الفصل السابع والعشرون

أصبح الصباح على يسري، وليس في ذهنه إلا خاطر واحد يشغل تفكيره، لا بد أن يذهب إلى بيت عزت باشا ليشكره، إذن فسأذهب ولا سبيل لي أن أنكص عن الذهاب، إذن فسأذهب دون أن أصل إلى غناه أو إلى غنى قريب من غناه، بل سأذهب لأقول شكرًا، لقد غمرني الرجل بفضله وعطفه، أذهب إذن لأدفع ضريبة الفقر والعجز، فلو كنت غنيًّا ما احتجت إلى وظيفة، ولو كنت ذا سلطان ما احتجت إلى سعيه. ولكنني بلا مال ولا سلطان فلا بد أن أشكر وإلا أصبحت جاحد فضل، وإن كانت هذه الصفة لا تغضبني إن هي اتصلت بي. ولكنني إن امتنعت عن الذهاب ضاربًا برأي أمي وأخي عرض الأفق، فإنني قد أغضب هذا الرجل ذا المال وذا السلطان، فيقف عني فضل رضاه، ولا أستطيع أن ألجأ إليه بعد ذلك إن احتاجت حياتي الجديدة في ظل الوظيفة أن ألجأ إليه. لا بد من الذهاب إذن، ذهابًا خاضعًا ذليلًا أترضى به وأشكر فضلًا سابقًا وأرجو به أفضالًا جديدةً، فهاتي أيتها الدنيا الحقيرة هاتي، هاتي مصائبك، ما كان أغناني عن الذهاب لو كنت غنيًّا، أكنت أحتاج إلى وساطة أو كنت أحتاج إلى تقديم الشكر أو كنت أحتاج إلى عون أحد؟ المال، المال وحده يستطيع أن يكون عوني ووساطتي وكل شيء لي. ولكن أين هو لعن الله قلته، فلأذهب إذن. أي انتصار لأخي خيري. إن ذهابي سيجعله يوقن أن آراءه الحالمة صائبة وقد يجعله يظن أنني أصبحت حالمًا عاطفيًّا مثله، سيحس النصر ولكنه سيسكت مصطنعًا نبل الكرام عند هزيمة أعدائهم، أعرف أنه لن يذكرني بهذا العهد الذي قطعته على نفسي ألا أذهب أو أصبح في غنى عزت. أعرف أنه لن يقول لي ساخرًا ما أقوله أنا لنفسي الآن: «أأصبحت غنيًّا؟!» لن يقول بلسانه ولكن سيفرح في نفسه أنه انتصر عليَّ، ما شأني بفرحته؟ إنها الحياة أمامي ولا بد أن أقتحمها بكل سلاح، وليفكر أخي بشأني ما شاء له التفكير. وليفرح بنصره ما حلا له الفرح، فأنا أنا لن يغيرني فضل عزت أو ظن أخي أنه انتصر.

كم يتوق أخي أن يسألني الآن في ابتسامته الحالمة: «أرأيت كيف تصل العواطف ما بين الناس؟ ورأيت كيف سعى لك عزت باشا دون أن ينتظر منك شكرًا أو يطمع في عوض عن جميله.»

الجواب عندي ولكني لو قلته له لصرخ في وجهي وثار بي ولعنتني أمي، الجواب عندي، أي عوض يطمح فيه عزت باشا أكثر من أن نظل نهارنا وليلنا نسبح بفضله وكرم أخلاقه ووفائه لصديقه المرحوم ولأسرته من بعده؟ أي عوض أعظم من أن نظل عمرنا أمامه صنيعة يديه وبعضًا من فضله وقطعة من كرمه؟ أي عوض يرجوه أكثر من أن يتشدق الناس من حوله وحولنا بما صنعه لنا وما قدمه إلينا؟ ذلتنا أمام كبره وضعفنا أمام فضله وانحناؤنا أمام عطفه عوض له أي عوض، المال عنده فما البأس به أن يجمع إلى المال ثناء الناس لعطفه علينا. لقد نال العوض وافيًا بل زائدًا، ولكن لا بد مع ذلك من الشكر غاية الشكر ومن الذلة غاية الذلة، ولا بد على كل حال من الذهاب.

كانت هذه الأفكار تدور في رأس يسري وهو يرتدي ملابسه، وما زالت به حتى ارتداها، وما إن همَّ بمغادرة الحجرة حتى دق جرس الباب الخارجي ودخل إليه محسن ابن عمه عزت باشا، مشرقًا كعهده مطمئنًّا فرحًا.

– صباح الخير يا أستاذ.

– أهلًا محسن، صباح الخير.

وأدار يسري عينيه في الحجرة خجلًا، ثم ما لبث أن قال: تعالَ إلى الصالون.

– أي صالون؟ وهل أنا غريب؟ أراك متأنقًا، إلى أين تذهب؟

– والله كنت أنوي زيارتكم لأشكر عمي الباشا.

– يا أخي عيب. أتظن أن عمك الباشا ينتظر شكرك؟ على كل حال لقد أرسلني لأدعوك اليوم للغداء معنا، وعندئذٍ أشكره ما طاب لك الشكر.

– الغداء!

– نعم، هل أنت على موعد؟

– أبدًا، فقط.

– فقط ماذا؟ هيا بنا الآن فقد أمرني أبي أن أترك عملي اليوم لأذهب معك إلى وزارة المالية وأقدمك إلى الوزير.

– الباشا هو الذي أمرك بهذا؟

– نعم، وأي غرابة في ذلك؟

– لا، لا غرابة، ولكن لم أظن أنه سيذكر هذا جميعه.

– هل أنت عبيط؟ ألا تعرف حبه لكم؟ هيا، هيا بنا.

عاد يسري ومحسن إلى بيت عزت باشا قبيل الغداء، وقبل أن يصعدا إلى الطابق الأعلى سمع محسن نفير سيارة أبيه، فانتظره هو ويسري في البهو، وأقبل عليهما عزت باشا وأشرق وجهه حين رأى يسري وسأله عما تم في وزارة المالية، فأنبأه أنه سيتسلم عمله بدءًا من الغد. وحاول أن يشكر عمه، ولكن الشكر توقف على شفتَيه مترددًا بين الانطلاق والجمود حتى غلبه الحياء آخر الأمر، فقالها شكرًا مستخذية غير مقتنعة ولا منطلقة، واكتفى الباشا بجملة عابرة: «يا أخي عيب.» ثم أخذ بذراع يسري وتقدم به إلى السلم يصعدانه معًا وقد تبعهما محسن. وما إن بلغا أعلى السلم حتى نادى عزت باشا: يا إجلال، إجلال.

وجاء صوت إجلال: نعم يا عزت.

– تعالي، تعالي رحبي بالبك.

وظهرت إجلال من باب إحدى الغرف وهي تقول: بالبك؟!

فقال الباشا: نعم البك الذي سيتسلم عمله غدًا في وزارة المالية.

وقالت إجلال هانم وقد رأت يسري: أهلًا، أنت محق يا عزت، إنه بك فعلًا.

وسيطر الخجل على يسري فلم يجد ما يقوله إلا حمرة علت وجهه وهمهمة تشبه الحديث وما هي بحديث، أو تشبه الشكر وما هي بشكر، إنما هي لعثمة تتحرك بها شفتاه ولا يبين عنها صوته.

كان يسري قد غاب عن البيت سنوات، ولولا أن عزت باشا كان يراه كلما زارهم هو في منزلهم لتبيُّن هذا الغياب. ولكن إجلال هانم كانت تبينت هذه القطيعة منه، ثم لم تجعل لها في نفسها شأنًا مقدرةً أنه شاب ذو أصدقاء قد يلهونه عن الزيارة كما تلهيه المذاكرة، دون أن يجنح بها الذهن إلى هذه الأفكار الثائرة التي تمور في ذهن يسري.

ودخلوا جميعهم إلى حجرة الجلوس اليومي، وما كاد الحديث يدور حتى أقبلت إلى الحجرة فايزة. إنها سنوات قلائل التي غابها يسري، أتستطيع هذه السنوات القلائل أن تفعل كل هذا؟ أصبحت ريانة العود، استوى نبتها واخضل، واكتملت أنوثتها وكادت تطغى، لولا هذه النظرة الحزينة ماثلة في عينَيها الزرقاوين وفي وجهها الهادئ المستسلم، لا تمنع عنه غشاوة الحزن تلك البسمة التي ارتسمت على وجهها حين رأت يسري، ابتسامة طفلة كانت تلقاه بها حين كان يجيء ليلاعبها، هناك في هذه الأيام التي لم يكن يفكر فيها في ثرائهم وفقره، هي نفسها تلك الابتسامة البريئة لا تعرف الشباب ولا الأنوثة، لا ولا هي تستشعر السنوات مررن فجعلن من الطفلة فتاة ومن الطفل ثائرًا. وخالط عينَيها بعض العجب، لقد أصبح الطفل العربيد الذي كان يضع ملابسه على نفسه لا يُعنى بموضعها أو مظهرها، والذي كان يصر على الطربوش أن يكون فوق رأسه ثم لا يحفل به مائلًا أو معتدلًا، منهارًا أو مستويًا، والذي كانت عيناه الغريرتان لا تومضان إلا إذا همست في ذهنه لعبة خطرة من لعب الطفولة تستهدف تسلقًا أو قفزًا، أو تستهدف معاكسة لخادم أو تقليدًا لمشية كبير من كبار البيت. أصبح هذا الطفل أنيق الملبس يختار رباط العنق ملائمًا للحلة، وأصبح بلا طربوش إنما هو شعر كثيف يغطي رأسه وقد جرى فيه المشط فهو مستوٍ مستقر المكان، وأصبح وهو ذو عينَين عميقتَين فيهما ذكاءٌ وفيهما وقارٌ وإن بدا مصطنعًا، وأصبح وهو ذو وجه بارحته آثار الطفولة فهو صلب محدد المعالم. ولكن الأيام لم تستطع أن تغير لون عينَيه السوداوين، ولا أن تغير تلك السمرة التي تشوب وجهه، ولا أن تغير شفتَيه الغليظتَين بعض الشيء، وإن كانت الأيام قد عدت على تلك البساطة التي كانت تتسم بها شفتاه فإذا هما اليوم شفتان فيهما عزم يؤيده ذلك البريق المصر الذي يشع من عينيه، عينَين تعرفان طريقهما وترودانه في تشبث، وإن يكن تشبُّثًا حائرًا قلقًا.

قالت فايزة بعد هنيهة: أهلًا يسري.

ووقف يسري وفي وجهه بعض دهشة: أهلًا فايزة.

ولم تسمع فايزة ما يقول وإن كانت فهمته، وقبل أن يعود الحديث إلى أفواههم أقبلت دولت تتبع فايزة، فقد تعوَّدت أن تلازمها وأن تكتب لها ما يراد لها أن تسمعه. ووقف يسري يسلم على دولت لم تختلج يده ولا يدها ولا طرفت عينه ولا عينها، وإنما هي تحية طبيعية لا تنم عما كان بينهما في اللقاء القريب. ودار الحديث بعد ذلك شتى مناحيه، ولاحظ يسري ما تقوم به دولت من عون لفايزة ولكنه لم يظهر أنه لاحظ، وما لبثت خاطرة أن هفت إلى ذهن يسري، ماذا لو تزوج فايزة؟! إنها صماء؟ وهذا هو طريقه الوحيد إلى الزواج بها، أفكان يقبله عزت باشا لو لم تكن صماء، وما البأس بالصمم؟ أيريدها مراقبة في الإذاعة أم يريدها زوجة، ويريدها غِنًى وعِزًّا؟! ماذا عليه لو تزوجها وعاش في هذا القصر وخلت حياته من الفقر وفرغ إلى الغنى والبلهنية؟ الوحيد الذي سيدرك الدوافع التي حدت به إلى هذا الزواج هو خيري، بل وقد تدركها أمه أيضًا، ولكن ماذا عليه إن أدركا؟ ومنذ متى أقام لرأيهما أو إدراكهما وزنًا؟ إنها حياته وإنها فرصته وما كان ليتركها. إن الأغنياء الذين ولدوا فقراء لم يصلوا إلى الغنى إلا بخطوة من هذه الخطوات الحاسمة في حياتهم، يقدمون على تجارة يظنها الناس بائرة فإذا هي رابحة، فما لي لا أتخذ هذه الخطوة في حياتي؟ إن أحدًا لم يطلب فايزة لأنها صماء، جهل من الخطاب وحمق، أتترك هذه الثروة جميعًا لأن العروس صماء، وكانت نظرته مثبتة على فايزة ودولت، فما لبثت دولت أن أوحت إليه بحجة أخرى، إنه سيتزوج كلتيهما، أمَّا فايزة فعلى سنة الله ورسوله؛ لأن الثروة لا يمكن أن تأتيه إلا على سنة الله ورسوله، وأمَّا دولت فعلى مألوف ما جرى بينهما ولن يحتاجا بعد ذلك إلى بيت أخيها، فسيكون بيت فايزة مكانًا لهما يلتقيان فيه ما شاء لهما اللقاء، ويصخبان به أيضًا فإنها لن تسمع.

إن للصمم فوائد كبرى فهو سيتيح لي هذه الزيجة التي ما كنت لأطمح إليها أو أصبو، وهو سيتيح لي أيضًا أن أحادث دولت أمامها ما شئت من حديث، ومن يدري فقد يتيح لي بعد ذلك مكاسب أعظم وأضخم، أمَّا لو تحقق هذا الأمل؟ إذن فوداعًا للفقر، ووداعًا للحلة الواحدة والشقة الضيقة.

وقبل أن يدعوهم الخادم للغداء أقبلت وفية في سمتها الرفيع الجميل، وقد أمسكت في يدها بابنها عزت، ورحبت بيسري ترحيبًا بالغًا وعاتبته على غيبته عتبًا هيِّنًا لا مرارة فيه، ولم تجلس وفية، فقد دُعِيَ الجميع لتناول الغداء.

وعلى المائدة ظل يسري يحملق في فايزة ودولت، ولم يلحظ الأب ولم تلحظ الأم ولم يلحظ محسن، فقد شغلهم الحديث والطعام. وكانوا قد يئسوا أن ينظر أحد — أي أحد — إلى فايزة على أنها فتاة تصلح للزواج، اثنتان لحظتا هذا الإنعام الصامت الذي ينظر به يسري إلى فايزة، دولت ووفية، فأمَّا دولت فقد ظنت أنه ينظر إليها ويصطنع النظر إلى فايزة حتى لا يفتضح أمره وفرحت بهذا الظن وارتاحت إليه مطمئنة واثقة.

وأمَّا وفية فقد دهشت أول الأمر ثم تملكها الذعر. ماذا يريد هذا الفتى من أختي الصماء؟! ماذا يريد؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤