الفصل الرابع والعشرون

دامت الصلة بين يسري ودولت، ولكنه أنبأها في آخر لقاء بينهما أنه سينقطع عنها بعض الوقت لأن امتحان البكالوريوس أصبح على الأبواب.

وانقطع يسري للمذاكرة فعلًا، وكانت مذاكرته في بيت صديق له هو عبد الوهاب النجدي، وكان يشاركهما في المذاكرة صبحي الملواني ويحيى المهدي. وكانوا جميعهم جادين في مذاكرتهم، وألحت عليهم الدروس وألحوا عليها وأصابهم هذا الدوار الذي يعرفه أبناء المدارس. حتى كانت ليلة انتبه يحيى إلى رفاقه الثلاثة، كان يشرح لهم، فوجدهم لا يعون من قوله شيئًا، فأقفل الكتاب ونظر إليهم قائلًا: أولاد.

فطالعته منهم همهمة تشبه الإجابة، فقال: أنتم لا تفهمون شيئًا مما أقول.

فقال يسري: اشرح أنت ولا شأن لك.

– لا شأن لي؟ كيف؟ أهو تعب قلب والسلام؟!

فقال صبحي: لا يا يسري! يحيى محق، مخنا مقفل.

وقال عبد الوهاب: ما رأيكم؟ نترك المذاكرة الليلة.

فقال يسري: وماذا نفعل؟

وقال يحيى: نذهب إلى السينما.

وسارع صبحي قائلًا: أي سينما، هل جننت؟

وقال يحيى: مسرح.

فقال صبحي ساخرًا في مرارة: يا بني اكبر، سينما، مسرح، هل نحن عيال؟

وقال يحيى: ألا يذهب إلى السينما والمسرح إلا العيال؟ طيب وماذا تريدون أن تفعلوا؟

قال عبد الوهاب: البار، بار سبيت فاير، عجيب يا بني، كأس الويسكي …

فقاطعه يحيى: أنا لا أشرب.

قال عبد الوهاب: لا وعيت تشرب. انظر، ألا تنظر أيضًا؟

فقال يحيى في بلاهة: وماذا أنظر؟

فأغرق الجميع في الضحك إلا يسري الذي ارتسمت على وجهه معالم دهشة كبيرة وقال: أتريد أن تفهمني أنك لم تذهب إلى بار في حياتك؟

وقال يحيى وعلائم البلاهة ما زالت بادية عليه: لا، لم أذهب.

وضحك يسري وأغرق في الضحك: لا، معذور تكون أول الدفعة. أبدًا؟

فقال يحيى: أبدًا، ألا بد أن نذهب إلى البار؟ أذهب أحدكم إلى الجامع في حياته؟

فقال يسري: ماذا؟ أنويت تخطب خطبة وعظ أيضًا؟

فقال يحيى: لا، ولكن هناك أمكنة لم تذهبوا أنتم إليها أبدًا وذهبت أنا إليها، وأمكنة لم أذهب أنا إليها …

فقال يسري مقاطعًا: نعم، وذهبنا نحن إليها، عظيم، اسمع، البار فيه نسوان تفتن العابد، وشراب يا حبيبي وعدك الله به في الجنة، ونحن نجده في الدنيا من غير جنة أو تعب جنة. تجيء معنا أم تنتظر أنت دورك مع الحور العين وشراب الكوثر؟

فقال يحيى في حزم: لا، أفضِّل أن أنتظر دوري.

فقال صبحي: يا بني، بار سبيت فاير أقرب.

وقال عبد الوهاب: وأسرع، وهو أيضًا مؤكد.

فقال يحيى في لهجة تكاد تكون غاضبة: أتكفر بالله؟ الجنة أيضًا مؤكدة.

فقال يسري: وهل قلنا إنها غير مؤكدة، كل ما في الأمر أننا شباب ونأخذ حظنا من الدنيا، ومسألة الجنة هذه نؤجلها إلى حين لا نستطيع المتعة، أؤكد لك يا يحيى أنني في سن الخمسين، لا، الستين، سأصلي وأمتنع عن شرب المسكر وأصوم وأعجبك، وسأقابلك بعد ذلك على أبواب الجنة عند عمك رضوان، يا عيني عليك يا يحيى ستحزن يوم ذلك حزنًا عظيمًا، حرمت نفسك ومتعت نفسك، ثم التقينا على أبواب الجنة، يا عيني يا ابني.

فقال يحيى: كلام فارغ، لكل جزاؤه.

وقال عبد الوهاب بين ضحك رفاقه: اسمع يا عم، نحن ذاهبون إلى النار، أقصد إلى الجنة التي في الأرض، أتجيء معنا أم تذهب أنت إلى السينما؟

– لا، سأذهب أنا إلى السينما، واذهبوا حيث شئتم.

فقال يسري: اسمع، قبل أن تذهب، أعندك خادمة في البيت؟

وأدرك يحيى ما يرمي إليه السؤال، فقال: وما شأنك أنت؟

فقال يسري: لا شأن لي، وإنما أسأل فقط.

فقال يحيى: يظهر أنك سكرت قبل البار؟!

فقال يسري: لا والله، أنا مفيق جدًّا، المهم، متى تحضر غدًا؟

فقال يحيى: في موعدي، وأرجو أن أجدكم قد أفقتم من سهرة الليلة.

فقال عبد الوهاب: لا يا أخي، لا تخشَ شيئًا، نحن نشرب المحيط ولا يهمنا.

فقال يحيى: محيط يبلعكم جميعًا، سلام عليكم.

فقال عبد الوهاب في جد ساخر: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وقد تقطعت تحيته بالضحكات العالية أو المكبوتة، وخرج يحيى وتركهم يتهيئون لسهرتهم، وقد طمأنهم عبد الوهاب أنه سيدفع عنهم النفقات جميعًا.

أصر يسري على أن يمر ببيته ليلبس حلته الأخرى، ولم يستطع رفاقه أن يخالفوه. وحين سأله أخوه عما دعاه إلى ارتداء حلته النظيفة أنبأه في عجلة أنهم تعبوا من المذاكرة ويريدون أن يذهبوا إلى السينما. ولم يشأ خيري أن يسأله أي سينما. ولم يشأ أن يقول له إنه يريد أن يرافقهم مع أنه كان ينتوي أن يذهب إلى السينما هو الآخر، لم يشأ أن يقول شيئًا، فقد كان يدرك أن وجوده معهم لا يروقهم، كما كان يدرك تمام الإدراك أن أخاه في أغلب الأمر يكذب وأن السينما لن تكون مقصده. أدرك هذا فسكت. ولم يدرك يسري أن أخاه عرف كذبته، وإنما هو يلقيها واثقًا أن أخاه سيصدقها، فهو واثق من ذكاء نفسه، واثق أنه قادر على أن يجعل أخاه يصدق ما شاء له أن يصدق، وانفتل يسري إلى صديقيه اللذين كانا ينتظرانه أسفل البيت، وما هي إلا بعض دقيقة حتى كانوا يأخذون سمتهم سعيًا على أقدامهم من المنيرة إلى بار سبيت فاير بميدان الأوبرا.

سار الرفاق، ووجدهم يسري يتابعون حديثًا بدأوه حين كان هو يرتدي ملابسه، قال صبحي: ألم تقل لأبيك إنك لا تريدها؟

فقال يسري: ماذا؟ هل جد جديد في أمر زواجك يا عبد الوهاب؟

– لا، لا جديد، إلا أنني اقتربت منه.

فقال يسري: ولكني أراك في هذه الأيام غير غاضب كما كان شأنك يوم فُرض عليك هذا الزواج.

فقال صبحي: والله إن أردت الحق يا أبا عبده، أنا أيضًا أراك في هذه الأيام أقرب إلى الانبساط.

فقال عبد الوهاب: والله إنكما خبيثان.

فقال يسري في لهجة الفاهم: قل الحق يا أبا عبده.

فقال عبد الوهاب: والله أنا وجدت المسألة معقولة إلى حد كبير.

فقال صبحي: أهكذا؟!

فقال عبد الوهاب: البنت عندها مائتا فدان وحدها، سترثها من أبيها الذي أصبح رجلًا في الدنيا وأخرى في جنة عمك يحيى!

فقال صبحي: معقول يا ابني، الغني يحب الغني.

فقال عبد الوهاب: الزواج شيء لا بد منه على كل حال، ومسألة الجمال هذه ليست مهمة، الجمال موجود في سبيت فاير وغيره من البارات، أمَّا المائتا فدان فمسألة صعب وجودها.

فقال صبحي: رحم الله عمك أوسكار وايلد، كان يقول: إذا أُطفئت الأنوار تساوت النساء.

فقال عبد الوهاب مسترسلًا: فعلًا، هي زوجة على أية حال للبيت والأولاد، وأمَّا عن جمالها فأستطيع بمالها أن أجعل ألف جميلة تعوضني عن قبحها خير عوض.

فقال صبحي: والله وأصبحت فيلسوفًا يا ابن الكلب.

فقال يسري في نوبة تفكير: والله كلامه معقول يا صبحي.

فقال صبحي: وهل قلت غير ذلك؟

وقال عبد الوهاب: ثم إن أبي سيرضى عن هذا الزواج لأنه وقع باختياره و…

وقاطعه يسري: وهل هذا المنطق الذي تسوقه منطق أبيك؟

فقال عبد الوهاب: لا أبدًا، إنما البنت بنت أخيه، وهو معجب بأدبها وخلقها، ومسألة الجمال لا تهمه.

فقال يسري: وما الجمال؟ وما العيب أن تكون زوجتك غنية وغير جميلة؟ ما أكثر الجميلات اللواتي سيكن زوجاتك بأموالها. الفلوس يا حبيبي، الفلوس هي كل شيء، إذا كان معك فلوس فمعك الجمال الذي تريد والمجد والعز والأبهة، والله فلسفتك عميقة يا عبد الوهاب، تزوج يا بني على بركة الله.

وقال صبحي: العقبى لك يا يسري.

فقال يسري: ومن أين آتي بفرصة كفرصة سي عبده؟ إنه غني ويستطيع أن يتزوج الغنية.

وقال صبحي: فرصتك أنت أكبر، أقاربك جميعهم أغنياء، ما عليك إلا أن تضع يدك في وسطهم تخرج بواحدة غنية، وما دمت ترى أن الجمال لا أهمية له فالمسألة أصبحت غاية في السهولة.

وصمت يسري وفكر وأطال التفكير، وانشغل الصاحبان، وران عليهم صمت زاده عمقًا الظلام المخيم على القاهرة، فالنور يخرج إلى الشارع متخفيًّا في حذر، تذوده ألوان زرقاء قاتمة طلي بها زجاج النوافذ والسيارات تمضي واهنة تتحسس طريقها بالعلم لا بالرؤية، فمصابيحها هي أيضًا زرقاء داكنة تكاد لا تفيد شيئًا إلا أن تنبه المارة أنها تمر. وكان الرفاق قد بلغوا ميدان الأوبرا وليس من دليل أنهم بلغوا إلا أنهم يعرفون أنه هو، فهو هادئ ساكن، شأنه شأن ضاحية في طرف من المدينة قصي، فلا لم يكن ميدان الأوبرا — قلب القاهرة النابض — نابضًا في هذه الأيام، إنما هو متسع من الأرض يرين عليه ما يرين على العالم والنفوس من إظلام، وصمت مقبض، وخوف راعد، وجهل للمستقبل، وضيق بالحاضر، وشوق إلى الماضي.

كان بار سبيت فاير شأنه شأن الميدان أجمعه، فهو من الخارج صامت كالح، ينبعث منه بصيص من الضوء يتلصص طريقه إلى الخارج، ولكن ما إن دلف إليه الرفاق الثلاثة حتى وجدوا الحياة تمور في داخله عربيدة تنتقم من الصمت في الخارج، ووجدوا الضياء باهرًا ينتقم من الظلام في العالم، والعقول غائبة والأجسام حاضرة تثبت وجودها في إصرار، في كل نأمة منها، في كل إشارة يشير بها جندي من الجنود المحاربين أو تشير بها فتاة من فتيات البار. أجسام بلا عقول، وضحك بلا تفكير، وحديث بلا منطق إلا الرغبة، حديث أجسام تهتبل من إجازة الساعات فرصة لا يدري أصحابها إن كانت تعود أو لا تعود، أو متى تعود إن هي عادت؟ هم الجنود العائدون من القتل أذاقوه عدوهم ونجوا منه بأعاجيب، ولم تكن عودتهم لأهلهم وذويهم، بل إنهم يجهلون من أمر هؤلاء كل أمرهم، فمن زوج ترك زوجته الشابة، ومن ابن ترك أمه العجوز، لا يدري الزوج كيف تحيا زوجته، ولا يدري الابن أتحيا أمه أم هي فارقت الحياة. عادوا يريدون أن ينسوا الموت جميعه، سواء منه ما جرعوه لعدوهم أو ما تعرضوا هم له وأفلتوا لا يدرون كيف، ويرعبهم أنهم يعلمون أنهم ملاقوه ثانيةً وثالثةً وعشرًا. ثم يعجز تفكيرهم، كيف يفلتون من الموت القادم؟ كيف؟ إنهم يريدون أن يحجبوا تفكيرهم عن هذا الطريق، ويريدون أن ينسوا أوطانهم وما فيها، فينكبوا على الخمر، يريدون أن يسكروا ويريدون النساء اللواتي تُعرض عليهم، ولا يهمهم في غمرة خوفهم من الماضي والمستقبل أنهم في أرض غير أرضهم، وبين قوم غير قومهم، فقد أصبحوا يرون كل مكان ينزلون فيه مكانهم هم أصحابه بقوتهم وبسلاحهم، وبالحق الذي يفرضونه لأنفسهم على غير المحاربين.

دخل الرفاق الثلاثة البار، ووقفوا بجانب الباب بعض الحين ينفضون المكان بأعينهم، متنقلين في دهشة وبعض خوف بين النساء واحدة بعد الأخرى، فإذا هن جميعًا مشغولات عنهم. فراحوا ينقلون أبصارهم مرة أخرى بين المناضد عساهم يجدون واحدة خالية، حتى إذا يئسوا من هذه أيضًا تقدمهم يسري في تؤدة وأدب جم إلى البار، واعتلى كرسيًّا ووقف صاحباه إلى جانبه، وقال عبد الوهاب: ثلاثة ويسكي.

وجاءهم الشراب، فراحوا يشربون وهم سكوت مفكرين خائفين، الصخب من حولهم منصب في قلوبهم رعبًا.

وكان إلى جانب يسري من الناحية الأخرى جندي طويل القامة عريض المنكبَين، له ذراعان مفتولتان، كل عرق فيهما يمور بالقوة العارمة، وكان أحمر الوجه احمرارًا صارخًا، لا عن خجل وإنما عن طبيعة زادتها الخمر وضوحًا، فهو كالذبيحة بين يدي الجزار يكاد رائيه يظن أن الدماء لن تلبث أن تنبجس من خديه في عنف وانهمار. وكان الجندي يلف ذراعًا له حول خصر فتاة لا تكاد تتماسك بين ذراعيه، حتى لخُيِّلَ ليسري أنها تسيل وتسيل وتوشك أن تصبح مادة بلا قوام، تحتاج إلى وعاء يقيم من أودها أو يبقي على مادتها، وكانت ذراع الجندي الأخرى على البار تمسك بكأس ترفعها بين الحين والحين إلى فمه أو إلى فم فتاته، ولعله كان يُخيَّلُ إليه من شدة السكر أنه يسقيها وهو يسقي نفسه، أو يُخيَّلُ إليه أنه يسقي نفسه بينما هو يسقيها.

وظل الرفاق الثلاثة يشربون، وظل يسري ينظر إلى هذه الفتنة التي تُرتكب بجانبه شاردًا يفكر فيها حينًا ويفكر في حديث صبحي حينًا آخر، أو يفكر في دولت حينًا ثالثًا، أو تختلط الأفكار جميعًا في رأسه امتزجت بحميا الخمر فهو في بحران.

مضى حين من الوقت لم يشعر البار بمضيه، وغمز صبحي ذراع يسري وأشار بذقنه إلى فتاة مالت على صدر جندي راح يعبث في جسمها ويقبلها في نهم. وأطال يسري النظر إلى الفتاة والجندي. ثم التفت فجأة إلى جواره يريد أن يرى أثر هذه المغازلة الصريحة على الأسترالي وصديقته، ولكنه وجد الأسترالي قد انصرف والفتاة تقف وحدها إلى البار. فظل ناظرًا إليها، وتنبهت هي إلى نظرته فابتسمت له وابتسم، فدعاها إلى كأس فأجابت وإلى أخرى فقبلت. وأوشك أن يدعوها إلى الخروج لولا أن عاد الأسترالي، وكانت الفتاة قد تعتعتها الخمر كما تعتعت يسري، وكان الأسترالي كامل السكر غير محتاج إلى مزيد، وما هي إلا ثانية واحدة حتى كان يسري مقذوفًا يحطم الزجاج المطلي باللون الأزرق خارجًا هو والنور إلى الشارع، وقبل أن تمر الدقيقة التالية كان الصديقان يخترقان لوحين آخرين من الزجاج الأزرق غير مقذوفين إلا بالرعب المرفرف في قلبيهما، وما إن بلغت أقدامهما أرض الميدان حتى أطلقها الزمام للجري لا يلويان على صاحبهما.

أمسك يسري بأول قدم مرت به في مرقده خارج البار، وامتدت إليه يدان تحملانه كطفل، وسارع صاحب اليدين يترك المكان جميعه يتوخى الظلام الشديد، حتى إذا بلغ مكانًا مطمئنًّا تركته اليدان، وطالعه صوت لم يختلط عليه: يظهر أن الفيلم كان دراما عنيفة يا أستاذ يسري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤