التصحيف

المراد بالتصحيف هنا مصدر صَحَّف، وهو أن يخطئ القارئ في قراءة الكلمة وروايتها؛ لاتفاق في صورة أحرف الكلمتين، واختلاف في النقط، أما الحركات فقد تختلف، وربما لا تختلف، وقد وقع هذا الأمر منذ القديم في هذه اللغة المبينة حتى إن أبا عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني المتوفى سنة ٣٦٧ وضع تأليفًا بديعًا سَمَّاهُ: «التنبيه على حدوث التصحيف»، وقد نبه فيه على التصحيف الذي وقع في متون الأحاديث النبوية، وكلمات العرب البلغاء، كالإمام علي بن أبي طالب، وفي الأشعار القديمة والأمثال السائرة.

أما أمثال التصحيف، فأكثر من أن تحصى ونحن نذكر لك طرفًا منها: قال أبو الفضل جمال الدين في مادة «ق ب ع»: وفي حديث الأذان: أنه اهتم للصلاة كيف يجمع لها الناس، فذكر له «القُبْع» فلم يعجبه ذلك، يعني البوق. رويت هذه اللفظة بالباء (أي القبع)، والتاء (أي القتع)، والثاء (أي القثع)، والنون (أي القنع)، وأشهرها وأكثرها النون، ثم قال في مادة «ق ث ع»، بعد أن أورد هذا النص أيضًا: «قال الخطابي: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: بالثاء المثلثة، ولم أسمعه من غيره.» ا.ﻫ.

وقال أيضًا في ترجمة «ق ت ع» بعد إيراد النص المذكور: «ومدار هذا الحرف على هُشَيْم، وكان كثير اللحن والتحريف على جلال محله في الحديث.» ا.ﻫ.

والأصل عندنا هو القُنْع، بقاف مضمومة فنون ساكنة يليها عين في الآخر، وهي تنظر إلى اليونانية CONKHOS (Ó KÓγχος, ου) أي قنع أو شبُّور أو بوق أو كل ما يشبه البوق من المحار والأدوات، والحرف اليوناني KH كثيرًا ما يقابله العين في لغتنا.
وقالوا: الجِنس، والقِنس، والقِبس، والكِبس، والقِنص، والكِرس، والجِرس، والجِنث، والكِنع، والقِنع، والعَنْك، والكنْسِح، والكِنسِيح، والبِنْج، والسِّنْخ، والحِنْج، إلى غيرها، ونظن أن الأصل هو الجنس وهو ينظر إلى اليونانية YÉVOS أو اللاتينية GENUS.

ومن المصحَّف اللُّغثون واللغنون واللغدود، وهو الخيشوم.

وقالوا: الحَوْف (على ما في القاموس وتاج العروس والأوقيانوس): القرية بالياء المثناة التحتية بعد الراء، وأيضًا القِرْبة بباء موحدة، ومثل ذلك وقع لهم في شرح القَسَّة فقالوا: معناها: القَرْية والقِربة.

ونظن أن المعنى الصحيح الأول للحَوْف هو القِرْبة بالباء الموحدة؛ لأن الكلمة مشتقة من مادة تدل على جِلْدٍ، وقِدٍّ، والقِرْبة تكون من تلك المادة نفسها.

وأما القسَّة فأوَّل ما كان معناها القرية بالياء المثناة؛ لأن في معنى هذه المادة ما يدل على الإبل، والإبل لا تكون في أغلب الأحيان إلا في القرى، قال اللغويون: قسَّ الإبل قسًّا: أحسن رعيها وساقها، وقسَّت الناقة: رعت وحدها، والقَسُّ صاحب الإبل الذي لا يفارقها، فيرجح أن يكون معنى القَسَّة القَرْية، وفيما بقي من هذه المادة ما يؤيد هذا المعنى، فلتراجع.

وقالوا: أمر مدعمَس ومدغمَس ومدخمَس ومدهمَس ومتهمَس أي مستور، ولا جرم أن الأصل هو من مادة «د م س» من دمس الظلام دموسًا: اشتد، ودمس الإهاب غطاه ليُمَرِّطَ شعره، والدمس من الأمور: العظام، والدَّمَس أي ما غطي، يقال: شيء دَمَس أي مُغَطَّى، ثم زادوا المادة هاءً في الوسط؛ ليدلوا بها على اشتداد الأمر وهي تزاد كذلك للتعظيم على ما ورد مثله كثيرًا في اللغة، وأما سائر الأحرف فمبدلات منها، والتصحيف في العربية شيء كُثار لا يقدَّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤