الفصل السادس عشر

ماذا كان يمكن أن أفعل؟ كيف كان يمكنني أن أصل إليه؟ إنه لا يراني إلا إذا اطمأن أنني لست وحدي. أصبح كل جهده ألا ينفرد بي بعد أن كان كل جهده أن ينفرد بي. أعلم أن فقره وغناي حائل بيني وبينه، ولكنه حائل يقيمه هو، أبي يريد هذا الزواج وتريده أمي، فهما يعلمان ما بيننا، ويعلمان أن كل من يعرفني ويعرفه كان يتوقع خطبتنا من يوم إلى آخر، وكانا سعيدين بذلك. واليوم لا يزال أبي يريد هذا الزواج ويرى فيه الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من عون أسرته دون أن يجرح كبرياءها أو كبرياءه، وأمي — كعادتها — لا رأي عندها إلا رأي أبي، فلماذا لا يتقدم هو؟ أعلم أنه متكبر، ولكن ألا يكفي حبنا القديم الذي لا يزال جديدًا؟ ألا يكفي هذا اعتذارًا لكبريائه؟!

لقد أرسلت إليه الخطاب ولم يجب، ولكن لا بد أن يأتي، ألا يقدر أنني أنا أيضًا قد تنازلت عن كبريائي وقبلت أن أكتب إليه؟ ألا يكفيه هذا؟ لشد ما أخشى أن يرى في خطابي شفقةً لا حُبًّا، بل لا، إنه يدري كم أحبه، كيف يدري؟! أكنت كاشفته؟ نعم، كاشفته، أكان لا بد أن أقول؟ ألم يَر إلى عيني؟ إلى وجهي؟ ألم يرَ؟ أكان محتاجًا للحديث حتى يدري حبي؟ إن لم يكن قد أدرك كم أحبه فهو لا يحبني، وأنا لا أريده، بل لا، إني أريده، إنه كل شيء لي، كل شيء، أحلامي وآمالي وزوجي وبيتي. بربك يا خيري، بحبنا، بأيامنا الطفلة اللاهية، وبكل ما كان بيننا من لقاء نشوان، وهوًى عاصف مستور، بكل ابتسامة مني استقبلتها ابتسامة منك، وبكل فرحة بلقائك التقت بفرحتك، لا تخذلني، لا تدعني لأيام أجهل شريكي فيها، لا تدعني لوحدة لن تزول عني، ألا تفكر إلا في كبريائك؟ ألا تذكر مصيري أنا؟ ألا تضحي بالكبرياء لتنقذني أنا من أيام أجهل فيها المصير، فأنا ضائعة ملقاة في دوامة من عصف الحياة بي لا أرى فيها مستقرًّا أو ملاذًا. خيري، أكبرياؤك أحب إليك من حياتي؟ أهيِّنة أنا عليك؟ إنها أنا بكل ما مضى من أيامي في ظلال حبك، وبكل ما بقي لي من حياة، أتاركي وحدي لترضي هواجس نفسك من مُثُل وكبرياء وإباء؟

ما إخالك ألا تفكر في نفسك فقط، ألا تفكر فيَّ أنا؟ أتنظر إلى حقك ولا تنظر إلى حقي؟ إن توهمت أن واجبك نحو نفسك هو أن تأبى الزواج بي، فواجبك نحوي أنا أن تقبل هذا الزواج. فليكن زواجك بي تضحية بكبريائك في سبيل حياتي أنا، أهيِّنة حياتي؟ ألا تعدل هذا الثمن الذي تبذله مهما يكن باهظًا؟ لو كنت مكانك ما ترددت، لو كنت إياك في موقفك وكنت أنت في موقفي لتقدمت. إنها أنانية منك تلك التي تملي عليك موقفك هذا، فاترك أنانيتك هذه من أجلي أنا، ومن أنا؟! ألست أنا أنت؟ خيري ألا تجيء؟ من ينقل إليك هذا الكلام إن لم أقله أنا؟ من يُذكِّرك بحقي عليك إن لم أذكِّرك أنا به؟ لا بد أن تأتي، لا بد أن تأتي حتى أجعل عقلك يفكر بعقلي، فإني أدري أنك الآن لا تفكر إلا بكبريائك أنت، ولا تذكر غير كرامتك أنت، فاذكر حياتي. أتذكر حياتي؟!

كانت وفية تحترق في هذا اللهيب من الذكريات والآمال، وهي ماكثة بجانب شباك السلاملك ترقب الطريق تأمل أن تراه، وكانت لا تني تنظر إلى ساعتها وقد جاوزت السابعة، تحطم كل دقيقة تمر بعضًا من آمالها، وبعضًا من كبريائها، أهي التي تنتظر؟ وهي التي تسعى إلى اللقاء؟ وهي التي ترسل الخطاب؟ فالكارثة التي أصابتها إذن أصابتها هي أول ما أصابت، في كبريائها، في آمالها، في حياتها جميعًا.

وفي نظرة إلى الطريق رأته قادمًا، إذن فقد جاء، فأعطني يا رب القوة أن أقول ما أريد أن أقول، يا رب.

واقترب خيري من الباب الرئيسي للبيت، وقصدت وفية إلى باب السلاملك ففتحت لعينها ضلفة ترى إلى الطريق ولا يراها من بالطريق. واجتاز خيري الباب الكبير، ولكن ماذا حدث؟ إنه لم يمل إلى سلم السلاملك، وإنما جاوزه قاصدًا إلى البيت نفسه، لم يستطع أن يمنع عينيه أن تلقيا بنظرة إلى السلاملك، فهو إذن يعلم أنها وفية، ولكنه مع ذلك لا يلقي إلا هذه النظرة القلقة ولا يزيد، ثم يعدوها إلى البيت. لم يأت لي إذن. أقفلت وفية الباب وعادت إلى مكانها وأسلمت نفسها إلى بكاء يتفجر من أعماق نفسها.

•••

دلف خيري إلى حجرة المكتب في بيت عمه عزت، فوجده جالسًا بها ينتظر مقدمه. وما إن رآه حتى قام إليه يحييه في ترحيب، وما لبث أن قال: أكنت مشغولًا اليوم؟

– والله كنت على موعد مع أحد أصدقائي.

– أرجو ألا أكون عطلتك عن شيء هام.

– أنا تحت أمرك دائمًا يا عمي.

– والله يا بني أنا أريدك اليوم في موضوع هام، وإني آسف أن الظروف اقتضت أن أكلمك أنا فيه.

– تحت أمرك يا عمي.

– لعلك لا تعرف أن المرحوم والدك كان قد خطب مني وفية لك ووافقت، واتفقنا ألا نخبر أحدًا بذلك حتى تتم تعليمك.

– ماذا؟

– إنه لم يخبر حتى والدتك، وأنا لم أخبر إجلال إلا اليوم.

– حتى والدتي؟

– نعم، قدرنا أن الأمهات لا يسكتن، وتوقعنا أن أمك قد تخبرك على سبيل التشجيع لك على المذاكرة أو تعجز عن كبت عواطفها، المهم أن أحدًا لم يعرف بهذه الخطبة إلا أنا وهو.

– والله يا عمي …

– لم أكن أنوي أن أفاتحك الآن، كنت أريد أن أنتظر حتى تتم تعليمك، فقد علمت أنك تذاكر مع أحد أصدقائك.

– نعم.

– ولكنني مضطر أن أطلب إليك إعلان الخطبة.

وارتج على خيري فلم يجب، وواصل عزت بك الحديث: تقدم لخطبة وفية جميل نظمي ابن نظمي باشا السيد. ووالده من أقرب أصدقائي، ولا أستطيع رفض خطبته إلا بإعلان خطبتك أنت، أمَّا الزواج فليتم على مهل.

وأطرق خيري طويلًا وران الصمت على الحجرة، ورأى عزت دمعات تسيل من عينَي خيري فظل رانيًا إليه ينتظر جوابه. وأخرج خيري منديله يذود عبراته، ثم رفع إلى عزت وجهًا شاحبًا تصلبت نأماته في عزم كعزم المقدم على الانتحار، وبلسان واثق ينطلق عن نفس تحترق من الألم قال خيري: أشكرك يا عمي.

– علامَ تشكرني؟

– أنت طبعًا تعرف من هي وفية بالنسبة لي. ولا شك أن أبي كان يعرف هذا يوم خطبها، كان يعرف أنه يحقق بخطبته أملي الأكبر في الحياة، ولكني اليوم لا أستطيع، لا أستطيع مطلقًا، ولن أنسى لك هذا الموقف مني.

وأطرق عزت طويلًا ثم قال: يا بني لا أستطيع أن ألح عليك في هذا. ولكني أستطيع أن أقول، وأقسم برحمة أبيك، إن رغبتي في زواجك من ابنتي لا يشوبها شفقة عليك، وإنما هو أمر أهفو إليه كما كنت أهفو إليه يوم خطبها والدك. وأنا أعرف كل ما يدور بنفسك، وأستطيع أن أنتظر بعض الوقت حتى تفكر وتجيبني، فلعلني اليوم أدهشتك.

– أفكر؟ أنا لا أفكر إلا في هذا يا عمي منذ وقت طويل، كم كنت أتمنى أن أجد في نفسي الشجاعة على التقدم إليها، والله وحده يعلم كم أشقى بعجزي، ضميري لم يقبل، فكرت كثيرًا يا عمي، أبقاك الله لنا دائمًا، فأنت أعظم إنسان عرفته، السلام عليكم.

وقبل أن يسمع شيئًا اندفع إلى باب الحجرة والدموع تتواكب على عينَيه، يكتم نشيجه ويحبسه ويسارع الخطى حتى ليكاد يجري. والتقى به محسن وحاول أن يستوقفه، ولكنه مال عنه إلى الباب في اندفاعة يائسة مجنونة مريرة، وعبر السلاملك ملقيًا إليه نظره دون أن يحس، ثم نفذ كالسهم من الباب وراح يدفع خطاه كأنه العاصفة التي تدور في نفسه. حتى إذا ابتعد عن البيت أطلق الدموع والنشيج وراح يسير في الطرقات بلا هدف ولا غاية، إلا ظلامًا يستر عليه دموعه الوالهة الحارقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤