المعرَّب أو الدخيل في العربية

مما لا يحتمل شكًّا ولا ريبًا وجود الدخيل أو الأعجمي في لسان عدنان. قال ابن فارس في كتابهِ «الصاحبي» ما هذا نصُّهُ بحروفهِ: «زعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العَجَمِ شيء، وأنه كله عربي، يتأوَّلون قوله، جلَّ ثناؤه: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وقوله: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. قال أبو عُبَيْد: والصواب من ذلك عندي — والله أعلم — مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الحروف، وأصولها عجمية، كما قال الفقهاء؛ إلا أنها سقطت إلى العرب، فأعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية؛ ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب؛ فَمَنْ قال إنها عربية، فهو صادق، وَمَنْ قال عَجَمِيَّة، فهو صادق.» ا.ﻫ.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن أبي ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل، قال: «نزل القرآن بكل لسان.» وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك قال: نزل القرآن بكل لسان، وأخرج ابن المنذر في تفسيره عن وهب بن مُنَبِّه، قال: ما من اللغة شيء إلا منها في القرآن شيء، قيل: وما فيه من الرومية؟ قال: «فَصُرهُنَّ» يقول: قَطِّعْهُنَّ. ا.ﻫ. المقصود من إيرادهِ.

على أن معرفة هذا المُعَرَّب ورَدَّه إلى أصله قد يصعب أحيانًا، ولا سيما إذا كانت اللفظة ثلاثية أو رباعية، وأصولها تشبه أصول العربية، ووزنها يشبه الوزن العربي، أما إذا كان الوزن بعيدًا عن المقاييس المبينة، ومعناها لا يتصل بمعنى الأصول المحكمة، فإن الرائز لها قد يهتدي إلى غرابتها، ولكن هناك بعض الأحيان رجال يُصِرُّون على عربيتها.

مثال ذلك:
  • (١)
    الأَطْرَبُون: فهذه الكلمة من اللاتينية TRIBUNUS وهو عند الرومان حاكم كان عندهم وبيده أمر القَليرَة CELERES وهم ثلاثمائة فارس رتَّبَ أمرهم روملس ليكونوا حرسًا له؛ ثم انتقل إلى معنى الحاكم الذي يدافع عن حقوق الأمة ويدرأ عنها كل ما يضرُّ بمنافعها، ثم … ثم … ثم …

    والكلمة لم يذكرها صاحب القاموس، ولا كل مَنْ اغترف من مَعِينِهِ لكني وجدتها في التهذيب في مادة «ج ذ م ر» قال الأزهري: «ما بقي من يدِ الأقطع عند رأس الزندين: جُذْمُورٌ، يقال: ضربه بِجُذْمُورِهِ أي بِقَطَعتَهِ. قال عبد الله بن سَبْرَةَ يَرْثَي يدَهُ

    فَإِنْ يَكُنْ أَطْرَبُونُ الرُّومِ قَطَّعهَا
    فَإِنَّ فيها بحمدِ اللهِ مُنْتَفَعَا
    بَنَانَتَانِ وَجُذْمُورٌ أُقِيمُ بها
    صَدْرَ القَنَاةِ إذا ما صارخٌ فَزِعَا

    قال: ويُرْوَي: «إذا ما آنسوا فزعا.» انتهى.

    ووجدتها في لسان العرب في ترجمة «ا ط ر ب ن». قال: «الأطربون، من الروم، الرئيس منهم، وقيل: المقدَّم في الحرب، قال عبد الله بن سَبْرَةَ الْحَرَشِيُّ: «فإن يكن …» (البيت) قال ابن جني: هي خماسية، كَعَضْرُفوط.» ا.ﻫ.

    وكنتُ قد قرأت في أحد كتب الأدب — والآن لا أتذكر اسم الكتاب ولا الموطن الذي ورد فيه — أن الأَطْرَبُون: رئيس الروم، وسمي كذلك لأن رؤساءهم كثيرو الطرب، ومن الغريب أن ينطق أديب بهذا التعليل: فهل كان الرومان يحسنون العربية حتى يشتقوا هذا الاسم من العدنانية؟ أم هل العرب هم الذين وضعوا هذا الاسم على كبير جند الروم، وهؤلاء اقتبسوه منهم؟ أم هناك تعليل آخر لم نقف على سره؟ ذلك ما كنت قد قرأته وأنا شاب ولم أُقَيِّد اسم الأديب ولا اسم كتابهِ، وعلى كُلٍّ فإن قول ابن جِنِّي إن اللفظ خماسي وإنه كَعَضْرفوط، يُشْعِر بأنهُ يقول بعربيته، وهو بعيد لا يُصَدَّق.

    ومهما يكن من أمرٍ، فإن هذه الكلمة وردت في كتب الأخبار والتواريخ العربية، لكن مُصَحَّفة بصورة «أرْطَبُون» بتقديم الراء على الطاء، وقالوا إنهُ علم رجُلٍ كان يدافع عن «أجنادين» في أيام فتح عمرو بن العاص لها، فتأمل (وراجع المقتطف ٩٢ : ١٩٥ وما يليها) فالوهم ظاهر والتصحيف بادٍ، لكل حاضرٍ وبادٍ.

    وقد ذهب بعضهم إلى إرجاع بعض الكلم الدخيلة إلى العربية إرجاعًا يكاد يصرعك ضحْكًا للتعليل الذي يأتونك به، قال المجد في معجمه في مادة «ل و ب»، ما هذا قوَامهُ تفسيرًا «للأسطرلاب» وهي الكلمة الثانية في هذا البحثِ.

  • (٢)

    واللاب: … رجل سَطَرَ أَسْطُرًا، وبنى عليها حسابًا، فقيل: أَسْطُرُلَابٍ؛ ثم مُزِجَا، ونُزِعَت الإضافة، فقيل: الأَسْطُرْلَابُ مُعَرَّفَةً، والأَصْطُرْلَابُ؛ لتقدُّم السين على الطاءِ. انتهى.

    وهذا الكلام لم يقنع الزبيدي، فنقل هذه العبارة ببعض زيادة ثم قال: «هكذا نقله الصاغاني، قال شيخنا: ثم ظاهره أنه من الألفاظ العربية، وصرَّح في نهاية الأرب، بأن جميع الآلات التي يُعرَف بها الوقت سواء كانت حسابية، أو مائية، كلها ألفاظها غير عربية؛ إنما تكلم بها الناس، فولَّدُوها على كلام العرب، والعرَبُ لا تعرفها برُمَّتها؛ وإنما جرى على ما اختاره من أنها ركبت فصارت كلمةً واحدةً عندهم، فكان الأولى ذكرها في الهمزة، أو في السين، أو في الصاد؛ ولا يكاد يهتدي أحدٌ إلى ذكرها في هذا الفصل، كما هو ظاهر، وأكثر من ذكرها مِمَّنْ تعرَّض لها في لغات المولَّدِين، أو جعلها من المعرَّب، ذكرها في الهمزة.» انتهى كلامه.

    قلنا أسطرلاب كلمة يونانية اللغة والتركيب من أسترون ASTRON أي نجم، ولمبانين LAMBANEIN أي أخْذ وهي آلة يقُاس بها موقع النجوم وارتفاعها فوق الأفق، واسمها بالفرنسية ASTROLABE كما في العربية.

    وادعاء بعض اللغويين بعربية بعض الألفاظ الأعجمية هو في منتهى الغرابة، وقد جمعنا من هذا القبيل شيئًا كثيرًا حاول فيه اللغويون، على اختلاف طبقاتهم، تأويل الكلمة الدخيلة بما يوجهها توجيهًا حسنًا في العربية الفصحى، ونحن نذكر ثلاث كلماتٍ أخر ليقف القارئ على تحذلق بعضهم في اشتقاق تلك الألفاظ من الأصول العربية، من ذلك:

  • (٣)

    الإِسْفَنْط: قال المجد: «الإسفنط بالكسر، وتفتح الفاء: المطيب من عصير العنب، أو ضربٌ من الأشربة، أو أعلى الخمر، سميت؛ لأن الدِّنَان تسفَّطَتْها؛ أي تشربت أكثرها، أو من السفيط، للطيب النفس. قال الزبيدي: وهو يلمح لقول أبي عبيدة، أو من السفيط للطيب النفس؛ لأنهم يقولون: ما أسفط نفسه عنك؛ أي ما أطيبها، وهذا قول ابن الأعرابي، فهو عنده عربي، والقول: ما قاله الأصمعي من أنه رومي، والكلمة إذا لم تكن عربية، جعلت حروفها كلها أصلًا …»

    قلنا ولا جرم أن الكلمة رومية وهي من ABSINTHIUM أي الخمرة المطيبة بالعبد وهو ضرب من الشيح، وقد وردت في بعض كتابات الملك ديوقلطيانُس، وصحِّفت الكلمة بصور مختلفة منها: الإِصْفَنْط (بالصاد)، والإِصْفَعِنْد، والإِصْفِعيد، والإِصْفَد، والإِصْفَعْد إلى غيرها.
  • (٤)
    الْخَنْدَرِيس: «الخمر، مشتق من الخدرسة، ولم تفسَّر، أو رومية مُعَربة. «حنطة خندريس قديمة.» (القاموس) وذكرها بَعْد خبس أي في خدرس. قال الشارح: ونقل شيخنا عن ابن حيَّان أن أصلهُ فنعليس، فأصوله إذًا «خدر»، فالصواب ذكره في الراء؛ لأن الخمر مخدِّر، وعليه المطرزي، وقيل: من الخرس، وتعقبوهُ؛ لأن الدال١ لا تُزاد، والصحيح أنه فَعْلَلِيل، كما قاله سيبويه، وعليه فموضع ذِكْرِهِ قبل خنس.» انتهى.

    قلت (أي الشارح): وأورده صاحب اللسان بعد خنس وتبعه غير واحد، أو رومية معربة، وقال ابن دريد: أحسبه معرَّبًا، سُمِّيت بذلك لقدمها، قلتُ: ويجوز أن تكون فارسية معرَّبة، وأصلها: خنده ريش، ومعناه: ضاحك الذقن، فمَنْ استعمله يضحك على ذقنهِ، فتأمل. ا.ﻫ. كلام الشارح بحروفه.

    قلنا إن الكلمة هي بالرومية واليونانية على السواء فهي بالرومية CANTHARITES VINUM وباليونانية Kavϑaoίtης oίvoς وهي خمرة كريمة كان يؤتى بها إلى ديار الغرب من بلاد وراء بحر الروم، من عنب كان اسمه kanthareos.
    وأما الحنطة المسماة بالخندريس فهي من اليونانية KANTHARIS وهو ضرب من السوس الذي يقع في الحنطة، إذا مضى عليها زمن طويل؛ وهو ضرب من الخنافس صغير اسمه بالعربية «الجُندُع» فيكون معنى الخندريس للحنطة القديمة، تلك الحنطة التي هجم عليها الجندع أو السوس، ولا تكون كذلك إلا إذا قدم عهدها، فكلمة KANTHAR والجندع، شيءٌ واحد لا غير، واليونان لا يعرفون أصل الاسم لهذه الحشرة، وأما العربية فإنها مشتقة من «الجَدْع» وهو القطع؛ لأنها تتعرض لقرض القطانِي والحنطة والكرمة وغيرها، وهي بالفرنسية charançon على أن الجنادع في العربية جاءت بمعانٍ أُخر، وهي كل ما أشبه تلك الجنادب بظاهرها، وهو من باب التوسع وأمثاله كثيرة وهي مِمَّا يدفع المحقق إلى أن لا يحصر معاني الكلمة الواحدة بمعنى واحدٍ كما يَفْعَلُهُ بعضهم.
  • (٥)

    ومن الألفاظ الأعجمية التي اشتق لها العرب أصلًا عربيًّا أو أصلًا أعجميًّا وهميًّا «المنجنيق» قال الفيروزآبادي في «ج ن ق»: «وَالْمَنْجَنِيق، ويكسر الميم، آلة تُرمى بها الحجارة كالمنجنوق، معربة، وقد تذكر، فارسيتها: «مَنْ جَهْ نِيْكْ» أي: أنا ما أجودني! وجمعها منجنيقات ومجانق ومجانيق.» وزاد التاج بعد مجانق: وقال سيبويه: هي فنعليل، الميم من نفس الكلمة، لقولهم: في الجمع مجانيق، وفي التصغير مُجَيْنِيق، ولأنها لو كانت زائدة لاجتمعت زائدتان في أول الاسم، وهذا لا يكون في الأسماء ولا الصفات التي ليست على الأفعال المزيدة؛ ولو جُعلت النون من نفس الحرف، صار الاسم رباعيًّا، والزيادات لا تلحق بنات الأربعة أولًا إلا الأسماء الجارية على أفعالها، نحو مدحرج، وقد جَنَّقوا تجنيقًا: إذا رموا بأحجار المنجنيق»، وقال الليث: مَجْنقُوا مَنْجَنيقًا، عند مَنْ جعل الميم أصلية، قال: وقد يجوز أن تكون زائدة؛ لأن العرب ربما تركوا هذه الميم في كلمة سوى ذلك، كقولهم للمسكين: قد تمسكن، وإنما المسكين على قدْر مِفْعِيل، كالْمِنْطِيق وَالْمِحْضِير، ونحو ذلك، قال شيخنا: «وقد اختلفوا في وزن هذا اللفظ على أقوال للفرَّاء والمازني وأبي عبيد والتَّوَّزِي، وهل الميم هي الأصلية، أو النون، أو غير ذلك؟ واستدلُّوا بجنَّقُونا وبعدم زيادة الميم في مثله، وفي غير ذلك، مما لا طائل تحته، والصواب عندي (أي عند الشارح) أن حروفه كلها أصلية؛ لأنه عجمي، لا سبيل فيه إلى دعوى الاشتقاق، ولا مرجح ادعاء زيادة بعض الحروف دون بعض، ولا داعي لذلك، فالصواب إذن أن يذكر في فصل الميم، كما هو ظاهر، والله أعلم.» انتهى بما فيه، وراجع لسان العرب أيضًا في مادة «جنق»، ولا سيما «مجنق»، فإن الشارح نقل أغلب كلامه من المصدر المذكور.

    ورأينا في المنجنيق أنه معرب، لكن من اليونانية لا من الفارسية كما قال بعضهم، فأحرفه كلها أصول، كما هو معروف عند جمهور أرباب اللغة، والكلمة اليونانية التي أخذت منها العربية هي MAGGANOU وهي كلمة في حالة الإضافة للكلمة المرفوعة MAGGANON وإنما قلنا إنها من الأولى؛ لأنهم قالوا فيه أيضًا «مَنْجَنُوق» وما المنجنيق إلا لغة في الأولى، وفيه لغات أُخَر منها: منجليق، وبالفرنسية MANGANNEAU وقد ذكر هذه الآلة عند اليونان إستراطون اللمْسَاكِي STRATON DE LAMPSAQUE وكان من علماء اليونان وَتُوُفِّي في سنة ٢٦٩ قبل الميلاد.

    ولا نريد أن نجري في هذا البحث أكثر من هذا، فإن الموضوع واسع المدى لا تحصره صفحات بل مئات الصفحات، لِمَنْ أراد الإمعان فيه، فاجتزأنا بما ذكرنا.

١  هذا رأي فريق جليل من اللغويين أن الدال لا تُزاد؛ لأنها ليست من أحرف الزيادة العشرة، لكن البصراء من الجماعة المخالفة تذهب إلى أن الدال من مخرج يقارب مخرج التاء، ولما كان هذا الحرف من أحرف الزيادة، جاز أن تُزاد الدال لهذه العلة، فقد قال أبو الهيثم: «الرِّخْوَد: الرِّخْوُ، زِيدت فيه دال وشدِّدتْ، مكسوعًا بها، كما يقال: فَعْم (أي ممتلئ، للساعد والإناء) وفَعْمل.» راجع «رخد» في لسان العرب، والتاج في «دد»، والقاموس في «فعم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤