أي الدخيل الحديث يُقتَل وأيُّهُ يُسْتَحْيَا؟

إن خفة الكلمة الأعجمية ورشاقتها ووزنها العربي وشبه مادتها للمادة العربية يخولها قوةً ومناعة، ويكسبها جمالًا ويلبسها ثيابًا عربية، يجعل جَميع الناطقين بالضاد يرحبون بها كل الترحيب، وَيُحِلُّونَها أعظم محل، ولا يتوهمون أبدًا أنها عَجَمِيَّة، ولهذا يحتفظون بها ويذَّخِرُونها لجميع حاجاتهم، فيصبح محاولة قتلها من المحال؛ لأن وراءها دولة أعجمية قوية، هي دولة الاستعمال كل يوم، ودولة المال والماليين، ودولة الصفات العربية التي ذكرناها.

فمن الكلم المعرَّبة حديثًا والتي يحسن أن يُسْتَحْيا بعضها ويُقتل بعضها ما يأتي:

«الْبَنْك» لهذا المحل الذي يتاجَر فيه؛ أي يدفع فيه أموال لِمَنْ يريد الانتفاع بها، أو يقبض فيه أموال، بموجب فائدة، أو بِرِبًا مقرَّر.

«التَّلَفُون» بشرط وزنه وزنًا عربيًّا؛ أي كَحَلَزُون، لا «تَلَيْفُون» الذي لا وزن له في صميم لغة الضاد، أو أن يقال: «تَيْلَفُون» كَحَيْزبُون، أو «هاتِف»، فإنها كلمة لا بأس بها.

«الْبُرْصَة» وزان الْغُرْفَة، لا «بُوْرصَة»، بواوٍ بعد الباء التي لا قياس لها في لغتنا.

«الْغَرَامُوفُون» أو «الْجَرَامُوفُون» تُقتل لغرابتها وقُبْح وزنها، ويقال في مكانها «الحاكي».

ويقال: «التَّرَام» كسَحاب، لا «ترامواي» لبُعْدِها عن أوزان العرب ومألوف أَلْفَاظِهمْ، وقد أثبتها مجمع اللغة العربية الملكي.

ويقال: «الراد»، لا «الراديو» لمخالفتها الأصول العربية، وهي تؤدي أحسن تأدية عمل هذه الآلة، فإنها «ترد» على مسامع الحاضرين ما ينطق به المتكلم، ونبقي «الْمِذْيَاع» «للمكرفون»؛ أي للآلة التي يتكلم بين يديها الخطيب لتنشر صوتهُ وتبثُّهُ. «فالراد» يردِّدهُ في كل نادٍ ووادٍ.

ويقال: «الْبَيَان» تعريبًا للبيانو الغريب الوزن، فهو كالآلة التي تبين وتفصح عَمَّا يقع في النفس من أنواع حركاتها الباطنة.

ويُستقبح مثل «مِصْرُولُوجِيَّة» لتركبها من إفرنجية وعربية، وهو أقبح ما جاء من هذا القبيل، وكذلك «أَشُّورُلُوجِيَّة» و«سُورِيُولوجِيَّة»، ويقال في مكانها: علم الْمِصْريَّات، وعلم الأشوريات، وعلم السُّورِيَّات، وقد وقع مثل ذلك التركيب القبيح في عهد سقوط العربية؛ أي في عهد المماليك، فقالوا: الدُّوِيدَار، وَالْعَلَمْدَار، وَالْجَامَدار، ونحوها.١
وينبذ مثل فوتغراف،٢ وفونغراف،٣ وتِلْغْرَاف،٤ وتَلْفَزَة،٥ وفَسْلجة،٦ وفِيزْياء٧ لقبحها وشناعتها وفظاعتها.

خلاصة الفصل

يُؤخذ مِمَّا سردناهُ في هذا الفصل أن في العربية ألفاظًا دخيلةً قاومت العصور والبلاد والعباد وأهل العناد باقيةً على حالها؛ مع ما هناك من المترادفات العربية التي كان يمكن أن تقوم مقامها، لكن ذلك لم يقع؛ لأن الأعجميَّات التي اندسَّتْ في لغتنا كانت شاكية السلاح، مقاومة لأعدائها العربيَّات بخفة لفظها وأحرفها، ورشاقة وزنها ولطافتهِ، ومضارعة مادتها للمادة العربية، وكفاها ذلك لتقاوم ضَرَائرها وكل معادٍ لها، ولهذا تُخَلَّد بهذهِ الأسلحة الفاتكة، ما دام هنالك عربي ناطق بالضاد.٨

هوامش

(١) أغلب هذه الألفاظ مركَّب من كلمة عربية أو معرَّبة، هي الصدر، وكلمة «دار» وهي العَجُز، وكلها كَلِم لا يتعدَّى عددها العشرين، وهناك ألفاظ صدرها كلمة عربية أو معربة، وعجزها «دان» مثل: قَلَمْدَان، وَشَمَعْدَان، وَبُخُورْدَان، وَسُكَّرْدَان، وكلها ألفاظ لم تَعِشْ إلا في ذيَّالِك الوقت المنحط، ولم يُدَوِّنْها أرباب المعاجم الفصحى، بل أشار إليها التاج، أو قُلْ أشار إلى بعضها السيد مرتضى، شارح القاموس، وقال: إنها مولَّدة أو عامية، راجع مثلًا ما قاله في مادة «س ك ر».
(٢) الفوتغراف: التصوير بالضوء.
(٣) الفونغراف: آلة تلقط الصوت وتلفُظه، فهي «اللاقطة»، وقد عاندني أحد الجهلة فقال: لا فرق بين الفونغراف والفوتغراف سوى نقطة واحدة، وهي كلا شيء، فماذا يُنعتُ مثل هذا الرجل؟
(٤) التلغراف: آلة يتصل بها الإنسان بِمَنْ يُريد، وأكثر ما يكون ذلك بآلة برقية؛ ولهذا سُمِّيت «الْمُبْرقَة»، والفعل «أبرق»، والخبر «بَرْقِيَّة».
(٥) وضعها مَنْ فسد ذوقهُ العربي ناقلًا الإفرنجِية «تَلَفِزيون» أي: Télévision، وهي «الْمُبَاصَرة» في العربية. قال الجوهريُّ في صحاحِهِ: «باصرتُهُ: إذا أشرفتَ تنظر إليهِ من بعيد.» ا.ﻫ. فيكون المصدر: المباصرة، وهو معنى الكلمة الإفرنجية.
(٦) الْفَسْلَجَة: تعريب قبيح للفسيولوجية PHYSIOLOGIE، وهي علم مَظاهر الحياة أو علم الْخِلقة.
(٧) مسخ شنيع لعلم الطبيعيَّات PHYSIQUE.
(٨) ما حَلَّ ويحلُّ في اللغة المبينة يُرى مثلهُ في اللغات القديمة والحديثة من لُغَى البشر، فهي إذن سُنَّة جارية في وجهها، بل سُنَّة الله في خلقِهِ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤