الفصل التاسع والعشرون

اعتنى يسري بهندامه أقصى ما تكون العناية، وكرر النظر إلى المرآة، وأطال التحديق في كل مرة حتى اطمأن أن ليس بعد عنايته زيادة لمستزيد، وترك غرفته إلى حجرة أمه فنظرت إليه مليًّا ثم قالت: إلى أين؟

– إلى بيت عمي عزت باشا.

– أنويت، تفاتحه اليوم؟

– نعم ما دمت مصممة ألا تفاتحي أنت إجلال هانم.

– أنا والله يا ابني أخجل أن أفعل.

– هل في الزواج ما يخجل؟!

– لو لم أكن أعرف حبك للمال وطمعك في العروس ما خجلت.

– هل معنى ذلك أن تقاطعي الزيجة بأكملها؟

– بالطبع لا.

– إذن فماذا ستفعلين؟

– إذا قبلوا فسأذهب وأقدم الشبكة وأفعل كما تفعل أم تفرح بأول زواج يتم في بيتها، وسأظل بعد ذلك أدعو الله أن يهديك ويسترك، ويكرمنا مع هذه العائلة التي لم نرَ منها إلا كل خير.

– إن شاء الله كل خير، أمصممة أنت على عدم الذهاب؟

– طبعًا.

– إذن أستأذن أنا.

– ربنا يوفقك.

وبهذا الدعاء الهين الفاتر ترك يسري أمه واستقبل الطريق يقطعه في عزم وإصرار، حتى إذا بلغ بيت عزت باشا وجد حجرة مكتبه منيرة ووجده بها منفردًا يقرأ، فحياه في أدب وجلس إلى كرسي مقابل له، وعاد الباشا إلى القراءة لحظات، ثم ترك ما بيده وقال ليسري: لعلك مرتاح في عملك يا يسري.

– مرتاح يا عمي كتر خيرك.

– إن أردت أي شيء أنت تعلم طبعًا أنني دائمًا مستعد لأدائه.

– أعلم يا عمي.

وانقطع الحديث فترة، وران الصمت على الحجرة ثم قال يسري في بعض لعثمة: يا عمي إن لي عندك أمنية.

– قلها.

– لقد أصبحت بفضلك موظفًا، وأنا أحمل شهادة عالية، وأملي كبير أن أرتفع في الوظيفة أو أشق طريقي في الشركات إن سنحت الفرصة.

– هذه مقدمة طويلة، خير.

– عمي، إنني أريد …

وانقطع السيل المتدفق كما لو كان آلة أصابها العطب فجأة، وتلعثم يسري ووجد أن الأمر ليس باليسر الذي ظن.

وقال عزت باشا وقد خُيِّلَ له أنه يعرف ما يريد: يسري قل، ماذا تريد؟

وعلت وجه يسري حُمرة وازداد لسانه لعثمة ووقف به الحديث، فقد وقف عقله عن العمل أو كاد، وراح يردد في خجل: أريد … أريد …

وقال عزت باشا: شكلك يدل على أنك تريد الزواج.

وكأنما وجد يسري ضالته فقال في سرعة وفي صوت خفيض: نعم.

واستطرد عزت باشا: وتريد سلفة؟

وقال يسري في حزم: لا.

– من العروس؟

وعادت اللعثمة إلى يسري مرة أخرى: إنها … إنها …

وقال عزت باشا وقد كاد يضيق: يا أخي قل، ممَّ تخجل؟

وكانت هذه الجملة سريعة المفعول، فقد وجد يسري نفسه يقول في سرعة: أريد فايزة بنت معاليك.

ووجم عزت باشا، فما كان يظن أنه سيسمع أحدًا يخطب فايزة أبدًا، ولم يذهب به الظن أن هذه المقدمة الطويلة التي ساقها يسري كانت تمهيدًا لهذه النهاية، واختلطت مشاعره بين فرح وقبول، وبين خوف وإشفاق، وبين حذر وريبة، ولم يجد شيئًا آخر يقوله ليسري إلا: يا ابني، أنا لم يخطر لي هذا التفكير على بال. وعلى كل حال فايزة أختك، ولكن أتمانع أن تترك لي بعض الوقت لأسألها وأسأل أمها؟

وقال يسري: أنا تحت أمرك يا عمي. متى أجيء؟

– وهل تجيء إليَّ بمواعيد؟ تعالَ في أي وقت شئت، وسأجيبك حالًا.

– أشكرك يا عمي، أشكرك.

وقام يسري واستأذن وانصرف، لم يخالجه الشك أن عمه سيقبل.

ولماذا يرفض؟ وأين يجد مثلي لمثلها؟ قال أختك، أختي لأنها صماء، أتراها كانت تظل أختي لو لم يكن بها ما بها؟ أختي، مفهوم يا معالي الباشا مفهوم. أتريد فترة للتفكير؟ لك ما تشاء من فترات، فإنك ستقبل يا معالي الباشا، سيقول عنك الناس وخاصة أقاربنا إنك رجل عظيم، رعيت القرابة والصداقة القديمة، وأنت في نفس الوقت ستزوج ابنتك التي لم تطمع أن تزوجها في يوم من الأيام، فتجمع إلى زواج ابنتك ثناء الناس. فلك من فترات الزمن ما تشاء، ولكني أعلم أنك ستقبل.

مكث عزت باشا في مكانه يفكر في هذا الأمر الجديد، أتراه يحبها، أم تراه يطمع في مالها، أم تراه يطمع في مكانتي أن تظله، أم تراه يريد الزواج، مجرد الزواج، فوجد في فايزة المال والسلطان وتغاضى عما بها من مرض؟ ولكن كيف؟ إنها لا تسمع مطلقًا، لعله يريد أن يشكرني على تعييني له، ولعله لم يجد ما يعبر به عن شكره إلا أن ينقذ ابنتي أن تكون عانسًا؟ أمَّا هذا فلا، إنني أقبل أن يتزوجها يسري بن همام حتى وإن كان طامعًا في مالها، ولكنني لا أقبل أن يتزوجها أحد على الإطلاق لمجرد أنه يريد أن يقدم شكره لي، لا أرضى لابنتي هذا المكان، ولا أرضى ليسري أيضًا أن يقدم حياته كلها لي لمجرد شعوره بالجميل نحوي، أمَّا هذا فلا أقبله.

وقام عزت باشا متثاقلًا يقلب الآراء جميعها في ذهنه حتى بلغ إجلال هانم وجلس إليها مفكِّرًا ما يزال، وتركته هي لصمته بعض الحين ثم قالت: ما لك يا عزت؟

فقال دون ريث تفكير، فقد كان يريد أن يقول دون سؤال: يسري خطب فايزة.

وتمعنت إجلال هانم الخبر هنيهة، ثم أشرق وجهها بالفرح وقالت: صحيح؟!

– ما رأيك؟

– وهل نجد لها خيرًا منه؟

– ألا تخشين شيئًا؟

– أن يكون طامعًا في مالها؟!

– لا، ليس هذا ما أخشاه.

– إذن؟!

– ألا تخشين أن يكون يسري يحاول أن يضحي بنفسه ليشكرنا؟

– يا أخي ما هذا الكلام؟ إنك لم تقدم له ما يجعله يضحي بنفسه من أجلك. إنك عينته وليست هذه بالخدمة التي يضحى من أجلها شاب في سن يسري بمستقبله كله، لو لم يكن يريدها ما طلبها، دع عنك هذا التفكير.

– لعلك على حق، ولكنني على كل حال سأسأله.

– أنت حر، ولكن ألا تسأل فايزة؟

– بالطبع، ولكن سأنتظر حتى أتأكد من رغبته، فإنني أخشى ألا يكون واثقًا من شعوره أو يكون مندفعًا في تيار التضحية، فتصدم البنت صدمة عنيفة.

– ما ترى.

•••

جاء يسري إلى البيت بعد يومين، وانفرد به عزت باشا وبدأه قائلًا: يسري، هل أنت واثق أنك تريد فايزة؟

وقال يسري في جرأة، فقد أصبح الأمر ميسورًا بعد الحديث الأوَّل: بالطبع يا عمي، إنها أمنيتي.

– يا ابني، أنا لم أفعل لك شيئًا يُذكَر. وأني سعيت من أجلك لتُعين أمر لا يستحق منك أن تبذل أي تضحية، فإن كان طلبك هذا مبعثه شكران أو إحساس بالمعروف، فأعف بنتي العاجزة أن تكون وسيلة لشكرانك، وأعف نفسك من مستقبل طويل في ظل زواج لا يقوم على أسس سليمة.

وأحس يسري وخزة ألم أن يظن به عمه هذه المثالية التي لم تخطر في ذهنه على بال، ولكن سرعان ما استجمع نفسه وهو يقول: إنك يا عمي قد قدمت لنا أفضالًا كثيرةً، وقد رعيتنا خير رعاية بعد وفاة المرحوم والدنا، وقد عينتني وعينت أخي خيري من قبل، لقد بذلت لنا الكثير، ولكن زواجي من فايزة أعتبره أنا إذا سمحت به أكبر فضل أضفيته علينا.

– أنت واثق من شعورك هذا؟

وقال يسري في حزم: كل الثقة يا عمي.

– إذن فأنا موافق على الزواج ومرحب به، وكذلك إجلال، ولكن لا بد أن أسأل فايزة، وقريبًا ستسمع الجواب.

•••

جلس عزت باشا وإجلال هانم في حجرة النوم، وطلبا فايزة أن تحضر إليهما. وما إن استقر بها مجلسها حتى لاحظت هذه الإشراقة على وجه أمها، وتلك الابتسامة المترددة بين الخوف والفرح على فم أبيها، فانتظرت حتى ترى ما يخفيان. وقدم إليها أبوها ورقة مكتوبًا عليها: «يسري يريد أن يخطبك.» وامتقع وجهها في اندهاشة المبدوه الذي لا يتوقع، وسارع لسانها يقول في عجب: أنا؟!

وهز أبوها رأسه وهزت أمها رأسها أن نعم. وقالت الأم: «نعم.» وفهمت فايزة الإيماءة واستنتجت حركة الشفاه استنتاجًا، ثم سكتت وما لبثت الدموع أن أشرقت من عينيها وهي تغالبها في حيرة وذهول، وقد انعدمت مشاعرها لا تدري أخير ذلك الذي يعرض عليها أم هو شر، فهي لم تقرر من أمر نفسها شيئًا منذ أدركت الأشياء، وها هي ذي تواجه هذا الأمر، أهم ما يؤخذ فيه رأي فتاة، إنها حياتها، فكرت بعض الحين ثم قالت: وأترككما؟!

وأشار أبوها أن لا، وقالت الأم: لا، فقالت فايزة: ما رأيكما؟

وكتب لها أبوها أنهما موافقان، فقالت: لماذا يخطبني؟!

وكتب لها أبوها: «ابن عمك ويريدك، ما الغرابة في هذا؟»

وقالت: إنني صماء، كان يستطيع أن يجد خيرًا مني.

وقالت الأم: «ليس في العالم خيرٌ منك.» فلم تسمع وكتب أبوها: «إنه يريدك ويلح.»

وقالت: ألا تخشى أن يكون وراء رغبته شيء آخر؟

وكتب لها أبوها: «لقد تأكدت من حقيقة شعوره.»

فأطرقت هنيهة وفاض دمعها وهي تقول: الأمر أمركما، افعلا ما تشاءان.

وخرجت فايزة من الحجرة ولجأت إلى حجرتها، ولحقت بها دولت، فطلبت إليها أن تتركها بعض الحين. وما إن غادرت دولت الحجرة حتى انخرطت فايزة في بكاء عنيف، أهكذا يا يسري؟ أتطمع في مالي وتنتهز فرصة مرضي حتى لا أستطيع الرفض؟ كيف أرفض؟ ماذا أقول لأبي وماذا أقول لأمي؟ إن الفتاة حين ترفض تكون واثقة من نفسها عالمةً أن الكثيرين سيتقدمون إذا هي لم تتزوج ممن ترفض، أمَّا أنا فماذا أنتظر؟ ومن يتقدم إليَّ إذا لم أقبل يسري؟ ولكن أيقبل هو هذا؟ أينتهز مرضي ليتزوج مني؟ كيف أقتل هذه الفرحة النشوانة في نفس أبي؟ وكيف أقسو عليه وأقضي على هذا الأمل الذي ظل زمنًا طويلًا يراوحه ويغاديه ضعيفًا يائسًا حتى أصبح حقيقة؟ كيف أقضي على هذا الأمل بعد أن تجسم أمامه واكتمل في شخص يسري؟ كيف أستطيع الرفض؟ هي حياتي اليائسة. آمالي آمال الآخرين، وقدري يخطه أبي وتخطه أمي والغريب عن الدار، ولا يد لي فيه، بماذا أقرر لنفسي مصيرها، بأذني التي تعزلني عن الناس، وتضعني في عالمي وحدي بلا شريك ولا أنيس؟ بأي حق أقول لا أو نعم؟ إنما أنا ما يريدان لي أكون لا أملك من أمر نفسي أمرًا، فليفعلا ما يشاءان، وليس لهما مني إلا أن أطرق كما أطرقت وأسلم إليهما أمري كما أسلمت.

واشتد بكاؤها فدخلت إليها دولت وفي عينَيها من السؤال ما يغني عن السؤال، وجلست دولت ولم يطل بها الجلوس، بل قالت فايزة تجيب السؤال المطل من عينَيها: يسري يريد أن يخطبني.

ودقت دولت صدرها وهي تقول: مَنْ؟

ولم تسمع فايزة، وإنما ارتسمت على وجهها ابتسامة ساخرة وهي تقول: يطلبني، ويلح في طلبي.

وازدادت نبرات صوتها سخرية وهي تقول: وأين يجد خيرًا مني؟ أذنان تسمعان الهمس، وصحة مكتملة، إنه يريدني لذاتي لا لمالي، أليس كذلك؟ قولي إنه كذلك.

ولم تقل دولت شيئًا إلا: ابن الكلب السافل.

ولم تسمع فايزة شيئًا، بل استمرت في ثورتها المريرة الساخرة: بنت عمه، وماله لا يخطب بنت عمه؟ وماذا تستطيع أن تقول بنت عمه؟ هل عندها خُطَّاب غيره؟ إنه الوحيد الذي وازن بين مالها وصممها فوجد المال أعظم فخطبها، أتستطيع أن ترفض؟ وماذا تقول إن رفضت؟ إنها ما زالت صغيرة، ومَنْ سيخطبها حين تصبح كبيرة؟ إنها لا تريد الزواج، وماذا تصنع الفتيات إلا الزواج، إن الوقت متسع أمامها، ومَنْ سيسأل عنها في هذا الوقت المتسع؟ لا بد أن تقبل بنت عمه، وإن كانت تعرف أنه يخطب مال أبيها، نعم وإن كانت تعرف، ولتقم الأفراح والليالي الملاح، فسيتزوج ابن العم من ابنة عمه الصماء، فوا فرحتاه.

وارتمت فايزة على السرير باكية في نشيج عالٍ أليم حتى لم تستطع دولت إلا أن تنسى ما أصابها من هذا الخبر، فراحت تربت فايزة في إعزاز وحب وإشفاق، وأحست حينذاك أنهما كلتيهما طعينتان بسكين واحدة، هي يسري.

ودق جرس التليفون وظل يدق فترة حتى وافاه أحد الخدم، ثم لم تسمع دولت الخادم يتكلم، وإنما سمعته يضع السماعة مكانها، فعرفت أن يسري يطلبها، فعزمت ألا تجيبه في المرة التالية، ودق جرس التليفون ثانيةً، وترددت، وسارع الخادم، فكان حظه من الحديث كحظه في المرة الأولى، ودق الجرس ثالثةً فقصدت هي إليه وسمعت يسري يقول ردًّا على صوتها: غدًا في الساعة السادسة.

ووضعت السماعة وعادت إلى فايزة واحتوتها بين ذراعيها، وتفجرت دموعهما معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤