تذييل في أصل الْحَوَارِيِّ

في سنة ١٨٨٤ كنا قد قرأنا مقالة في إحدى الصحف العربية، يقول فيها صاحبها إنه طالع كتابًا في الألمانية يذهب صاحبه إلى أن «الْحَواريَّ» من أصل حبشي معناه «الرسول»، والناقل يستحسن هذا الرأي، ويفضله على ما ذهب إليه لغويو العرب القائلون بأنه من مادة عربية، وإن اختلفوا في تأويل اللفظة، فكتبنا حينئذٍ مقالًا في السنة نفسها، ونشرناه في إحدى الجرائد، ولا نتذكَّر أكان ذلك في «الجوائب»، أم «البشير»، أم «الجنان»، أم في جريدة أخرى؛ إذ كل ذلك بعيد عنا اليوم، ولا يبدو لنا إلا كالسواد البعيد عن البصر، ويصعب علينا التثبت منه، وكان ذلك في رَيْعان الشباب، وهذا ملخصه: لا يمكن أن العرب أخذوا هذا اللفظ عن الْحَبَشِ، لأسباب ذكرناها في وقتها، إلا أننا نتذكر منها اليوم شيئًا، ونظن أن الأب لويس شيخو اليسوعي، أو غيره أخذ بهذا الرأي؛ أي برأي أن الْحَوَاري مأخوذ من الحبشية، ونحن لا نوافق على هذا الرأي لأسباب؛ منها:
  • (١)

    أن النصرانية اتصلت بالعرب قبل أن تتصل بالْحُبْشان، ودليلنا على ذلك ذهاب القديس بولس إلى موطن من مواطن العرب؛ ولا جرم أنه وعظ الناس وبشرهم بالمسيح.

  • (٢)

    بعد أن حل الروح القدس على الرسل، وأخذوا يبشرون بالسيد يسوع، كان هناك أناس يسمعونهم يتكلمون بألسنتهم وكان بينهم عرب.

  • (٣)

    إذا قابلنا بين قدم العربية والحبشية، لم نجد هذه أقدم من تلك، وليس لنا أدنى دليل على ذلك.

  • (٤)

    أن الحبش تلقوا أصول النصرانية عن قديس ما كان يحسن إلا اليونانية، وأغلب المصطلحات الدينية الموجودة في الحبشيَّة يونانية الأصل، وفي الكلمة «الحواري» حاء، وهو غير موجود في الْهَلَّنية إلا مبدئيًّا.

  • (٥)

    أن أصول الكلم الحبشية والعربية تكاد تكون واحدة بتغيير طفيف لا يُعتد به، فلماذا يُعْزى ذلك المعنى إلى الحبشية ولا يُعْزَى إلى المضرية وهي أولى به؟

فهذه أدلة تُبَيِّن استحسان الأصل العربي، وتستهجن الأصل الحبشي، لكنها ليست بالجازمة الجزم البات، ولهذا يحسن بنا أن ندرس المسألة درسًا لغويًّا وهو الْحَكَم في هذا الأمر، وقبل أن نأتي بما عندنا من هذا القبيل أردنا أن نجدد الذكرى بأول مَنْ ذهب إلى حبشية اللفظ، وفي أي وقت كان، وكيف أُوِّلت الكلمة؟ فالتجأنا إلى عِلْم ثلاثة من كبار المستشرقين الغربيين أصدقائنا وهم: الدكتور فيشر، والدكتور لتمان، وهما ألمانيان، والأستاذ ميكلانجلو وهو إيطالي، فاستفتينا كل واحد منهم بكتاب خاص، وكتبنا إليهم رأينا في أن الكلمة من أصل عربي نُقل إلى اليونانية، ومن اليونانية إلى الحبشية «الْجَعْزِيَّة»، ودونك مُعْظَم جواب الدكتور أ. فيشر:
أول مَنْ ذهب إلى أن الحوارِيَّ من أصل حَبشي هو العلَّامة الألماني الجليل «لودلف» LUDOLF في نحو آخر المائة السابعة عشرة للميلاد؛ إذ قال إنها من «حَوَارِيَا» ومعناها: الرسول أو الْفَيْج MESSAGER، وأظن أن جميع المستعربين تابعوا رأيه، والأصل «حار، يحور» معناهُ «ذهب» وهو فعل مألوف في الْجَعْزِيَّة، والأصل الذي تشير إليه بديع كجميع الأصول التي تذكرها، وأظن أنا أيضًا أن أصل الحواري سامي أيضًا.
وقد نشر ث. نولدكي في كتابه الموسوم: NEUE BEITRAEGE ZUR SEMITISCHEN SPRACHWISSENSCHAFT “STRASBURG 1910”

فصلًا ذكر فيه الألفاظ المستعارة من الحبشية، وبينهنَّ الحواري، ولعلك تراجعها في كتابه في ص٤٨، وتجد الكتاب في حجرتي التي أشتغل فيها في مجمع اللغة، ومعاوني يُسَر باطلاعك عليها … ا.ﻫ.

أ. فيشر
A. FISCHER
ودونك الآن ما جاء في جواب الدكتور إنو لتمان:

تلقيت كتابك المؤرخ في ٨ أيار (مايو) فأسرع بجوابي إليك

إن الكلمة الحبشية «حَوَاري» و«حَوَارِيَّا» تعني: مسافِر، ومَشَّاء، وسَاعٍ، و«حَوَارِيَّا» أيضًا هي الكلمة المألوفة للرسل، وكان لودلف أول مَنْ عارض هذه الكلمة بالحواري العربية، وذلك في المائة السابعة عشرة، وآخر مَنْ قال بهذا الأصل هو على ظني الأستاذ نولدكي في كتابه: Neue Beitraege zur Semitischen Sprachwissenschaft. P48.

وقد ذكر نولدكي طائفة من الكلم الحبشية المعربة (من ص٤٦–٥٩)، ولا شك في أن كثيرًا من الكلم الحبشية أُخذت من اليونانية والعربية.

هذا، وأتوقع أن صحتك حسنة، وأهنئك بهذا السعي الذي لا يعرف الملل؛ حبًّا للعلم …

إنو لتمان
ENNO LITTMANN
توبنجن في ١٦ مايو ١٩٣٨
وهذا جواب الأستاذ ميكلانجو غويدي.

رومة في ٢ حزيران (يونيو) ١٩٣٨

أبدأ كلامي بأن أعتذر إليك لتأخري بالجواب، ولغيابي عن رومة، ثم أقول إن أول مَنْ ذهب إلى أن «حَوَاريَّ» تعود إلى أصل حبشي هو لودلف، ومعناه: الرسول، ونولدكي في كتابه Neue Beitraege zur Semitischen Sprachwissenschaft. “Strasburg 1910. p. 48” توسَّع في هذه الفكرة، ولا أظن أن والدي تعرض لهذا الموضوع، فإنه لم يذكر كلمة عنه في كتابه «ديار العرب في الجاهلية»، ولا في «مباحث القاهرة» على ما أتذكر.
وأرى أن الأصل الذي ذكرهُ لودلف ونلدكي هو الحق، ولا سيما لما بين «حار» العربية والحبشية من المشابهة، أما أنها من ίεοεύς، فإني أقر لك بأني غير مقتنع بها، وفي الختام …
ميكلانجيلو غويدي
MICHELANGELO GUIDI

فهذه هي الأجوبة الثلاثة التي تلقيناها من الأصدقاء المحترمين من الواقفين على اللغة الحبشية «الْجَعْزيَّة»، ونحن الآن نبدي رأينا في أننا غير محتاجين إلى هذه اللغة.

وأول كل شيء أن العلماء القائلين بحبشية «الحواري» ذهبوا إلى أنها مأخوذة من مادة «ح ا ر» أو «ح و ر» ومعناها: ذهب، أو راح وجاء، وهذا موجود في العربية في الفعل المذكور، فقد قالوا:

«الْمَحَارة» وهي المكان الذي يَحُور أو يُحَار فيه أي يُذْهَب أو يُجاء فيه، وقالوا: «الْمِحور» وهي الحديدة التي تدور عليها البكرة ذهابًا وإيابًا. وقالوا: طَحَنَتْ فما «أحارتْ» شيئًا أي ما ردَّت شيئًا من الدقيق، والاسم منه «الْحُور»، ومعلوم أن الطحن لا يكون إلا بحركة يذهب بها الْبُر ويجيء، حتى يحصل الدقيق من تلك الحركة، على أن في مادة «ح و ر» معنًى مقدسًا.

فالأحور عند العرب: كوكب، أو هو المشتري، والعقل (القاموس)، ومعلوم أن المشتري هو رب السماء، أو سيد أهل السماء، عند أصحاب الْخُرَافات اليونانية والرومانية، وربما كان ذلك أيضًا عند قدماء العرب، ثم أطلقه أبناء إسماعيل على العَقْل؛ لأنهُ أقدس ما في المرءِ، ويحكم على جميع قُواهُ الباطِنية والخارجيَّة.

و«الحائرِ» و«الْحَيْراء»: كَرْبَلاء وهو من المواطن المقدسة منذ أقدم العهد عند البابليين، وهو كذلك إلى عهدنا هذا عند الإمامية الشيعة.

و«الحِيرة» من مدن العراق المقدسة منذ قديم الزمان أيضًا، ويدَّعي الإرميون أنها من «حِيرْتَا» في لغتهم؛ أي الحظيرة، وقولتهم هذه مبنية على مجانسة في اللفظ، وكم خدعت المجانسة علماء وأئمة!

و«الْحَيْر»: شبه الحظيرة أو الْحِمَى، وأنت أدرى مني بأن الْحِمى هو كل ما يحميه الرجل، ويعتبره العرب اعتبار النصارى الشيءَ المقدس، ولهذا جاء في الحديث: «لا حِمَى إلا لله ورسوله»، وكانت الأحيار والأحماء في عهد الأقيال تسمَّى «مَحَاجر»، ومفردها: مَحْجِر كمجلس، أو مِحْجَر كمِنْبَر، ويؤخذ من اشتقاقها أنها كانت ممنوعة على الناس ومحفوظة للأقيال كما لو كانت مقدسة.

وقالوا: «لا آتيه «حَيْرِيَّ الدهر»، مشددة الآخر، وتكسر الحاء، و«حَيْرِيْ دهر»، ساكنة الآخر، وتنصب مخففة (أي حَيْرِيَ دَهْرٍ)، و«حاريَّ دهر»، و«حِيَرَ دهر»، كعِنَبٍ؛ أي مدة الدهر» ا.ﻫ. (القاموس).

وأنت خبير أن الدهر مقدس في نظر الحنفاء؛ فقد جاء في لسان العرب في مادة «د ﻫ ر»: «فأما قوله : «لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر.» فمعناه: أن ما أصابك من الدهر، فالله فاعله، ليس الدهر، فإذا شتمت به الدهر، فكأنك أردت به الله. الجوهري: لأنهم كانوا يُضيفون النوازل إلى الدهر، فقيل لهم: لا تسبوا فاعل ذلك بكم، فإن ذلك هو الله تعالى.» ا.ﻫ. المراد مِنْ نَقْلِهِ.

إذن معنى قول الناطقين بالضاد: لا آتيه حيريَّ الدهر «وسائر لغاتها» لا آتيه ما دام هناك شيءٌ مقدسًا، أو محميًّا، أو مُدافَعًا عنه.

ولا فرق بين «ح ور»، و«ح ي ر»؛ لأن الواو والياء تتبادلان، ولأن أصل التركيب هو «ح ر»، وقد تُقلب الحاء خاء معجمةً، ومنهُ «خَيْر» كل شيءٍ بمعنى «حُرُّ» كل شيءٍ أي أَصْلَحُهُ.

كما أن الحاء قد تُقلب جيمًا، والمعنى يبقى على أصلهِ الذي وُضع عليه في أول الأمر، فأصل «جَيْرُون» و«جَرَابُلُس»: «حَيْرُون» و«حَرَابُلُس» أي الهيكل المقدس والمدينة المقدسة، ونحو ذلك وقع في الفرنسية، فإن العالم الروماني HIERONYMUS صار JEROME، فأين هيرونمس من جيروم؟

وقد تكسع المادة الأولى؛ أي «ح ر» بميم، فينشأ منها «الْحَرَمُ» و«الْحَرَام»، ومعناهما المكان المقدس.

وقد تُصدر المادة الأولى المذكورة بسين، فينشأ منها «السِّحْر»، وكان الكهنة الأقدمون يزاولون السحر في معابدهم ومناسكهم، فكانت كلمة «الساحر» و«الكاهن»، مترادفتين عند بعض الأقوام الأقدمين، فالمجوس كانوا عند الفرس كهنةً، وعلماء، ومنجمين، وسحرة، ومعالجين للعلوم الغامضة على العوام.

وربما صدروا المادة «ح ر» بالنون فقالوا: «النِّحْر»، والتعليل الذي ذكرهُ اللغويون لا يقنع الطفل، فكيف الرجُل والكهل، فقد قالوا: «النِّحْر والنِّحْرير، بكسرهما: الحاذِق، الماهر، العاقل، المجرب، المتقِن، الفطِن، البصير بكل شيءٍ؛ لأنهُ «ينحر الْعِلم نَحْرًا»» (القاموس).

وربما جُعلت الحاء قافًا أو عينًا، فقد قالوا: «حيدحُوَّر»، أو «قُوَّر» أو «عُوَّر»، وهو جبل باليمن فيه كهف يُتَعَلَّم فيه السحر (القاموس في حور) وأنت تدري أن الحيد هو المكان الشاخص في الجبل كأنه جناح، أو كل نُتُوٍّ في جبل، فالظاهر أنه كان في ذلك الحيد كهفٌ يختلف إليه بعضهم ليتعلموا السحر، فالحُوَّر جمع حائر، اسم فاعل من حار يحور، وهم الذين كانوا يروحون ويغدون للأمور الخفية أو الغامضة، وسائر التصحيفات من «قُوَّر» و«عُوَّر»، هي من نِتاج لغاتهم بموجب قبائلهم، وإذا اختلفت الكلمة في لغاتها دَلَّت على قدمها وتعاورها بينهم.

أما إذا اعتبرت المادة الأصلية في الحواري «ح ر» على ما يجب أن تكون كل كلمة في أول وضعها، ثم حُشيت «واوًا» كما تقدم، أو حُشيت «ياء» من باب التناوب، فهذا أيضًا تقره العربية، فقد ورد في اللغة: حار الماء: تردد؛ أي راح وجاء، وما الماء هنا إلا للتمثيل والتنظير، ووظيفة الرسول التردُّد أي الذهاب والمجيء، فالعربية تؤدي إلى المعنى المطلوب أحسن من الحبشية بكثير، فلينصف الباحث.

ومعلوم أنك إن قدَّرتَ الأصل «حور»، فهو واﻟ «حبر» شيءٌ واحد، وهذا واضح جلي في لغة اليونان، فإنهم يقرءون الباء واوًا، وكذلك الفرس، فإنهم يكتبون مثلًا «آب» ويقرءونها «آو»، ويكتبون «زَهَاب» ويقرءونها «زَهَاو»، وهي اسم مدينة في إيران، ومنها اسم الزَّهَاوِي، وكذلك كان الأمر عند بعض قبائل العرب؛ فإنهم كانوا يجعلون الباء واوًا، وكان آخرون يعكسون الأمر، مثال ذلك: البؤرة والوؤرة، لمَوقد النار، والشعوذة والشعبذة، لأخذ السحر، والواشق كالباشق، وجارية بكباكة ووكواكة، والبزمة والوزمة من الطعام، وقال أبو سعيد: يقال: ما لهُ حَبَرْبر ولا حَوَرْور، إلى غيرها وهي كثيرة.

وعلى هذا المبدأ يكون الْحَبْر من «الْحَوْر»، وقد جاء الْحَبْر في لغتنا بعدة معانٍ؛ منها ما ذكرها صاحب لسان العرب: «ابن سِيدَه … الحِبْر والحَبْر: العالم، ذميًّا كان أو مسلمًا، بعد أن يكون من أهل الكتاب … وسأل عبد الله بن سلام كعبًا عن الحِبْر، فقال: هو الرجل الصالح، وجمعه: أحبار وحبور … قال أبو عبيد: وأما الأحبار والرهبان، فإن الفقهاء قد اختلفوا فيهم، فبعضهم يقول: «حَبْر»، وبعضهم يقول: «حِبْر»، وقال الْفَرَّاء: إنما هو حِبْرٌ بالكسر، وهو أفصح؛ لأنه يُجمع على أفعال، دون فَعْل، ويقال ذلك للعالم، وإنما قيل: «كَعْبٌ الْحِبْرُ» لمكان هذا الْحِبر الذي يكتب بهِ؛ وذلك لأنه كان صاحب كُتُبٍ، قال: وقال الأصمعي: لا أدري أهو الْحِبْرُ أو الْحَبْر للرجل العالم، قال أبو عبيد: والذي عندي: أنه الْحَبْر، بالفتح، ومعناهُ: العالِم بتحبير الكلام، والعلم، وتحسينهِ، قال: وهكذا يرويهِ المحدثون كلُّهم بالفتح.

وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبارِ: حَبْر «بالفتح» لا غير، وينكر الْحِبْر «بالكسر»، وقال ابن الأعرابي: حِبْر وحَبْر للعالم، ومثلهُ: بِزْر وبَزْر، وسِجْف وسَجْف. الجوهري: الْحِبْر وَالْحَبْر: واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح، ورجل حِبْرٌ نِبْرٌ، وقال الشمَّاخ:

كما خطَّ عِبْرَانِيَّةً بِيَمينهِ
بِتَيْمَاءَ حَبْرٌ ثُمَّ عَرَّضَ أَسْطُرَا

رواه بالفتح لا غير، قال أبو عبيد: هو الْحَبْر، بالفتح، ومعناهُ العالم بتحبير الكلام، وفي الحديث: سُمِّيت سورة المائدة: المائدة وسورةَ الأحبار؛ لقوله تعالى فيها: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، وهم العلماء، جمع حِبْر وحَبْر، بالكسر والفتح.

وكان يقال لابن عباس: الْحَبْر والْبَحْر؛ لعلمه.» ا.ﻫ. المقصود من إيراده، وقد توخينا إيراد النصوص على طولها لما فيها من الفوائد الجليلة؛ إذ تُبنى عليه حقائق بديعة.

ففي مادة «ح ب ر» من الإِرَمِيَّة: «حَبَّرْ» ومعناها: أخَّذ تأخيذًا، وسَحَر سِحْرًا، ورقى رقيًا، وعَزَّم تعزيمًا، وعندهم «حَبَّارا» العرَّاف والمؤخِّذ والساحِر والعرَّاف والْحَوَّاء والرقَّاء والمعزِّم، ومثل المعاني العربية يُرى في العبرية.

على أن المعنى الحقيقي الأول للحبر هو العالِم الرباني، أو القُدْسي أو القِسِّيس، بموجب عبارتنا النصرانية، أو الكاهن بحسب التعبير العام عند غير النصارى.

ومنه أخذت اليونانية ίεοεύς, έως “hiereus, eos”، والدليل على أن اليونانية من العربية أن الهلَّنية تبتدئ بحرفٍ عليهِ علامة حلقٍ؛ أي علامة تفخيم، وبالفرنسية ESPRIT RUDE، ثم إن معنى العربية والإغريقية واحد، وإن قيل لنا كيف أن اليونان أخذوا اللفظة عن العرب؟ نقول لا عجب، ألم يأخذوا ألفاظًا يقر الهلنيون إقرارًا صريحًا بأنهم أخذوها من الناطقين بالضاد كالبان، والسَّنَا، والْمُر، وغيرها، فهذه من تلك.
زِدْ على ذلك أن لليونانيين كلمة تعني البازي أو الصَّقْر وهي “HIERAX, AKOS” ίεοαξ, αχος، وهي «الْحُرُّ» بالعربية بضم الحاء وتشديد الراء، فكأن هذا الاختلاف الموجود عند اليونانيين ناشئ من الاختلاف الموجود عند بني مُضَر (راجع معجم بوازاق باليونانية ومعجم الفيروزآبادي تَرَ العجب)، فهل بعد هذا الدليل دليل أقوى؟

والذي حمل العرب على أن يروا في «الحبر» العالم بتحبير الكلام أنهم خلطوا بين «الْحِبر» للمِدَاد، وبين «الحبر» للعالم الرباني، بَيْدَ أن نتيجة الوهم ليست عظيمة، ومنهم مَنْ رأى مجانسةً بين «الحبر» و«البحر»، بل رأى قلبًا فيهما، وهو غير صحيح هنا؛ إذ لا حاجة لنا إليهِ، ثم إن راء «الْحِبْر» أُبدلت لامًا فقيل: «الْحِبْل» والمعنى واحد؛ ولهذا كانت «الْحِبْر» بالكسر أفصح من الْحَبْر بالفتح.

بقي أننا قلنا إن كل كلمة ثلاثية لا بد من أن تُرد إلى لفظ ثنائي الحرف، و«حور»، أو «حير»، ترد إلى «حر»، ثم يُضَعَّف فيقال: «حرٌّ»، ومنه «الْحَرُّ» في الشرع وهو: «خلوص حُكمي يظهر في الآدمي؛ لانقطاع حق الغير عنهُ» (عن جامع الرموز).

فالحر، أو الحُرُورية، أو الحُرُورة، أو الحِرار، أو الحُرِّية هي أثمن شيء في الإنسان؛ ومن ثَمَّ هي أقدس شيءٍ فيه؛ إذ شيئان يميزانه عن سائر الخلق كله: العقل والحرية، فإذا عدم المرء أحدهما لم يبقَ له تلك القيمة التي تعلي شأنه.

والحرية، كما تعلم، نتيجة العقل وثمرته، ولا سيما ثمرة العقل السليم الصحيح، فتكون الحرية حينئذٍ شيئًا مقدسًا، وتجد تحقيق ذلك في مشتقات هذه المادة، قال اللغويون: «حرَّر الولد: أفرزهُ لطاعة الله، وخدمة المسجد، ومنهُ في سورة آل عمران: رَبِّ إِني نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي. قيل: مُعتقًا لخدمته، لا أشغله بشيءٍ، أو مُخْلَصًا للعبادة.»

ومن هذه المادة: حَرَّ فلان يَحَرُّ حِرِّيَّةً: كان حُرَّ الأصلِ، والْحُرُّ عندهم: «الكريم وخيار كل شيءٍ والفعل الحسن»، وهو أفضل ما يُوصف به الإنسان وأفضل ما يوصف به الشيء، ولا عجب بعد هذا إذا أُطلق على الْقِسِّيس وهو في نظرهم أحسن رجل عندهم.

ولهذا جاءت الكلمة اليونانية ίεοεύς, έως بمعنى الكاهن أو القسيس عند اليهود، ثم بمعنى الكاهن الأكبر، ثم بمعنى كاهن؛ أو خادم البلية، فخادم أو كاهن الفضيلة، فالكاهن الأكبر، وفي عهد النصرانية جاءت بمعنى المطران وَالْحَوَارِي.

فهذا تاريخ تنقُّل هذه الكلمة، فَمَنْ شاء أن يتبع الحق فهذا هو، وَمَنْ شاء المكابرة فليبقَ مصرًّا على رأيه، ووادي الضلال فسيح واسع.

أما الحواري، على ما ذكره المفسرون واللغويون، فمبني على أنهم اشتقوهُ من مادة «ح ور»، فاختلفوا فيها، على أن صاحب اللسان قال: «وأصل التحرير في اللغة، من حَار يَحُورُ وهو الرجوع، والتحوير: الترجيع.» ا.ﻫ. قلنا والرجوع والترجيع من صفات الرسول؛ إذ لا بُدَّ له من الرجوع إلى أرباب الشئون مرارًا لإبرامها، وإحكامها، فالْحَوَارِي أصلهُ الْحَوَار.

و«الحوار» من صيغ المبالغة بمعنى «الحائر»، وزادوا الياء في الآخر؛ مبالغة في الصفة، ثم نقل إلى الاسمية، كما قالوا: الشَّنَاح وَالشَّنَاحِي أي الطويل، وقالوا: فرس شناص وشناصي أي طويل نشيط، «فالحواري» لفظ عربي فصيح صحيح، لا رائحة للعجمة فيه، وقد بَيَّنا أن معناه الأصلي هو المتردد في الذهاب والإياب، والمقدَّس النفس، الطاهرها، كما هو شأن كل رسول، أو الأبيض القلب النقيُّه، وكل ذلك من صفات الرسول، الصادق الإيمان، والعامل به.

فإذا كان هناك مَنْ يذهب إلى خلاف ما ذهبنا إليه، ويقول بعجمتها ويصرُّ على رأيه فلا يكون حينئذٍ إلا من اليونانية ίεοεύς، وهو الكاهن أي القسيس والحبر والأسقف، وقد أخذ العرب من الهلنيين ألفاظًا دينية نصرانية مثل: المطران والأسقف والبطريرك والإنجيل إلى نظائرها، على أننا ننكر ذلك كل الإنكار، أما أنها من الحبشية، فهذا بعيد، وإذا كان هناك بعض المجانسة، فالحبشة أخذوها من العرب لا العكس؛ لأن صلة العرب بالمسيحيين الأولين كانت في صدر النصرانية، ففي الإصحاح الثاني من أعمال الرسل ما يُبيِّن هذه الحقيقة، وقد قال بولس الرسول في الإصحاح الأول من رسالته إلى أهل غَلاطية إنه ذهب إلى الديار العربية ثم عاد إلى دمشق، ونظن أن وجوده هناك لم يكن عبثًا، فأين هذه الحقائق من خرافات بعضهم؛ إذ يقولون إن العرب اقتبسوا كلمة «الحوارِي» عند دخول الحبش بلاد اليمن، وعن أهل نجران تلقاها عرب الحجاز؟، فهذه أقوال مريض مصاب بالهذَيَان، فليرحمه الرحمن، وَلْيُعِنْهُ على قبول الحق والإذعان له كل الإذعان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤