القسم الثاني

في مُساجلاتٍ شعريةٍ، ومُفاكهاتٍ أدبيةٍ

لَمَّا طبعت ديواني المُسمَّى بالباكورة، وأنا إذ ذاك ابن سبع عشرة سنة، بعثت به من بيروت إلى المرحوم عبد الله باشا فكري، بإشارة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكان في بيروت؛ وذلك مع كتابٍ مني مُصدَّر بأبيات ما عُدت أتذكَّرها جيدًا، وإنما أذكر منها الآن ما يلي:

إذا ما رُمتَ من مُهدِيك كفؤًا
لقد أنفدت لؤلؤ كل بحر
فكيف يقوم عندك نزْر شعر
يذيب الرعب منه كل شطر؟

ومنها:

جعلتُ القول في سيف ورمح
وعِفْتُ النَّظْم في قدٍّ وخصر
فإني عاشق غرر المعالي
ولي نفسٌ فداؤك نفس حر
إذا فكرتُ يومًا في كلام
يكون بمدح «عبد الله فكري»

فأجابني على ذلك بما يلي، وهي في «الآثار الفكرية»:

أتت تختال في حِبَرٍ وحِبْر
على العشَّاق لا كِبَرٍ وكِبْر
منعَّمة الشبيبة لم يَرُعْها
مشيبٌ في العذار أقام عذري
سعت نحوي على سَحَر تريني
بدائع نظمها نفثات سِحر
إلى أن صيَّرَتْني في هواها
أسير القلب مبتهجًا بأسري
سرتْ لي من رُبَى بيروت تهدي
شذى لُبنان معلنةً بِسري
تخبِّرني وقد ألفَتْ خبيرًا
قريب العهد من خَبَرٍ وخُبْر
بأن ذوي هواي بها على ما
عهدت مبرة وكمال بِرِّ
ألا حيَّا رُبى بيروت عني
ولبنان الحيا منهلُّ قطر
بدَرٍّ يملأ الأرجاء دُرًّا
ويمزج تُرب أرضيها بتبر
وحيَّا مَن بها ربِّي وحيَّا
زمانًا مَر فيها غير مُر
وحيَّا حيَّ وافدةٍ أتتني
بريَّاها تضوع بنفح عطر
وسرَّت بالتحية من سريٍّ
حريٍّ بالوداد عَلِيِّ قدر
سليل كرامةٍ وربيب عزٍّ
ونسل صيانةٍ ورضيع طهر
وفرع نجابةٍ من عود مجد
أثيل الأصل من أثلات فخر
كميٍّ من سلالة أرسلان١
ذُؤابة قومه الأسدِ الهِزَبرِ
فتًى خطب العلا وصبَا إليها
فكان لها صِباه خير مهر
ومن خطب الحسان فلا شفيع
لهن سوى الصبا مقبول أمر
تعلَّق قلبه من عهد مهدٍ
بكسب المجد مجتنبًا لخُسْر
وأولع بالمعالي والمعاني
ونظمِ الشعر لا لطِلَابِ وَفر٢
ولا لصَبابة في ورد خد
ولا لصُبابة٣ من خمر ثغر
ولا مستبطئًا وعدًا لدعدٍ
ولا مستبطنًا أمرًا لعمرو
ولكن لاقتناص شرود معنًى
يَعِنُّ وحكمةٍ تبدو وسِر
وإن يلعب فما لعبٌ بعيبٍ
لعهد صِبًا وشرخ شباب عمر
ولكن تأنف الهمم العوالي
على رغم الصبا سَفْسَاف أمر
تحرِّم قرب أمر فيه إِمر
وتوجب هَجر كل مقال هُجر٤

وكتبت للشاعر المشهور المرحوم إسماعيل باشا صبري يوم كان محافظًا لثغر الإسكندرية، وهذا منذ ٤٠ سنة:

دع عنك ما قال العذول ولَاكَا
هيهاتَ أصبو عن حنين وَلَاكا
قالوا لك اختارَ السلوَّ وإنما
أسلو إذا كان الحبيب سواكا
أما هواك فذاك غير مفارقي
ونعيمُ رُوحي أن تكون فداكا
في كل يومٍ لوعة قد غادرت
جسمي لَقًا دنفًا لأجل لقاكا
وحنين نفسٍ لا هناء لها سوى
تَذكار شخصك أو شذى ذكراكا
تهفو لتعتنق النسيم لعله
قد مرَّ من جهة بها مثواكا
وتود من فرط الغرام جوانحي
لو كُنَّ أجنحة إلى مَرآكا
قد حلَّ حبك في الفؤاد فما جلا
عنه فلا ملكٌ سواك هناكا
ويلومني العذَّال فيك ولو رأَوْا
ما قد رأيتُ تتيَّموا بهواكا
بل لو رأى النُّسَّاك في قتراتهم
تلك الشمائل ما اغتدَوا نُسَّاكا
يكفيهِمُ منك المُحيَّا طلعةً
البدر فيها لو سَفَرْتَ وراكا
قسمًا بِمَنْ بَرَأَ الحِسان وَمَنْ بَرَا
عقد القلوبِ على الحسان ركاكا
إني لأحيا أن تجود بطلعة
متبذِّلًا وأموت عند حياكا
وأبيت أرعى البدر في غسقِ الدُّجى
إن لم أُصِبك فقد أصبت أخاكا
لا تحسبنَّ البعد مال بصبوتي
بل زاد في التعذيب بُعدُ مداكا
واللهِ لا يدري البعادَ ولا النَّوى
إلا الذي قد ذاق مُرَّ نواكا
كم ليلةٍ حيران أرقُب نجمها
تَرِدُ المجرَّة في السماء عراكا٥
أحييتُها حتى إذا رقَّ الدُّجى
باتت تهاوى في الصفيح دراكا
ذعرت نفور الآبدات كأنما
نصبَ الصباحُ لصيدهنَّ شباكا
ليلي: أمَا للشُّهب عندك مَرْبِط
كي لا تفر إذا الصباح أتاكا؟
كن لي وحقك في المواقف شاهدًا
فلطالما أحييت مَن أحياكا
جهلوا السريرة جملةً وتحدَّثوا
ولَأَنت أعلم يا ظَلامُ بذاكا
مَن لم يذُقْ بُعد الأحبة لم يزل
أُولى العجائب أن يخاف هلاكا
فسقى الأحبةَ والذي حلُّوا به
غيثٌ هَمَى لا يعرف الإمساكا
وسقى عهودهم العهاد وهزَّ في
وادي الأحبة أيكةً وأراكا
ورعى بوادي النيل عني عصبة
أضحى لهم حفظ الوداد ملاكا
لا أنسَ أيامي بأُنسِ لقائهم
كلا ولا يا نيل طِيب هواكا
يا حبذا واديك من متربعٍ
زاهٍ ونِعمَ الحَوْم حول حماكا
ورعى بأرضك سيدًا أضحت به الـ
إسكندرية ثغرَك الضحَّاكا
شهم لعمري ما أفضتُ بلاغة
عنه قصرتُ عن المدى إدراكا
كالبحر من كل الجهات أتيتهُ
لترى الحقيقة جاء مِلءَ حجاكا
والٍ توشَّح بالكمال فقل له
سبحان مَن ولَّاك بل أولاكا
أَسَرَتْ محبته القلوبَ فقُيِّدت
فيها ولكن لا تريد فِكَاكا
قل للمطاولِ مثلَ غاية فضله
هيهات تظفر بالنجوم يداكا
مَن يَرْعَه في لطفه ووقاره
يلقى الملائك فيه والأملاكا
مهلًا أيا اسماعيلُ في طرق العلا
واستبقِ فيها فضلةً لسواكا
لله ما أهدى فعالك للثنا
وأضلَّ في ليل المريب سراكا
حسب المُزاحم من عُلاك مناصبًا
أن يستظل بظلِّ فضل رداكا
تاهت بك الإسكندرية بهجةً
بلغت نهاية حظها بنهاكا
لم تدرِ مثلك في الولاة ولا دَرَتْ
تلك المنار الغر مثل هداكا
وإليك يا مَلِك القريضِ قصيدةً
وقفتْ على خجلٍ بباب علاكا
قدمت على اسماعيل وهي عريقةٌ
في لخم طامعة بنَيل رضاكا

بينما أنا ذاهب من سورية إلى الآستانة مبعوثًا عن حوران في أيام الحرب العامة، نزلت ضيفًا في طرسوس على سعادة الشهم الأمثل محمد بك راسم من كبار أعيان مصر المقيم هناك، وكانت حصلت حادثة على فتاة حسناء تشتغل في معمله القطني، وضُويقت الفتاة لأجل جمالها، والبك المشار إليه لا يعلم بالواقع، فلما بلغه الخبر امتعض ومنع من التعرض لها وجعلها في مأمن من سطوة العاشق، وصادف وجودي هناك، فقلت على سبيل المداعبة:

أقسمتُ إذ طلعت عليَّ شموسها
وزهت بها الأرجاء وهي عروسها
أعلى محلٍّ في الجمال محلها
وبها فأجمل بلدة طرسوسها
لم أحسدِ العشاق إلا واحدًا
أحظاه رب العرش فهو جليسها
في مجلسٍ يدع الحليم مرنحًا
سيَّان فيه لحاظها وكُئُوسها
ما إن رأتها مهجةٌ إلا فدت
ذاك المحيَّا نفسها ونفيسها
ومن العجائب وهي ريمة رامة
تعنو لها غُلْب الرجال وشوسها
هي جُؤْذر ولكَم سبَت من ضَيغمٍ
لا يستبيه من الجيوش خميسها
جارت عليها وهي بعدُ ظُبيَّة
نكباءُ تصطلم الأسودَ ضروسها
فعدا عليها مُذْ نعومة ظُفرها
خببًا نعيمُ الحادثات وبُوسها
بعد القصور العاليات رأيتها
في كسر بيتٍ قصرها ناموسها
بعد الثراء الجمِّ حلة صانع
ولكل حال في الزمان لَبوسها
تمضي لها في الغَزْل بِيضُ أناملٍ
ظَلَم الذي هو بالحرير يقيسها
القطن يهزأ بالدِّمَقْس بكفها
والخز ودَّ لو انَّه ملموسها
في الغزل أصبح شغلها ولنا به
متحركًا قطعٌ تضيق طروسها
يرجو الملوكُ نظيرَها لبنيهمُ
فيعود رب الملك وهو يئيسها
أحببتُ عيسى والصليبَ لأجلها
حتى يكاد يؤمُّ بي قسيسها
وأخالف الشيخ التميميَّ الذي
ما كان يُطرِب سمعَهُ ناقوسُها
لو كان شاهَد وجهها وعفافها
مع حسنها ما آدَهُ تقديسها
بطشت بنا وهي الضعيفُ بذاتها
بطشات أنور بالعِدَاة يدوسها
هو ذلك البطل الذي في ذكره
أبدًا يضيء من الوجوه عَبوسها
عادت به الآمال خضرًا نُضَّرا
من بعد ما عمَّ البسيط يبيسها
أبقى الإله سعوده موصولة
فبها تغيب عن الديار نحوسها
وأراه كل الكاشحين أذلةً
مخفوضة بذُرَى عُلاه رءوسها

وكانت صورة هذه القصيدة وصلت إلى الشام، فبعث إليَّ الأديب الكبير خليل بك مردم بك من سراة دمشق بالأبيات التالية على سبيل المداعبة:

ما للصبابةِ منك هاج رسيسها
ولنار قلبك عاد فيه حسيسها
عهدي بقلبك والأوانس والدُّمى
لا تستبيه سُعادُها ولميسها
شمست عن التهيام نفسُك يافعًا
هل رِيض بعد الأربعين شموسها
لله فاتنة تملَّكُ قلبَ مَن
تُحنَى لديه من الرجال رءوسها
فعلت به ألحاظُها ما قصَّرت
عن فعله أقداحُها وكئُوسها
يا مَن سُحرت بقوله، هل ذاك من
تأثير عينيها وأنت جليسها؟
إن كنت أحببت الصليب لأجلها
وشَجَا فؤادك قارعًا ناقوسها
والروح والإنجيل حلفةَ صادقٍ
ويمين حق لا يُردُّ غَمُوسها
إني لهجت بذكر يوحنا ومُرْ
قس وازدهى في ناظري جرجيسها
وشريت تكريس البتولِ ويوسفٍ
وحفظت ما قد قاله قديسها
هذا ولولا حب دين محمد
«من دون كاد» لأمَّ بي قسيسها
هامت بها نفسي لوصفك حسنَها
حتى كأنْ موهومَها محسوسها

فأجبته بما يلي، وهو أيضًا من باب المفاكهة:

والله مذ طلعت عليَّ شموسُها
ريضت لها نفسي وزال شموسها
والشمس ما طلعت علت أنوارها
وعرا الكواكبَ والبدورَ خنوسها
ألقت على قلبي المتيم لحظة
خضعت لها روحي ولان شريسها
رقَّ الفؤاد لها فصار رقيقها
وحنى لها رأس العلو رئيسها
تُدعى الأسيرةَ غير أن غُزاتها
عادت لها أسرى تذوب نفوسها
قد غيَّبوها في السجون فلم يَطُل
أن صار ربُّ الحبس وهو حبيسها
خلصت تجرِّر منه ذيل صيانة
هي منه في لمعانه طاوُوسها
وكذا الجمال إذا سرت أجناده
سالت بأودية القلوب تجوسها
مذ صوَّبت نحوي سهام لِحَاظها
وهَنَت دروع مفاصلي وتروسها
نفذت لها بين الجوانح نظرةٌ
فيها يضل الطبَّ جالينوسها
باتت تقلِّب في ضعيف بنانها
أسدًا تضيق به الأسود وخيسها
هيهاتَ أطمع بالثبات أمامها
بل يجذب الصوَّان مغناطيسها
مَن ذا يعارضها بملك عبيدها
مذ فوق عرش الحسن كان جلوسها؟
شاهدتُ منها منظرًا تحيا به
رُوحٌ ولو بلغ الفصال نسيسها
وسرقتُ نظمًا من مباسم ثغرها
دررًا يعزُّ بمثلها قاموسها
قُل للخليل يتيه في فيحائه
ويروض كل كريمة ويسوسها
ويرود مَرجتها عشية سبتها٦
وله بكل محطة جاسوسها
ويصيد عفر ظبائها في كنسها
وإليه تُجبى جوبر وكنيسها٧
أظننت شطر الحب خصَّك مفردًا
وسواك في أقسامه مبخوسها؟
وحسبت ما في الركب غير «خليلها»
و«أديب»٨ ذلك وحده نقريسها
أوَإِن قطعتُ الأربعين أينبغي
أن تستوي غزلانها وتيوسها؟
أوَمَا علمت الأربعين رجالها
نعم الفوارس إذ يفور وطيسها
وهم الجهابذة الأساتذة الأُلَى
ليسوا أُصَيْبية تعاد دروسها
وهمو إذا ضمَّتهمو أعراسها
مثل الضراغم ضمَّها عِرِّيسها٩
أيكون مثلي شاعرًا وأكون مَن
لم يجتذبه من الوجوه أنيسها؟
ما زال سلطان الجمال محَكَّمًا
تأتيه من كل القلوب مكوسها

وبعث لي سنة ١٣٣٤ سعادة خليل مردم بك الشاعر الكبير من عيون أعيان الشام قصيدة رائية من بحر الطويل، يلتمس مني فيها أن أجيزه فأجبته بالقصيدة الآتية:

أرى جملةً في صفحة الكون لا تُقرا
وعاطفةً في النفس تَدري ولا تُدرَى
ونارًا بأحناء الأضالع كلَّما
تخلَّلها برد اليقين ذكت جمرا
هي النار في الأحشاء لكنَّها هُدًى
لِمَنْ كان لا يرضى بإيمانه الكفرا
على ضوئها سار الأئمةُ قبلنا
وهزُّوا على الأملاك ألويةً حُمْرا
وكم شاهدوها بالحجاز ونورها
يضيء بأعناق الأيانق من بُصرى
ولولا سناها ما درى ذو بصيرة
أقلبًا حوى بين الجوانح أم صخرا
ولولاه لم تعرف عن الروح سيرة
ولا أثرًا عنها قصصنا ولا إِثرا
لقد غاب عنها كُنْهها ومكانها
ولكن على الأكوان آثارها تترى
لها كل آنٍ في البرية مَظهرٌ
يخبِّر أن الله أودعها سرَّا
يقولون خَلْقٌ كل ما فيه آية
أجلْ إنما سرُّ الهوى الآية الكبرى
دُخَان بلا عود وعَرْف بلا كَبا
وبرق بلا سلك وسَرْي بلا إِسرا
فَمَنْ يتأمَّلْ في البعيد يَجِدْ لدى
جوانبه أشياءَ لا تقبل الحصرا
وَمَنْ يتروَّ في دموع يسيلها
يَخُض عندها من بين أعينه البحرا
رأيت على طرس الوجود صحائفًا
يداول فيها ربها النظم والنثرا
منظَّمة حبًّا مشتَّتة قلًى
مؤلَّفة عرفًا مخلَّفة نكرا
جنود من الأرواح قد أصبح الهوى
لأشكالها سمطًا وأصبحت الدرَّا
لها في صبابات القلوب مذاهب
فأشرفها حبًّا بأشرفها مُغرى
كما هام قلبي بالخليل بن مردم
هناك الهوى العذريُّ قد صحب العذرا
أجلُّ سراة الشام بيتًا وإنه
لأحدثهم سنًّا وأكبرهم قدرا
وأرحبهم ذرعًا وأطولهم يدًا
وأكرمهم نجرًا وأصدقهم فجرا
وأقسم إِني ما رأيت نظيره
فتًى سبق الأشياخ في قطره خبرا
ولألأ نور المصطفى في نِجاره١٠
فعمَّ عديًّا مجد نسبته الزهرا
أتاني قصيد منه يبغي إجازتي
وهل لضئيل النجم أن يُقبِس البدرا
وكيف يجيز المرء مَن بان شَأوه
عليه وهل للفِتْر أن يعدِل الشِّبرا
وجاد بشعرٍ كدت عند نشيده
أشكك هل بالشعر جاد أم الشعرى
يساجلني حُرَّ القريض وهل ترى
يساجل هذا التُّرب ذيَّالك التِّبرا
إجازة مثلي مثلَه خالص الدُّعا
بتوفيقه والله يُربِي له العمرا
وإني أرى فيه مذ اليوم مفردًا
كذاك يرجَّى البدر مَن شهد الشهرا
شهدت به في الحسن بدرًا وفي التقى
شهدت به سيماء مَن شهِدُوا بدرا

أما قصيدة خليل بك مردم بك، فهي هذه، وهي من أوائل شعره:

أحسُّ بشيءٍ في الحشا يُشبه الجمرا
أهذا غرامٌ هيَّجته ليَ الذكرى؟
أبيتُ وجنبي لا يلائم مضجعًا
ودمعي لا يرقى وطرفي لا يكرى
أصيخ لما يوحي الغرام لمسمعي
فأنثره طورًا وأنظمه أخرى
أَأُخت الدُّمى قلبًا خلا ونعومة
وأخت الظبا طرفًا كقلبي أو نحرا
أتدرين فوق الحب منزلةً لكم
تقرِّبني فالحب جرَّ لي الهجرا
فعند هبوبي أنت أول خاطر
وآخره — واللهِ — أنت إذا أكرى
أمرُّ على الصخر الأصم تَعِلَّةً
فألثمُه إذ قلبُها يُشبه الصخرا
وما كنت ممَّن يعجم الحبُّ عوده
ولكنَّما يصبو الحليم لها قسرا
«وما أنا ممَّن تأسر الخمرُ لُبَّه»
ولكن سقتني في نواظرها خمرا
فتور كشعر الصب بالهجر رقةً
إذا هام وجدًا أو شعور الشجى المغرَى
فلو كان لي شيء من الشعر بين مَن
هُمُ أولياء الشعر عرَّفتها الشعرا
أجِزْني أميرَ الشعر بالشعر إنني
أراني لم أسلك به مسلكًا وعرا
رددتَ عليه حُسنه بعدما زوى
قرونًا فأضحى غصنه بك مخضرَّا
أعدْتَ لنا عصر النواسي ومسلم
فبوركت يا عصر القريض به عصرا
فمن مبلِغٌ شيخ المعرَّة شيخنا
وأحمد والطائي الأُلى نظموا الدُّرَّا
وشيخ القريض البحتري مع الرضى
ومهيار من كانوا لأعصُرهم فخرا
بأنَّا رأيناهم جميعًا بشخصه
فقرُّوا عيونًا فالقريض لقد قرَّا

•••

إليك أمير السيف والقلم انتهت
رئاسة كلٍّ فاعملنَّ لذا شكرا
بأكنافِكَ العليا تلوذ صيانة
لقد كنت — والرحمنِ — في صونها أحرى
لك الله من شهم قد اجتمعت به
كرام خصال قد تجاوزت الحصرا
«عفاف وإقدام وحزم» ومنعة
ومجد تسامى ردَّ عين العلا حسرى
إلى ظلك العالي زففت خريدة
إجازة شعر منكمُ أبتغي مهرا

(١) حادثة سياسية «استحالت فكاهة أدبية»

وفي أيام السلطان عبد الحميد وَشَى واشٍ بالأستاذ العلَّامة محمد أفندي كُرْد عَلِي في دمشق، فأرسل الوالي ناظم باشا، فكبس منزله وعثر على بعض أوراق يُعَدُّ حفظُها يومئذٍ من الجرائم، فجاء مَن أخبرني بالقصة وأن الكرد علي فرَّ وتوارى في الغوطة، فذهبت في الحال إلى ناظم باشا، وأبديت وأعدت حتى غضَّ النظر عن هذه المسألة، وأبلغت الأستاذ أن يعود آمنًا، فعاد إلى داره، وبعدها جاء هو والأستاذ الكبير الشيخ طاهر الجزائري ليشكراني على ما قمت به من تفريج هذه الأزمة عن الكرد علي فصرت أداعبه ببعض أبيات ارتجالية في الموضوع، فطرب لها الشيخ طاهر واقترح إكمالها قصيدة، فأكملتها ثاني يوم، وانتشرت في كل نادٍ، وهي في كتاب خطط الشام تأليف الأستاذ الكرد علي:

ألا قُلْ لِمَنْ في الدجى لم يَنَمْ
طِلاب المعالي سمير الألم
وَمَنْ أرَّقته دواعي الهوى
فدون الذي أرَّقته الحِكم
فكم في الزوايا تخبَّا فتًى
طريد الكتاب شريد القلم
يرى الأرض ضَيقًا كشق اليراع
ويهوي على ذا الوجود العدم
وكم ذا بجسرين١١ من ليلةٍ
على مثل جمر الغَضَا في الضَّرم
تمنَّى الأديب بها ندحة
ولو بات يرعى هناك الغنم
وكم سروة تحت جُنْح الظلام
كسِرٍّ بصدر الأديب انكتم
يخاف بها حركات الغصون
ويخشى النسيم إذا ما نسم
وإن تَشْدُ ورقاءُ في أيكةٍ
تؤرِّقْه في صوتها والنَّغم
وكم بات للنجم يرعى إذا
أديم السما بالنجوم اتَّسم
وطال به الليل حتى غدا
يظن عمود الصباح انحطم
ومن ذُعره خال أنَّ النجوم
لتَهدي إلى مسكه عن أمم
إذا ما السِّماك بدا رامحًا
توهَّمه نحوه قد هجم
ولولا الدجى لم يتمَّ النجا
وقد أمكن الظلْم لولا الظُّلَم
ولله دَرُّ القرى إذْ خَفَتْه١٢
فما بالسهولة يخفى العَلَم
فجِسرين زبدين والأشعري١٣
ديارٌ بها قد أوى واعتصم
ونحو المليحة١٤ رام الخفا
وكم بالمليحة من مُتَّهم
ديارٌ أبى أهلها غدره
وآواه منها الوفا والكرم
ولا شك رقُّوا لأحواله
طريدًا يعاني الجوى والسَّقم
ليالي كانون في الأربعين
وبرد العشيَّات أغلى الفحم
بأرضٍ ثراها سماء وماء
ففوق السواقي وتحت الدِّيَم
يجول وقد صار مثل الخيال
ودق فلو لاح لم يقتحم
وفوق الخدود كلون البهار
وتحت المآقي كلون العَنَم
وفي كل يوم سؤال وبحث
وأنَّى تولى وأين انهزم؟
وقد كان في كبسهم بيتَهُ
بجلَّق قالٌ وقيلٌ عمم
فكانت على كتبه غارة
كغارات عُرْب الصفا١٥ بالنعم
وقالوا سيُنفى إلى رودس
وقالوا سيُجزَى بما قد جرم
وقالوا سيحمِلُهُ أدهم
بمرقاه لا تستريح القدم
وبعض بسجن عليه قضى
وبعض بضرب عليه حكم
وكُرد علِيٍّ غدا عبرةً
فغاث ومنه الرجاء انصرم
فيا كردُ لا تحزنَنْك الخطوب
فإن الهموم بقدر الهمم
وَمَنْ رام أن يتعاطى البيا
ن توقَّع أن يُبتلى بالنقم
فذي حرفة القول حرِّيفة
وكم أدركت من لبيبٍ وكم
وكم كتْبة أعقبت نكبة
وكم من كلامٍ لقلب كلَم
ومن بالكتابة أبدى هوًى
فإن الكآبة منه القسم
فيا كرد صبرًا على محنةٍ
فكم محنة شيَّبت من لِمم
وصبرًا على ورقاتٍ لها
عيون المعاني يبكين دم
وواهًا لباقات زهر غدوت
لها جامعًا يا أخي من قدم
أزاهر تسهر في جمعها
فلا غرْو أن فاح عَرف فنم
وما نمَّ إلا بنشرٍ ذكي
وطيب يفوق عرار الأكم
فقولوا لواشٍ بكرد علي
نشرت الثنا حين حاولت ذم
فما كان كرد سوى صادقٍ
لدولته طالما قد خدم
وما وجدوا عنده ريبة
تُعدُّ ولو في صغار اللَّمم
فهل يطفئون بأفواههم
من النور ما قد رآه الأمم
وما دام ناظم في شامنا
فما نُستضام ولا نُهتضم
ولولا العناية من ناظم
لما كان شملٌ لنا منتظم
وقانا دسائس أهل النفا
ق وردَّ الوشاة وجلَّى الغمم
وقد أضحت الشام في عهده
يصوب عليها عهاد النعم
وباتت من الزور في مأمنٍ
وحُقَّ الأمان بباب الحرم

وأطلعني في مرسين صديقي المجاهد الأكبر السيد أحمد الشريف السنوسي على قصيدة همزية، قيلت في عمه السيد محمد المهدي — رضي الله عنهما — فعارضتها قائلًا من البحر والقافية:

هل تُرى ينتهي عليه الثناء
سيدٌ ينتهي إليه السناء
وتؤدِّي له البلاغة حقًّا
ويوفِّي أخباره الإنشاء
ويجلِّي القريض صورة معنا
هُ ولو بالشعرى أتى الشعراء
قد كفانا من وصفه أنه المهـ
ـدي مُذ قد تجلَّت الأسماء
نجلُ قطبٍ قد كان في الشرق والغر
ب سراجًا بنوره يُستضاء
هو بحر الشريعة ابن السنوسي
الذي عنه سارت الأنباء
لم يدعْ في العلوم علمًا ولم يقـ
ـتله والعلم قتْله إِحياء
جمع العلم والولاية فائتمَّ
به العالِمون والأولياء
استفاضا لديه نورًا على نو
رٍ وكلٌّ على الورى لألاء
فيه لاقى العلم اللَّدُنِّيُّ علمًا
سهرُ الليل أصله والعناء
لا يرى العلم في سوى العمل الصا
لح فالعلم آلة ووعاء
فلهذا ترى الطريق السنوسيَّ
على الفعل قام منه البناء
بات فعلًا هدى مريد السنوسيِّ
وأن ليس بالكلام اكتفاء
كلهم عامل لذلك فيهم
تتبارى العقول والأعضاء
كم تولَّى بالكف سكة حرث
حَبْرُ علمٍ حفَّت به القرَّاء
حققوا سُنَّة المعلِّم للخيـ
ـرِ الرسول الذي به الاقتداء
بثَّ ما بين مطلع الشمس والمغـ
ـرب رشدًا ضاءت به الأرجاء
وزوايا في كل غورٍ ونجدٍ
ليس يسطيع حصرها الإحصاء
وبدا بالبناء في الجبل الأخـ
ـضرِ حيث البنية البيضاء١٦
في ذرى السيد الجليل الصحابي
سيدي رافعٍ عليه الرضاء
حيث قد لاح ذلك السيد المهـ
ـديُّ بدرًا ضاءت به الظلماء
أيُّ فرع لأيِّ أصلٍ لعمري
قد تُحاكى الآباء والأبناء
لا بل الإبنُ جاء أوفى علوًّا
ولئن فاق، من أبيه العلاء
الهمامُ المهديُّ والسيد الصا
دعُ بالحق والسحابُ الرواء
أزهر الوجه ناصع اللون لم تنـ
ـجب بأبهى من شخصه الزهراء
أكحلُ الطرف مستديرُ المُحيَّا
لاحَ فيه الهدى وجالَ الحياء
أبيضُ الخدِّ والثناء وفي أيـ
ـمنِ خدَّيهِ شامة سمراء
أروعيٌّ صلتُ الجبين إذا قا
بلتهُ قلت: كوكبٌ وضَّاء
ربعة قدُّهُ قويٌّ عريض
منكباهُ وأذرعٌ فتلاء
واسعُ الثغر باسمٌ عنه دُرًّا
والثنايا في ثغره فلجاء
شَثْن كفٍّ لكنَّ أيديه الشثـ
ـنة بالجود سبطة سمحاء
هاشميٌّ أشمُّ أنفٍ كذا معْ
شمم الأنفِ همة شمَّاء
يتجلَّى كماله في عيونٍ
زيَّنتها حواجب وطْفاء
يملأ العينَ هيبةً وجلالًا
وهْو مَعْ ذاك لحظُهُ إغضاء
مَن رآه يقول: هذا هو المهـ
ـديُّ حقًّا وللهدى سيماء
أشبهُ الناسِ بالنبيِّ وَمَنْ يشـ
ـبِهْ أباهُ فليس منه اعتداء
نشرَ الدينَ في بلاد السواديـ
ـنِ جميعًا فعمَّها الاهتداء
وبأسيافه طرابلس الغر
بِ أُجيرت وبرقة الحمراء
سوف يدري الطليان أنْ في السويدا
ءِ رجالٌ حروبهم سوداء
في مجال الطِّعان أُسْدٌ محاريـ
ـبُ ولكن عند المحاريب شاءُ
ينصرون الإسلام بالسيف والمُصْـ
ـحف فالقوَّتان فيهم سواء
يعمرون الأرض التي أورث الله
عبادًا له همُ الصُّلحاء
لم يحلُّوا قفرًا من الأرض إلا اهـ
ـتزَّ منهُ حديقة غنَّاء
فاسأل القروَ والجغابيب والكفـ
ـرة١٧ ينطقْ عمرانُها والنماء
واسأل الواح كلها كيف عاشت
بالسنوسيِّ تلكمُ الصحراء
ليس يخشى الإفرنج مثل السنوسيِّ
وما هم في خوفهم أغبياء
عرفوا قدره وبُعدَ مراميـ
ـهِ فأشهاد فضله الأعداء
كم غدت من سطاه ترجف رعبًا
دولة مِلْء أنفها الكبرياء
رد أزر الإسلام صلبًا سويًّا
بعد أن كان شفَّه الانحناء
وأعاد الإسلام غضًّا كما كا
نَ عليه الأسلاف والقدماء
لم يقُمْ مثلهُ لإرشاد خلقٍ
ذلك الحق ليس فيه مراء

مدحتي لسمو الخديوي توفيق باشا

أول مرة خرجت فيها من سورية كانت رحلتي إلى مصر، وكنت في الواحدة والعشرين من العمر، وأقمت بالقاهرة أكثر من شهرين وأنا ملازم أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده، وتلك الحلقة التي كانت تجتمع بالقرب من قصر عابدين في بيت المرحوم سعد أفندي زغلول الذي صار فيما بعدُ زعيم مصر، ثم برحت مصر قاصدًا الآستانة ومررت على الإسكندرية، وذهبت إلى سراي رأس التين حيث أكرمني الجناب الخديوي يومئذٍ محمد توفيق باشا بمقابلته، وكنت هيَّأتُ قصيدةً لسموِّه لكنني لم أقرأها بحضرته، بل سلَّمتها عند خروجي منها لرجال المعيَّة السنيَّة؛ ففي اليوم التالي نشرتها المعيَّة في جريدة الوقائع المصرية، وكان محرِّر الوقائع المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان، فكتب فوقها تقريظًا جميلًا. وليست جريدة الوقائع الآن تحت يدي لأنقل القصيدة برمَّتها، وإنما أتذكَّر منها الأبيات التالية:

أقول لنُطقي اليوم: إن كنت مُسعدي
إذن أرْقَ أسباب السماء بمصعد
وأنظِمْ من القول النفيس فرائدًا
تنزِّل شِعرَى الأفق في شعر منشد
إذا أنا لم أُوفِ المكارم حقَّها
من الشكر في سلك القريض المنضد
فلا شغفت لي بالمكارم مهجة
ولا عزَّ آبائي ولا طاب مَحتدي
ولا بلغت بي رتبةٌ من مكانة
أنال بها لقيا العزيز محمد
وأذكر علياه، وذكرُ محمدٍ
ألذُّ كلامٍ قيل بعد التشهد
عزيز حَمِدْتُ الدهر عند لقائه
وَمَنْ لَقِيَ التوفيق للسير يحمد
ولا غَرْوَ أن حنَّت لتقبيل كفِّه
على البعد نفسٌ تلمس النجم باليد
وشاقت له رب الرقائق طلعةً
لَعَمرك تُذْكي الشوق في قلب جلمد

ومنها:

فدونكها يا غرة الملك غادة
تميس كغصن البانة المتأود
وإني إذا أُهدي العزيز مدائحي
أبوء بصدق القول غير مفنَّد
وَمَنْ رام من إدراك كُنْهك غايةً
يجدْ غايةً ما تُدن للوصل تُبعد
وإلا فما حاولت إدراك غاية
بشعري ولا نظم القصائد مقصدي

ولي من عبث الشباب تقليدًا للشعراء:

أرى في غزال الدوِّ منه شمائلًا
فأهفو إليه كلما مر سانحُه
وتخطر قضبان العذيب فتنثني
مَعَاطفُهُ في خاطري وجوانحه
أكاد لمرأى كل غصن أراكةٍ
أعانقه من أجله وأصافحه
وأعشق نور البدر ليلة تمِّه
لأنْ قد بدت منه عليه ملامحه
يقول عذولي: شفَّ مسكتك الهوى
فأنت لعمري ذاهب الفكر سائحه
فقلت: جميع الرشد في سُبْل حبه
إذا لاح لي من ذلك الوجه لائحه
وقالوا: أضعت العمر في حب أغيدٍ
وَمَنْ علق الغزلان ضاعت مصالحه
فقلت لهم: يا حبذا ما أضعتُهُ
بمن حبُّه كنز تنوء مفاتحه
فدا كل ظبي بين سلع وحاجر
لمهجة ظبي في الفؤاد مسارحه
ومهما يعذِّبْني فعَذْبٌ مذاقه
ومهما يؤرِّقْني فإني مسامحه
وما أسعد الليل الذي أنا ساهر
وما أقدس الدمع الذي أنا سافحه
وقالوا: قطعت الأربعين فما الهوى
وقد صاح في فَوْدَيْك للشيب صائحه
ولم يعلموا أن المهار وإن زكت
لَتعجز عما طال في الجري قارحه
بلى أنا سلطان الغرام وهذه
صحائفه في راحتي وصفائحه
إذا في كتاب الحب طالع مغرم
فقلبيَ مُمليه ودمعيَ شارحُه
أنا الصبُّ متبولًا بذكر حبيبه
وشرط المُعنَّى أن تغيب جوارحه
خليٌّ إذا رام الصلاة تداخلت
تحيَّاته مَعْ ذكره وفواتحه

وامتدحني بعض الشعراء المُفْلِقين في جريدة الفتح، فأجبتهم بالأبيات الآتية:

يُقرِّظني قومي بأني مدحتهم
كما يُمدح الروض الذكي على النفح
ولو أنهم قد أنصفوني لما رأَوْا
بمعرفتي للحق عارفة المنح
إذَنْ لرأوا آثارهم شاهدًا لهم
يكاد لديها الطير يهتف بالصَّدْح
شهدتُ بما شاهدْتُ ما من علاقة
ولا صلة توهي الشهادة بالجَرْح
ولكنَّ من شأن الفصاحة أنها
إذا بهرت تعطو إلى خُلق سَمْح
سيوف نضاها الله إذ حمَسَ الوغى
ونادى منادي الدين للرمي والنضح
تواصل في جيش الضلال قِرَاعها
فما برحت تشفي الصدور من البرح
تلألأ في قِطْع من الليل مظلمٍ
سناها فكان الليل أضوا من الصبح
فلا تأخذَنْكُم في الغواة هوادةٌ
وفلُّوا جموع الشر بالضرب والطرح
لقد خوَّضوا في الدين والعرض جهرة
ولجُّوا فعاد القرح ينكأ بالقَرح
فليس بغير الكسر حسم لدائهم
وغير العصا، والجوز يؤكل بالشقح
وكل ذنوب العالمين مصيرها
إلى العَفو إلا الشرك ممتنع الصفح
سينصركم مَن تنصرون كتابه
ويؤتيكم الفتح القريب من الفتح
ولي هذه الأبيات السينية المنشورة في جريدة الفتح عدد ٢٥٨، وقد قدمت عليها هذه الجملة:

إلى الشاعر المفلق النجمي، زاده الله إبداعًا:

قرأت — أيها الأخ — أبياتك السينية، فهاجت بي خاطر الشعر برغم كل هذه الشواده وهذه العوادي، فأخذت القلم وسالت القريحة بالأبيات الآتية، والله يشهد أنها وليدة بضع دقائق، إلا أني لا أخالني إذا أطرقت ونمقت آتي بأحسن منها، فخُذها على علَّاتها:

ما أدهشتنا من النجميِّ قافية
كأنها الغادة الحسناء في العُرس
لها سوابق قد جاءت مسلسلةً
على اطِّراد كعوب الذُّبَّل الدُّعُس
قل في حبيبٍ وبشَّارٍ ورهطهما
والبحتريِّ ولا تضنن به وقِس
هيهات أفرق إعجابي بأيهما
من تلكم النفس أم من ذلك النفَس
شعرٌ به تسكر الألباب سائحة
كما تسافر بنت الحان بالجُلس
لا يعرف السامع الولهان نشوته
من سبكه الجزل أم من نسجه السَّلِس
رَوِيُّه العذب في تحكيم موقعه
من أول الشطر يُدرَى غير ملتبس
لا يحرم الله حزب الحق طائفة
إن تَنصلِت في مجال الكرِّ تفترس
قد آن للظلم أن ينجاب عن فرج
لم يبرح الفجر مشتقًّا من الغلَس

تاريخ مولود عزيز

وكنت في أوائل سنة ١٩٢٠ مسيحية في جبل سان مورتز بسويسرة، وكان هناك الشهم المفضال عزيز عزت باشا من عيون أعيان المصريين، وصهره الأمير محمد علي حسن من العائلة الملكية المصرية، فوُلد للأمير مولود سَمَّاه «عزت حسن»، فنظمت له التأريخ الآتي:

قل للعزيز أدام الله بهجته
وبات يخدم سامي بابه الزمن
اهنأ بسبطٍ به منَّ الإله ولا
زالت تلازمك الآلاء والمنن
ولْيَهنأَنَّ الأمير الشهم والده
أنعِم بغصنٍ نضيرٍ جاءه غصن
لما تطايرت البشرى بمولده
وقرت العين مما تسمع الأذن
أهدى محبُّك تأريخًا وقال به
بعزة قد تجلى وجهه الحسن

تاريخ لزفاف محمد بك ناجي نجل صديقنا المرحوم حنفي بك ناجي من أعيان مصر:

يا أيها الحنفي الذي لو أنني
كاتبته بسواد عيني ما كفى
هيهات أقدر أن أوفِّي واجبًا
لثناك يا سلطان أرباب الوفا
ما زلت أضرب في البلاد ولم يزل
بحشاك قلب أخ عليَّ مرفرفا
أهديت لي البشرى بعقد محمد
تلك البشارة، ما ألذ وألطفا!
أسعد بها من ليلة فيها جرى
ذاك الزفاف على سميِّ المصطفى
يا أيها الخلُّ الذي شوقي له
بعد البعاد أجلُّ من أن يوصفا
يدعو لك اليوم المؤرخ شاعرًا
لزفاف نجلك بالبنين وبالرِّفا

[شاعرًا = ٥٧٢، لزفاف = ١٩٨، نجلك = ١٠٣، بالبنين = ١٤٥، وبالرِّفا = ٣٢٠]

جواب عالم في بوسنة

وكتبت إلى حضرة الفاضل شاكر أفندي مسيحو قتش الهرسكي من أعضاء مجلس العلماء بسراي بوسنة، وذلك في جواب كتاب منه:

لما حللتُ بأرض بوسـ
ـنا وانجلت تلك المناير
أيقنت أني وَسْط ربـ
ـع بات بالإسلام عامر
ولقيت من ألطافكم
ما تستبين به السرائر
ما نال ما قد نلته
منكم لعمري أيُّ زائر
فأنا الحقيق بأن أتيـ
ـهَ إذا أردت وأن أفاخر
قد كنت طول إقامتي
ضيفًا تحفُّ به الجماهر
ألقى الحنوَّ على الوجو
ه عليَّ مثل الشمس ظاهر
إن الوجوه من الرجا
ل لنعم عنوان الضمائر
ورأيت وجهك كيفما
أقبلت ينظر وَهْو سافر
والعطف إن حل الفؤا
دَ غدت تؤكده النواظر
فأنا محبك ما حييت
وشاكر أبدًا لشاكر

ذكرى شاعر الألمان الحكيم

ولما زرت في فرانكفورت بيت «غوتة» شاعر ألمانيا الأكبر، وقدموا لي الدفتر المعتاد أن تُكتب فيه أسماء الزائرين، كتبت الأبيات الآتية ارتجالًا مع تضمين البيت الأخير:

مذ قيل: هذا بيت «غوتة» زرته
إذ كان للشعراء كعبة قاصد
هذا أمير الشعر عند قبيلِهِ
منه لجيد الدهر عقد فرائد
طأطأت رأس قريحتي في بابه
ولَكَمْ رأت عتباته من ساجد
إن لم يكن من أمتي وعشيرتي
فالناس في الآداب أمة واحد
أو فاتنا نسب، يؤلِّف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد

وبعد أن ذهبت من فرانكفورت استدعت البلدية الأستاذ المستشرق هوروفيتس، الذي كان يدرس العربية نفسها في كلية عليكر في الهند، وله ترجمة إلى الألماني لديوان الكميت فيما أتذكر وغيره، فترجم هذه الأبيات ونشر الترجمة في جرائد ألمانيا، ومهد لها بمقدمة جاء فيها بالإطراء الزائد، وقال: هذا إكرام شاعر الشرق لشاعر الغرب.

زيارة قبر سيف الله ورسولِه وقائد جيوش العرب والإسلام الأكبر

ولما زرت مقام سيدنا خالد بن الوليد — رضي الله عنه — في مدينة حمص، وذلك منذ ثلاثين سنة فأكثر، كتبت على حائط المقام هذين البيتين:

مغيبك سيفَ الله في غمدك الثرى
دليلٌ بأن الله لا شكَّ واحد
فلو أن فذًّا خلَّدته فتوحه
لما كان في الأقوام إلَّاكَ خالد

ما أُنشد في حفلات تكريم كبار الشعراء

منذ نحوٍ من ثلاثين سنة قام بعض أدباء مصر بحفلة تكريمية لحافظ إبراهيم؛ الشاعر المشهور، وكتب لي بعض الإخوان من مصر إلى سورية يقترحون عليَّ إرسال بعض أبيات لتُقرأ في الحفل، ومن جملة ما ذكروا لي من محاسن حافظ أنه يحب السوريين، وكان ذلك قبيل عيد الأضحى؛ فأرسلت أبياتًا ليست عندي نسختها الآن، وإنما أنا أملي منها ما أتذكَّره وهو:

ورهطٍ دعَوني أن أجيب نداءهم
فلما دَعوني لم يروني بِقُعْدُد١٨
أإخوانَنا الداعين بي لأجيبهم
إليكم ترَوا مني اهتزاز المهنَّد
حلفتُ بما بين الحطيم وزمزم
وأقسمت بالبيت العتيق المشيَّد
وبالطائفين١٩ العاكفين بهذه الـ
ـليالي تراهم من ركوع وسجَّد
يؤمُّون مثوًى للخليل ومرقدًا
تلألأ نورًا بالنبي محمد
مشاةً ورُكبانًا على كل ضامرٍ
ومن فوق قضبان الحديد الممدَّد
فما في حديث الحج لينٌ وقد غدا
يجيء على شرط البخاري بمسند
لعمري لقد أحيت قريحة «حافظ»
عهود أغانٍ للسريج ومعبد٢٠
يقولون لي شيِّد عن الشام ذكره
ألم يكُ ولَّى الشام شطر التودد؟
فقلت لهم أُثني عليه بصالح
عن العُرب طُرًّا ذاك أصلي ومحتدي
وما عربيٌّ بَيَّن الضادَ نطقُهُ
بشامي ولا مصري ولا متبغدد

ومنها خطابًا لحافظ:

وقبليَ قد أولاك «سامي»٢١ شهادة
ومثلي بمحمود السجية يقتدي
فأنت إمام النثر غير مدافع
وأنت أمير الشعر من بعد أحمد٢٢

وأقيمت حفلة لشاعر القطرين خليل بك المطران، فأرسلت إلى الحفلة بالأبيات الآتية، وذلك سنة ١٩١٢:

لك يا خليل من القلوب مكان
هو فوق ما بسمائه كيوان
لم يختلف أحدٌ عليك كأنَّما
لك كل أرباب النُّهى خلَّان
كلُّ الخواطر في ولائك خاطر
وجميع ألسن عارفيك لسان
ويرى التكلف في سواك وإنما
شَرَعٌ عليك السر والإعلان
يكفيك ما بين العناصر أنك الـ
ـوطني لا بُغض ولا شنآن
عجبًا له جمعَ القلوب على الولا
قلم بكفِّك ساحر فتَّان
وإذا تجرَّد للنضال فإنه
لَأَعزُّ ما نُصرت به الأوطان
هيهات يبلغ شأوَ فتكك بالعِدى
من في يديهِ صارم وسنان
قد زيَّن الأدب الذي أُوتيتَه
جمًّا أنِ الأخلاق فيك حِسان
ووفاء طبع ما تخلَّف عن أخ
وزماننا إخوانه خُوَّان
تالله في الأجياد منك قلائدٌ
غرٌّ وفي الآذان منك جمان
لو جئت في عصر القريض لما علت
يومًا بنابغة لها ذبيان
ولئن عداك مُوازنوك فكم فتى
مذ خف عنك علا به الميزان
أو كانت الدنيا قسوس فصاحة
بحذا عكاظ فإنك المطران

القصيدة التي بعثت بها من أمريكا إلى المهرجان الذي أُقيم لأحمد شوقي أمير الشعراء سنة ١٩٢٧ مسيحية، وتلاها في المحفل شاعر القطرين خليل المطران، وكان نظمي هذه القصيدة في البحر قبل وصولي إلى نيويورك:

نادِ القريحةَ ما استطعت نداءَها
إنَّ الحقوق لتقتضيك أداءها
مهما ينل منها الجمودُ فإن من
إعجاز أحمد ما يفجِّر ماءَها
مهما تراكمت الغيوم بأفقها
فاليوم عندك ما يعيد جلاءَها
لا تعتذر عنها بكرِّ نوائبٍ
سدَّت عليها نهجها وسواءها
فأهمُّ ما هَمَت السحاب إذا مَرَت
هوجُ العواطف دَرَّها وسخاءها
والحكُّ يستوري الزنادَ وإنما
تُربى الصوارم بالصقال مضاءها
والرمح يكسب بالثقافِ متانةً
والخيل يُظهر عدْوُها خُيَلاءَها
حاشا القرائح أن تَضنَّ بوَدْقِها
ما دام شوقي كافلًا أنواءها
الشاعر الفذ الذي كلماته
ضَمنَ النبوغُ على الزمان بقاءها
أنست فصاحته أوائلَ وائلٍ
وغدت هوازن مع ثقيفَ فداءها
في كل كائنة يزفُّ قصيدةً
توتي جميع الكائنات بهاءها
غدت المعاني كلها ملكًا له
فأصاب منها كلَّ بِكر شاءها
وكسا اللسان اليعربيَّ مطارفًا
هيهات ينتظر الزمان فناءها
ستخلِّد الأوطان من تكريمه
ذكرى تطبق أرضها وسماءها
لو أنصفت لغة الأعارب قدره
صلَّت عليه صباحها ومساءها
من كل موضوع أصاب شواكلًا٢٣
بلغت بمقتلها الصدورُ شِفاءها
يبكي «شكسبير» على أمثالها
ويبيت «غوتة» حاسدًا علياءها
ولوَ انَّ آلهة الفصاحة عندهم
أدركن شوقي خففت غُلَواءها
صنَّاجة الشرق الذي نَبَراته
تجلو المشارق عندها غمَّاءها
في كل حرف من حروف يراعهِ
وَتَرٌ يثير سرورها وبكاءها
ما حل بالإسلام بأس ملمة
إلا ورجَّع شعرُه أصداءها
يُبدي فظاعتها ويوسع هولها
وصفًا ويذكر داءها ودواءها
كانت قصائده لبعثِ بلاده
صُورًا أراد من البلى إحياءها٢٤
وأرى الليالي لا تعزز أُمَّةً
إن لم يكن سُوَّاسُها شعراءها
كم أثبت التاريخ في صفحاته
أُممًا غدا إنشادُها إنشاءها
ضلَّت لعَمري في الحياة قبيلةٌ
لم تصطحب أفعالُها أسماءها
والعُرْب لا تبدا بجمع جموعها
إلا سَمعت نشيدها وحداءها
أكرِم بأحمد شاعرًا وافى لنا
في روح أحمد٢٥ حاملًا سيماءها
أتلو قصائده فتملأُ مُهجتي
فرحًا يزيل همومها وعناءها
وأَظلُّ مفتخرًا بها فكأنَّ لي
دون الأنام ثناءها وسناءها
نخَلت له نفسي مودة وامقٍ
وفَّى عهادُ٢٦ عهودها إنماءها
نعزو إلى لخمٍ متانة أصلها
وتمزُّ من ماء السماء صفاءها٢٧
لا ترتجي منها النمائم ثلمَةً
كلا ولا توهي الهنات بناءها
ناشدت شعري أن يفي بمودتي
وأراه يعجز أن يجيء كفاءها
قد صار عهدي بالقريض كأنه
دِمَنٌ تقاضتها الرياح عفاءها
أدعو فلا يأتي الذي أرضى به
والشعر أن تجد النفوس رضاءها
والشعر ما رسم الضمائر ناثلًا
منها الكنائن نافِجًا أحناءها
والشعر ما ترك المعاني مُثَّلًا
فتكاد تلمس بالأكف هبَاءها
والشعر حيث يقال: مَن ذا قالها؟
ما الشعر حيث يقال: مَن ذا قاءها؟
وهناك نفسٌ مرَّة ما تأتلي
تملي عليَّ من العلا أهواءها
إن لم تجدني في العجاجة أوَّلًا
نَكِرت عليَّ ثلاثها وثناءها
وفَّرت يا شوقي السباق على الورى
برياسةٍ بات السباق وراءها
تتقطع الأعناق عن غاياتها
حتى الأماني لا تحوم حِذاءها
تالله أعطيت الرياسة حقها
وعقدت حبوتها٢٨ ونلت حِباءها
وبذذت أهل العبقرية كلهم
وبَززْت٢٩ جنة عبقر أشياءها
لما رأيتك قد نزحت قلِيبَها
ألقيتَ عني دلوها ورشاءها
فاسعد بعرش إمارة الشعر التي
ألقت إليك لواءها وولاءها
وتهنَّ وابقَ لأمة عربية
لا زلتَ قرَّة عينها وضياءها
وأقيمت حفلة عيد الخمسين سنة لأستاذنا اللغوي العلَّامة الشيخ عبد الله البستاني٣٠ طاب ذكره، وذلك في بيروت، فنظمت هذه القصيدة وبعثت بها من برلين:
أحقُّ الأيادي أن تُجلَّ وتُعظما
وتُسلك في الأعناق سمطًا وتُنظما
وتلبسها الأيام حَلْيًا وكسوةً
وتسني لها الأحقاب عيدًا وموسما
أيادي الأُلَى كانوا مصابيح عصرهم
لمُدَّرعٍ ليلًا من الجهل مُظلما
ومن أوضحوا للحائرين محجة
فساروا بهم في العيش نهجًا مُقوَّما
لعمري إذا الأعلام قيست جهودها
وكلٌّ أتى عما فراهُ مترجما
وجاء الكرام الكاتبون فقيدوا
لكل عصاميٍّ حسابًا مرقَّما
فمن مثل عبد الله في الشرق عالم
له مثل من ربَّى ورقَّى وعلَّما
تلاميذه عدُّ الحصى وتراهم
بدورًا بآفاق البلاد وأنجما
أفاض على الأرجاء عيلم علمه
فعجَّ ومن للبحر كفوٌ إذا طمى
وبثَّ لسان العُرْب خمسين حجة
يقوِّم منآدًا ويوضح مُبهما
وسل سيوفًا من قِراب دماغه
ففلَّ بها للَّحن جيشًا عرمرما
ومن يبتذل في خدمة العلم نفسه
فأجدر بأن يغدو عزيزًا مكرَّما
رقى من ذرى التحقيق في النحو ذروة
يقصِّر عنها من مضى وتقدَّما
فلو كان لاقى سيبويه ورهطه
لعاد لعمري سيبويه ابن أعجما
ولم يك ذيَّاك الكتاب مرجَّبا
ورائحة التفاح لم تكُ مغنما
ولو كان في العصر القديم مجيئه
لفتَّ بعين الجاحظ العينِ حصرما
وأصبح معه الفارسي وابن فارس
وقد برئت تلك الفراسة منهما
لباتت بأحشاء المبرِّد غلة
وكاد ابن جنِّيٍّ يُجن تألُّما
وصار ابن عصفورٍ مَهيضًا جناحُه
ولو كان قبل اليوم طار إلى السما
ولو ناظروه في الفرائد مرةً
رأوا من علاه ما يفوق التوهُّما
وأصبح معه المجد قد قلَّ مجده
وآب صحاح الجوهريِّ مُثلَّما
ولو كان جارُ الله جاراهُ بذَّه
وما افتخرت منه زمخشر بانتِما٣١
لقد سَعِدت منه العروبة بالذي
تولَّه فيها مستهامًا متيَّما
وثارت له في نصر أمة يَعْرُبٍ
عزائم شوقٍ خالط اللحم والدما
قضى عمره سيفًا يقدُّ عداتها
فيرمي بهم شلوًا فشلوًا مُقسَّما
يبلِّج من أنوارها كل ساطع
وقد ينكر الأنوار من رُزق العمى
ويكشف عن أسرارها كل غامضٍ
عليه حجاب الجهل كان مُخيما
فما عنَّ في يومٍ شعوبيُّ فرقة
لمنقصةٍ إلا وخلَّاه مُلجما
وما لاح قرن القرن إلا انبرى له
برمي الذي يُصمي لعمري إذا رمى
فلو شاءت الفصحى وفاءَ جهادِه
لنصَّت له فوق السماكين مجثما
فَمَنْ للأُلَى مثلي ارتوَوْا من مَعِينه
بأن ينقعوا من ذكر معروفه الظما
عرفنا له فضلًا علينا ومنَّة
ولم يكُ ما نرعاه عهدًا مذمما
وما أنا إلا مَن تلقَّى بضاعة
فنمَّق منها جهد مُعيٍ ونمنما
وما الفضل إلا للقساميِّ٣٢ عندما
يراني الورى دبَّجت بردًا مسهَّما
وما هو إلا بعض مرجوع صوته
وتقليد ما قد كان جاد وأنعما
حنانيك أستاذ الأساتيذ إننا
جميعًا نحيِّي فيك من شرَّف الحمى
ولو أنصفتك العُرْب لم يبقَ مُعرب
على سطحها إلا أتاك مسلِّما
ولو كان لبنان يوفِّيك شكره
لأوشك فيه الصخر أن يتكلما
تقبَّلْ ثناءً لو غدا رمل عالج
بكثرته لم نُوفِ حقًّا مُحتما
وقابل بغضِّ الطرف ميسور وامقٍ
قصارى مُناه أن تعيش وتسلما

قصيدة حفلة عبد الحميد بك الرافعي

واحتفل أدباء الشام بعيد الخمسين سنة للشاعر الكبير المرحوم السيد عبد الحميد الرافعي في طرابلس الشام، فاقترحوا عليَّ إرسال شيء، وكنت في برلين، وذلك سنة ١٩٢٩ مسيحية، فبعثت إلى طرابلس بهذه الأبيات، وتُليت في الحفل ونُشرت في جريدة الشورى:

إياك في الشرق أن تعدو طرابلسا
إن كنت تبغي كرام الإنس والأُنسا
وحُجَّ منها لقصَّاد الهدى حرمًا
أمنًا وجاور لأرباب النهى قدسا
مدينة جادها الباري برحمته
من الخصائص ما عن غيرها حبسا
لم يكفِها بحرها العجَّاج بل جمعت
من أهلها أبحرًا في شطه جُلُسا
أكارمٌ بهمُ باتت طرابلس
مصرًا يقصِّر عنها كل ما يبسا
ناهيك بالرافعيِّين الذين لهم
من المآثر ما يستنطق الخرسا
الرافعين من الأعلام أرفعها
والخافضين من الأعداء ما رأسا
لقد رعوا تَلَعات المجد أجمعها
وجددوا من دروس العلم ما دَرسا
وآثروا من أيادي الفضل ما قربت
ثماره ومن العلياء ما قَعَسا
ساروا على أثر الفاروق جدِّهمُ
ولن يضلَّ الذي من نوره اقتبسا
مثل السيوف المواضي في ضرائبها
صفًّا أُقيمت لشرع المصطفى حرسا
وكلُّ ذي أدب يبغي الكمال فمِن
عبد الحميد يروم الإذن مُلتمسا
الشاعر الفذُّ لو جاءت قريحته
تُعارض العارض الهطَّال ما انبجسا
تغدو عذارى المعاني قيدَ خاطره
وطالما امتنعت عن غيره شُمُسا
من مَعدِنٍ كله صافٍ ولا عجب
من تلكم النفس نلقى ذلك النَّفسا
إني أقول وخير القول مجملُهُ
لو جاء في عصره الكنديُّ ما نبسا
هذي طرابلس الفيحاء حافلة
تختال في حُلل من عيده وكُسا
عيد لخمسين حولًا قد تنجَّزها
في خدمة اللغة الفصحى صباحَ مسا
وقد أبت غربتي أني أرى وطني
وأن أشاهد فيه ذلك العُرسا
١  يشير إلى معنى أرسلان وهو الأسد، وهي لفظة صار يسمي بها العرب مثل العجم.
٢  أي عانى الشعر تأدبًا لا تكسُّبًا.
٣  الصبابة بالفتح الشوق، وبالضم البقية من الماء.
٤  الأمر بالفتح الشأن، وبالكسر المنكر، والهجر بالفتح مصدر هجر، وبالضم القبيح من الكلام.
٥  يقال «أورد إبله العراك»: أوردها جميعًا.
٦  في دمشق عادة هي خروج الناس إلى المرجة للنزهة عصر السبت.
٧  جوبر قرية من قرى الغوطة لخليل بك، فيها بساتين كان يدعونا للنزهة فيها، وفي جوبر كنيس لليهود قديم جدًّا.
٨  الحاج أديب، خيِّر من إخواننا.
٩  العرِّيس والعرِّيسة: مأوى الأسد.
١٠  النِّجار بالكسر الحسب، أشير إلى أن والدة خليل بك من آل حمزة السادة المشهورين.
١١  قرية في الغوطة للكرد علي بها ملك.
١٢  خفاه مثل أخفاه.
١٣  أسماء قرى.
١٤  قرية أيضًا كان منها عبد الوهاب الإنكليزي — رحمه الله — وكان متهمًا بمناوأة الحكومة.
١٥  عرب الصفا مشهورون بالنهب.
١٦  زاوية البراعصة المُسَمَّاة بالبيضاء، وفيها وُلد السيد المهدي، وبقربها مقام سيدي رويفع الأنصاري.
١٧  القرو: واحة في الصحراء، ومثلها الكفرة، ومثلها الجغبوب، وقد عمرها كلها السادة السنوسية.
١٨  القعدد: الجبان.
١٩  اختُلف في جواز القَسَم بغير الله تعالى، ونقل بعضهم عن ابن عباس جوازه، وأنه استشهد على ذلك بقوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ في سورة الحجر.
٢٠  ابن سريج ومعبد: مغنيان مشهوران ترجمهما صاحب الأغاني.
٢١  أي محمود باشا سامي البارودي الذي قرَّظ حافظًا في تلك الحفلة.
٢٢  مَن شاء يفهم أن حافظًا هو أمير الشعراء بعد المتنبي، وَمَنْ شاء يفهم أنه ثانٍ لشوقي.
٢٣  يقال: أصاب شاكلة الرمية؛ أي خاصرتها.
٢٤  كررت هذا المعنى في رثائه — رحمه الله:
بعثت به روح الحياة كأنها
هي صُور إسرافيل في زعقانه
٢٥  أحمد بن الحسين المتنبي.
٢٦  العهاد أول مطر الوسميِّ.
٢٧  إشارة إلى القبيلة التي ننتمي إليها، وهي لخم وآل ماء السماء، ومزَّ الماء: رشفه.
٢٨  ما يحتبي به المرء من عمامة أو ثوب.
٢٩  بذَّه (بالذال): غلبه، وبزه (بالزاي): سلبه.
٣٠  كانت وفاة الأستاذ عبد الله البستاني شيخنا منذ بضع سنوات، وقبل وفاته بيومين سأله الأديب الشيخ خليل تقي الدين بعض أسئلة منها قوله له: أيُّ تلاميذك أحب إليك؟ فأجابه: أحب تلاميذي إليَّ الأمير شكيب أرسلان. ثم ذكر أشياء لا حاجة إلى نقلها هنا، وإنما ننقل قوله: وهو لم ينسَني مع طول الغربة، وأرسل تلك القصيدة التي أرسلها بمناسبة عيد الخمسين سنة لخدمتي اللغة العربية.
٣١  أي: وما افتخرت بلدة زمخشر بانتمائه إليها. مصححه.
٣٢  الذي يطوي الثياب الطيَّة الأولى فتنكسر على طيِّه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤