الجرائم والعقوبات

حينئذٍ وقف أحد قضاة المدينة وقال له: «هات لنا خطبةً في الجرائم والعقوبات.»

فأجاب وقال:

عندما تسير أرواحكم هائمة فوق الرياح،
وتمسون منفردين، ليس لكم من يقيكم طوارئ السوء، حينئذٍ تقترفون الإثم ضد غيركم وضد أنفسكم.
ولأجل ذلك الإثم الذي تقترفونه يجب أن تقرعوا برهةً وتنتظروا على بوابة القدوس.

•••

فإن ذاتكم الإلهية بحرٌ عظيم،
كانت نقية منذ الأزل، وستظل نقية إلى آخر الدهور.
وهي كالأثير لا ترفع إلا ذوي الأجنحة.
أجل، إن ذاتكم الإلهية كالشمس،
لا تعرف طرق المناجذ،١ ولا تعبأ بأوكار الأفاعي؛
غير أنها لا تقطن وحيدة في كيانكم؛
لأن كثيرًا منكم لا يزال بشرًا، وكثيرًا غيره لم يَصِر بشرًا بعد، بل هو مسخ لا صورة له يسير غافلًا في الضباب وهو ينشد عهد يقظته.
فلا أودُّ أن أُحدِّثكم الآن إلا عن هذا الإنسان فيكم؛
لأن هذا الإنسان — دون ذاتكم الإلهية، ودون المسخ الهائم في الضباب — هو الذي يعرف الجرائم والعقوبات على الجرائم في كيانكم.
قد طالما سمعتكم تتخاطبون فيما بينكم عمن يقترف إثمًا كأنه ليس منكم، بل غريب عنكم ودخيل فيما بينكم.
ولكنني الحقَّ أقول لكم، كما أن القديس والبارَّ لا يستطيعان أن يتساميا فوق الذات الرفيعة في كلٍّ منكم،
هكذا الشرير والضعيف لا يستطيعان أن ينحدرا إلى أدنى من الذات الدنيئة التي في كل واحد منكم.
وكما أن ورقة الشجرة الصغيرة لا تستطيع أن تحوِّل لونها من الخضرة إلى الصفرة إلا بإرادة الشجرة ومعرفتها الكامنة في أعماقها،
هكذا لا يستطيع فاعل السوء بينكم أن يقترف إثمًا بدون إرادتكم الخفية ومعرفتكم التي في قلوبكم؛
فإنكم تسيرون معًا في موكب واحد إلى ذاتكم الإلهية.
أنتم الطريق وأنتم المطرقون.
فإذا عثر أحدٌ منكم فإنما تكون عثرته عِبرة للقادمين وراءه، فيجتنبون الحجر الذي عثر به.
أجل، وتكون عثرته توبيخًا للذين يسيرون أمامه بأقدام سريعة ثابتة؛ لأنهم لم ينقلوا حجر العثار من طريقه.
وإليكم يا أبناء أورفليس هذه الكلمة التي، وإن حلَّت ثقيلة على قلوبكم، فهي الحقيقة بعينها:
إن القتيل ليس بريئًا من جريمة القتل،
وليس المسروق بلا لوم في سرقته.
لا يستطيع البار أن يتبرأ من أعمال الشرير،
ولا الطاهر النقي اليدَيْن بريء الذمة من قذارة المدنسين.
كثيرًا ما يذهب المجرم ضحية لمن وقع عليه جرمه،
كما يغلب أن يحمل المحكوم عليه الأثقال التي كان يجب أن يحملها الأبرياء وغير المحكومين؛
لذلك لا تستطيعون أن تضعوا حدًّا يفصل بين الأشرار والصالحين، أو الأبرياء والمذنبين؛
لأنهم يقفون معًا أمام وجه الشمس، كما أن الخيط الأبيض والخيط الأسود يُنسجان معًا في نَوْل واحد.
فإذا انقطع الخيط الأسود ينظر الحائك إلى النسيج بأسره ثمَّ يرجع إلى نوله يفحصه وينظفه.

•••

لذلك، إذا جاء أحدكم بالزوجة الخائنة إلى المحاكمة، فليَزِنْ أوَّلًا قلب زوجها بالموازين، وليَقِسْ نفسه بالمقاييس.
وكل من شاء أن يلطم المجرم بيمينه يجدر به أوَّلًا أن ينظر ببصيرة ذهنه إلى روح من أوقع الجرم عليه.
وإن رغب أحد منكم في أن يضع الفأس على أصل الشجرة الشريرة باسم العدالة، فلينظر أوَّلًا إلى أعماق جذورها.
وهو لا شك واجد أن جذور الشجرة الشريرة، وجذور الصالحة، وغير المثمرة، كلها مشتبكة معًا في قلب الأرض الصامت.
أما أنتم أَيُّهَا القضاة الذين يريدون أن يكونوا أبرارًا، أي نوع من الأحكام تصدرون على الرجل الأمين بجسده السارق بروحه؟
أم أي عقاب تُنْزِلون بذلك الذي يقتل الجسد مرة ولكن الناس يقتلون روحه ألف مرة؟
وكيف تطاردون الرجل الذي مع أنه خدَّاع ظالم بأعماله، فهو موجع القلب ذليل مُهان بروحه؟

•••

أجل، كيف تستطيعون أن تعاقبوا الذين لهم من توبيخ ضمائرهم، وهو أعظم من جرائمهم، أكبر قصاص على الأرض؟
أليس توبيخ الضمير هو نفسه العدالة التي تتوخاها الشريعة التي تتظاهرون بخدمتها؟
فأنتم لا تستطيعون أن تسكبوا بلسم توبيخ الضمير في قلوب الأبرياء، كما أنكم لا تقدرون أن تنزعوه من قلوب الأشقياء؛
فهو يأتي لذاته في ساعة من الليل لا ننتظرها، داعيًا الناس إلى النهوض من غفلتهم، والتأمل بحياتهم وما فيها من التعديات والمخالفات.
وأنتم، أَيُّهَا الراغبون في سَبْر غَوْر العدالة، كيف تقدرون أن تدركوا كنهها إن لم تنظروا إلى جميع الأعمال بعين اليقظة في النور الكامل؟
في مثل هذا النور تعرفون أن الرجل المنتصب والرجل الساقط على الأرض هما بالحقيقة رجل واحد واقف في الشفق بين ليل ذاته الممسوخة ونهار ذاته الإلهية.
وأن حجر الزاوية في الهيكل ليس بأعظم من الحجر الذي في أسفل أساساته.
١  مناجذ: جمع خلد من غير لفظه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤