإنما كان هذا العصر الذي ينحصر بين الوليد والأمين عصر ثورة، أو هو إلى الثورة أقرب منه إلى الانتقال، تغيرت الحياة السياسية في أثناء هذه المدة التي لا تكاد تتجاوز خمسًا وسبعين سنة، ولكنه كان تطورًا ثائرًا تغيرت فيه العقلية الإسلامية تغيرًا تامًّا، فبعد أن كان العلم يسيرًا سهلًا، يعتمد على الرواية والنقل والحفظ في علوم الدين والحوادث والشعر والتاريخ، تعقدت المعلومات وكثرت واختلفت أشكالها وألوانها، وعظم حظ الناس، وخاصة المستنيرين من هذه الألوان، ولم ينتهِ هذا العصر دون أن يغير الحياة الفردية تغييرًا تامًا، وإذا لم تكن مظاهر هذه الثورة بادية في قصور الخلفاء، فإن مظاهرها قد ظهرت في تتبع أنصار هذه الثقافة، وفي احتياج الدولة إلى أن تقاوم هذا الجهاد العنيف الذي كانت تُخشَى منه على الدين وعلى النظام السياسي، وظهر في فتك الخلفاء بطائفة غير قليلة من قوادهم ووزرائهم، إما لأنهم كانوا يخشونهم على تكوين البيئة العربية، وإما لأشياء أخرى.

كانت الثورة متصلة طوال هذه السنين، ولكن مقتل الأمين كان خاتمة لهذا النوع من الاضطراب، كان خاتمة عكسية، فكما أن الوليد ذهب ضحية للتجديد، فقد ذهب الأمين ضحية للمحافظة على القديم، لا لأن الأمين من أنصار القديم؛ ولكن لأن الظروف السياسية أرادت أن يكون الأمين عربي الأم، عربي الأب، وأرادت أن يكون المأمون عربي الأب، فارسي الأم.

فتعصب الفرس للمأمون وتعصب العرب للأمين، واتخذ العرب قصة الأمين وحوادثه وسيلة خُيِّل إليهم أنهم يستطيعون أن يستردوا ما كان لهم من سلطان، فكان هذا الاصطدام العنيف بين العرب والذين يميلون إليهم، وبين الفرس والذين على شاكلتهم وانتهى الأمر بهذه المأساة التي قُتِل فيها الأمين، ذهب الأمين ضحية لمقاومة العرب للفرس، ولئن كانت وفاة الوليد ظهرت في أول الأمر مظهر هزيمة للتجديد، فإن وفاة الأمين ظهرت مظهر انتصار لهذه الحياة الجديدة.

من الغريب أن بين الأمين والوليد تشابهًا في الطبيعة والمزاج، فقد كان الوليد يحب اللهو والمجون واللذة والأدب، وكان الأمين يكلف بهذا كله وإن اختلفت الظروف بينهما بعض الاختلاف.

الحياة في القرن الثالث

قدمت كل هذه المقدمة لأصل منها إلى أن العصر الذي أريد أن أتحدث إليكم عنه إنما هو عصر استقرار جاء بعد عصر اضطراب عنيف، وتطور وثورة شديدي الخطر، فلئن كانت حياة المسلمين طوال القرن الثاني مضطربة مختلطة يكثر فيها الفساد والاضطراب العقلي والسياسي، إن العصر الجديد بعد المأمون هو عصر استقرار بجميع ما يمكن أن تدل عليه هذه الكلمة، سواء في الناحية السياسية، أم غير السياسية.

ليس معنى هذا أن الثورات الموضعية قد هدأت تمامًا في هذا العصر، فقد حدث كثير منها، وليس معنى هذا أن حياة الخلفاء كانت في اطراد طوال هذا العصر، بل كان يشوبها أحيانًا شيء من الاضطراب.

إنما أريد أن الحياة العقلية والنظام السياسي قد استقرا استقرارًا واضحًا جدًّا، ففي الحياة العقلية لم نجد ما نشعر به من الاضطراب والشك، ولم يظهر المجون في هذا القرن الثالث، كما ظهر جليًّا بشعًا في القرن الثاني، وليس غريبًا ولا قليل الدلالة أن أبا نواس مات في سنة تسع وتسعين ومائة، أي إنه مات مع القرن الثاني، أي مات مع كل ما احتمله هذا القرن من عبث ومجون واضطراب وشك في كل شيء، بعيد جدًّا هذا الشبه الذي نحاول أن نجده بين الشعراء الذين عاشوا في القرن الثاني والشعراء الذين عاشوا في القرن الثالث، فعندما نقرأ شعر أبي تمام والبحتري وابن المعتز وابن الرومي وديك الجن، لن نجد شيئًا يشبه حتى من بعيد هذا المجون، وهذا الفجور العنيف الذي نجده في شعر بشار وأبي نواس والرقاشي والحسين بن الضحاك، الذين عاشوا في الكوفة والبصرة أثناء القرن الثاني للهجرة.

ثم ليس الأمر مقصورًا على شعر الشعراء، بل تستطيعون أن تقفوا على علم العلماء في القرن الثاني والثالث، وسنجد أن العلم في القرن الثاني لم يكن هادئًا ولا مستقرًّا، بل كان ناشئًا متجددًا؛ ذلك أن العلماء في القرن الثاني كانوا يلتمسون علمهم ويحاولون إيجاد الصلة بينهم وبين اللغة العربية، يحاولون أن يجددوا هذا العلم الغريب في بلد لم يكن له به عهد، يُوفَّقون أحيانًا ويخطئون أحيانًا، فالفلسفة اليونانية والسريانية، تُترجَم أيام المنصور ترجمة مضطربة، ثم يحاولون ترجمتها ترجمة أقرب إلى الصحة وأدنى إلى الصواب أيام الرشيد، ثم تُترجَم ترجمة صحيحة في أيام المأمون، ثم يسيرون بها إلى تفهم وشرح، ثم إلى تفصيل ونقد.

هذه المحاولات التي تظهر واضحة في الفلسفة، تظهر كذلك واضحة في غير الفلسفة من العلوم، فالنحويون في القرن الثاني مضطربون يحاولون أن يضعوا قواعده على أسس ثابتة، منهم قوم يؤثرون القياس ويتعمقونه، وآخرون يؤثرون السماع ويكتفون به، حتى إذا قارب القرن الثاني أن ينتهي كان النحو قد نُظِّم في كتاب سيبويه، وقولوا مثل هذا في بقية العلوم والفنون التي عُنِي بها العرب طوال القرن الثاني للهجرة.

كان هذا العصر عصر إقرار حياة جديدة، في بلد لم يكن قد تعودها من قبل، فإذا جاء القرن الثالث تم التعارف والائتلاف بين المسلمين، وهذا النوع الجديد من العلم والفلسفة والحياة المادية والسياسية.

فالسياسة الإسلامية نفسها في هذا العصر كانت سياسة محاولة ومصارعة، يغلب الفرس ويقاومهم العرب، وتضطرب الدولة نفسها بين سياسة أولئك وهؤلاء.

فإذا جاء القرن الثالث فقد استقر كل شيء ووُضِع للدولة نظام ثابت لا خوف عليه، فليس غريبًا إذن أن يمتاز هذا القرن الثالث عن القرنين الماضيين وأن تكون الحياة العقلية فيه خيرًا من الحياة العقلية فيهما، وليس يعنيني أن أتعرض لتفاصيل الحياة في هذا القرن الثالث، ولكن ما دمت سأتحدث عن الشعراء الذين عاشوا فيه، فلا بد أن أرسم لكم إطارًا واضحًا بعض الوضوح لهذه البيئة التي عاش فيها هؤلاء الشعراء، ولا سيما أن هؤلاء الشعراء يمتازون من شعراء القرن الثاني بأنهم كانوا جميعًا علماء.

وأظنكم تذكرون أن الشعراء في العصر الجاهلي والقرن الأول كانت لهم حظوظ يسيرة جدًّا من الثقافة، وكان أثر الطبع الخصب في شعرهم أكثر من أثر العلم، فلم يكن الفرزدق أو جرير أو الأخطل علماء، ولم يكونوا يحفلون بالعلم، ولكنهم كانوا يعرفون من أمر قبيلتهم، وأدب العرب ما يعرفه رجل مستنير، أما في القرن الثاني، عصر بشار ومطيع وحمَّاد وخلف وأبي نواس، فقد تغير فيه حظ الشعراء من الثقافة وأصبح الشعراء جميعًا يأخذون منها بحظوظ مختلفة وكلفوا كلفًا عظيمًا بالثقافات المنتشرة، وقليل منهم عُنِي بغير الأدب، كبشار الذي لم يكن أديبًا فحسب وإنما كان متكلمًا قبل أن يكون شاعرًا ولكنهم كانوا يصطنعون الشعر خاصة يتخذونه مهنة ووسيلة إلى الشهرة والكسب، وأن يجد كل واحد منهم لنفسه مكانة في الحياة الاجتماعية.

أما في القرن الثالث فالشعراء على غير هذا كله فهم لا يكتفون بالشعر، ولا يكتفون بهذه الثقافات على أنها تغذية لنفوسهم فحسب، بل كان كل منهم يُعنَى بناحية ويريد أن يكون مختصًّا بفرع من فروع العلم، ويحاول أن يؤلف الكتب وأن يذيعها، وأن يكون كغيره من الأدباء، فأبو تمام يضع كتاب الحماسة، والبحتري أيضًا يضع كتاب الحماسة، وابن المعتز يضع كتبًا ويحاول وضع نظرية في البديع، وأظنكم جميعًا سمعتم ما يقال من أن ابن المعتز أول من وضع علم البديع.

هذه الصفة التي يمتاز بها هؤلاء الشعراء في القرن الثالث تدل على أن الحضارة الإسلامية كانت قد وصلت إلى طور من الرقي عظيم، وصلت إلى هذا الطور الذي لا يصبح فيه الشعر ضرورة، ولكنه يصبح فنًّا من فنون الترف والزينة، والذي لا يقبل الناس فيه على أن يتَّخذوا الشعر صناعة، بل يتخذونه حلية وزينة ينفقون فيها أوقات فراغهم، وهذا الطور هو الذي يصل إليه الشعر عندما يعظم حظ الأمم من الحياة العقلية ويظهر فيه النثر.

الشعر والنثر في القرون الثلاثة الأولى

في القرن الأول للهجرة، لم يكن هناك نثر ظاهر، وكان الشعر هو اللسان الوحيد الذي يعبر عن الأمة العربية في حياتها السياسية وغير السياسية.

وفي القرن الثاني، ظهر النثر، وكان الكتاب يحاولون أن يكسبوا لأنفسهم مكانة، وكان كل شيء في هذا العصر مضطربًا، وكان النثر نفسه مضطربًا، فلما انتهى القرن الثاني كان النثر قد وصل إلى ما كان يريد، واستطاع أن يزاحم الشعر وأن يقف معه جنبًا إلى جنب.

وفي القرن الثالث أخذ يتفوق عليه، فلم يبقَ الشعر هو اللسان الوحيد الذي تضطر الأمة إلى أن تتخذه ترجمانًا لحياتها العامة، وإنما هو لسان من لسانين أحدهما النثر، وإذا كان النثر قد استأثر بالحياة العقلية، فهو لسان الفلسفة والعلم، ولسان لناس في حاجاتهم اليومية ومحاوراتهم، فلم يبقَ للشعر إلا فنون يمكن أن تستغني عنها الجماعة، إلا عند الملوك والأمراء والوزراء الذين يعنيهم أن يسمعوا كلام الناس، وأن يمدحهم الناس، فليس غريبًا أن ألا يقصر الشعراء جهودهم على هذا الفن الذي أصبح شيئًا من عدة أشياء.

إذا كانت هذه هي الحال، وكان هؤلاء الشعراء قد اضطروا إلى أن يأخذوا بحظوظ مختلفة من العلم والثقافات الشائعة في هذا العصر، فليس من سبيل إلى أن نفهم طبائعهم وأذواقهم في الشعر إلا إذا فهمنا هذه الثقافات التي تأثر بها هؤلاء، والواقع أننا لا نستطيع أن نفهم شاعرًا كأبي تمام إلا إذا عرفنا هذه المؤثرات العلمية المختلفة التي تأثر بها هذا الشاعر، فليس أبو تمام كغيره من الشعراء الذين سبقوه، وليس هو الشاعر الذي يعتمد على الطبع وحده، كما كان شعراء القرن الأول، أو على الطبع مع ثقافة واسعة ولكنها سطحية، كشعراء القرن الثاني، ولكنه رجل عالم مفكر قبل أن يكون شاعرًا، وهو عالم بكل ما يدل عليه لفظ عالم في هذا العصر، فهو راوية، نحوي، فقيه، وهو عالم بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية، والثقافات الأخرى. وآثار كل هذه الثقافات والعلوم واضحة في شعره، ولا يمكن أن يُفهَم إلا إذا رُدَّ إلى هذه الثقافات، ومثل هذا يمكن أن يُقال في ابن الرومي وابن المعتز، وإذن فلا بد أن نلم بهذه الثقافات التي كانت شائعة منتشرة أيام هؤلاء الشعراء.

ثقافات هذا العصر

هذه الثقافات كما تعرفون ثلاث: إحداها الثقافة العربية الخالصة التي تعتمد على القرآن وما يتصل به من علوم الدين، وعلى الشعر وما يتصل به من العلوم الأدبية كالنحو واللغة وغيرهما، وثانيتها: الثقافة اليونانية، وثالثتها: الثقافة الشرقية، وأريد أن أدل بهذا اللفظ على ثقافة معقدة هي التي نجدها عند الفرس والهنود والأمم السامية التي كانت منتشرة في العراق، والواقع أن هذه الثقافة الثالثة ربما كان أصلح الأسماء لها أن أسميها شرقية، فهي ليست فارسية خالصة، ولا هندية، ولا سامية، وإنما هي خليط من التراث العقلي لهذه الأمم كلها، متأثر بحركة الفتح اليوناني، وتعمق اليونان في الدول الآسيوية الشرقية طوال هذه المدة بين فتوح الإسكندر وظهور الإسلام، وتظهر في هذه الثقافة آثار لليونان ولكنها ضئيلة مختلطة، وآثار للفرس والهنود، ولكنها ضئيلة مختلطة أيضًا. هذا النوع من الثقافة هو الذي يسميه الأوروبيون عندما يريدون أن يتحدثوا عن الحياة قبل الإسلام ﺑ الألينزم Hellenisme، وقد نشأت من اتصال العقل الشرقي بالعقل اليوناني، هذه الثقافات الثلاث: اليونانية الخالصة التي نقلها المسلمون عمدًا، والثقافة العربية، والثقافة الشرقية هي التي كانت تؤلف التراث العلمي للمسلمين في هذا العصر، وكانت طوائف مختلفة تختص ببعض هذه الثقافات: بعضهم يختص بالثقافة اليونانية، وبعضهم بالفارسية والعربية، وكثير منهم يختص في فروع من هذه الثقافات، ولكن الرجل المستنير الذي يعمل في مناصب الدولة، ويقوم من الأمة مكان الرجل القائد، لم يكن له بد من أن يأخذ بحظ من هذه الثقافات جميعًا، وكانت هذه الثقافات يخاصم بعضها بعضًا، فكما أن هناك خصومة الآن بين العربية الخالصة والأوروبية الجديدة، وكما أن هناك خصومة بين الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية في مصر، فقد كان هناك خصومة بين الأطباء والمترجمين وأصحاب الكلام، فريق يتعصبون للثقافة اليونانية ويدافعون عنها، وفريق آخر يتعصب للعربية ويدافع عنها.

وكان قوم يتوسطون أولئك وهؤلاء، وربما كانت هناك خصومات بين الذين يطببون على طريقة اليونان، وبين الذين يطببون على غيرها من الطرق.

ولعل من أجمل ما يُقرَأ، وهو مضحك — كما تضحك الخصومة القائمة بين الأستاذ العقاد وبيني — ما كتبه ابن قتيبة في مقدمة كتاب أدب الكاتب في استهزائه بفن المنطق وبتقسيم اليونان للكلام، وبذكر القضية والقياس وما إلى ذلك من هذه الألفاظ التي لا تدل على شيء، وابن قتيبة يرى أن أرسططاليس لو عاش إلى هذا العصر لاعترف بأنه فقير لا حظ له من فصاحة ولا من علم.

لم يكن إذن بد لشعرائنا في هذا العصر من أن يأخذوا بحظوظهم المختلفة من هذه الثقافات، واقرءوا قصيدة أبي تمام:

السيفُ أصدق أنباء من الكتب
في حده الحدُّ بين الجد واللعب

فسترون أنها تمثل تمثيلًا صادقًا هذه الثقافات الثلاث، فيها العربية واضحة في لغتها ونظمها على هذا النحو من الوزن والقافية، كما أنها واضحة حين يذكر الفتح ويحقق النسب بين فتح عمورية وواقعة بدر، وعندما يذكر الخصومة بين الإسلام والمسيحية، ثم تظهر الثقافة الفارسية واضحة جدًّا في مهاجمته للمنجمين وتصريحه بكذبهم، ثم تظهر الثقافة اليونانية عندما يذكر مدينة عمورية وقدمها وثباتها، ثم يظهر أثر هذه الثقافات كلها عندما ندرس طبيعة الخيال الشعري عند أبي تمام، فنحن نجد في هذا الخيال أثرًا للحياة العربية وأثرًا للطبيعة اليونانية، وإن صح ما يُروَى من أن أصل أبي تمام أقرب إلى اليونانية منه إلى بني طيئ.

وقد كان لكل هذه الجهود العنيفة التي كان يبذلها العلماء أثر كبير، فقد كانوا كالنحلة التي تطوف على الأزهار المختلفة المتباينة فتجمع خير ما في هذه الأزهار جميعًا، فشعر هؤلاء الشعراء في حقيقة الأمر ليس إلا خلاصة صافية لذيذة لكل هذه الثقافات.

الشعر والحياة السياسية

أما أنا فكلما درست حياة العصر الذي عاش فيه شعراء القرن الثالث والذي عاش فيه شعراء آخرون — كشعراء القرن الثاني — كلما درست الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والخلقية اشتد إعجابي بالشعر وتهالكي عليه؛ ذلك أني لا أجد شيئًا أبشع ولا أشد إيذاء للنفس وتبغيضًا للحياة من تفصيل الأحوال السياسية في القرن الثالث للهجرة، أريد أن الحياة العلمية حياة كلها شر، فيها سلطان المنفعة أقوى من أي سلطان آخر، وحب النفس أقوى من أي عاطفة أخرى، لا كرامة في هذه الحياة العامة لخلق أو عاطفة، وإنما هو التهالك على المنفعة، إذا درست الحياة في هذا العصر بما فيها من حياة سياسية وغير سياسية لا أدري كيف أصور حبي للشعراء وأصحاب الفن، فقد استطاعوا أن يعطوا من هذه الصور المنكرة صورة جميلة هادئة نطمئن إليها ونعجب بها ونفتن بها فتنة عندما نقرأ شعر هؤلاء الناس، وماذا ينتظرون في شعر عصر مثل هذا العصر وقد كان كل شيء فيه يقوم على الغش والخداع، وربما كان هذان البيتان أحسن ما يمثل هذا العصر، وقد عثرت عليهما عرضًا في الطَّبري:

أضاع الخلافة غش الوزير
وجهل الأمير، وفسق المُشيرْ
ففضلٌ وزير، وبكر مُشير
وقد أتيا ما يضير الأميرْ

ويكفي أن ننظر إلى هذه السيئات التي كنت تُقترف، والتي كان كل واحد يسعى إليها ما استطاع، والتي كانت تقوم على شيء أقل ما يوصف به أنه حنث في اليمين ونكث للعهود، وأن من يقترفه فنساؤه طوالق، ورقيقه حر، وماله وقف على الفقراء، وعليه أن يحج خمسين مرة ماشيًا، ثم لا تكاد تسنح الفرصة حتى تُبدَّل كل هذه العهود.

فعندما نقرأ تاريخ هذه الحياة الاجتماعية والسياسية والخلقية تضيق نفوسنا بالحياة، فإذا تركنا التاريخ ولجأنا إلى الشعراء والكتاب وجدنا شيئًا يحبب إلينا الحياة، ويحبب إلينا الفن، ويدفعنا إلى التهالك عليهما، فلنبذل ما نستطيع لنفهم هؤلاء الشعراء، ولكن لنجتهد أن يكون فهم هذه الحياة التي أحاطت بهؤلاء الشعراء رفيقًا سهلًا، وأن نلم بهذه الحياة إلمامًا يسيرًا، يكفي أن يعطينا عنها فكرة ما، حتى إذا أخذنا هذه الفكرة أسرعنا إلى هؤلاء الشعراء نلتمس عندهم المثل الأعلى في الحياة والحب والكرامة.

وسنبدأ فيها بالدرس في محاضرتنا المقبلة إن شاء الله.

١  هذه المحاضرة أولى المحاضرات الخمس التي أُلقِيَت في قاعة يورت التذكارية في شهري فبراير ومارس من سنة ١٩٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤