الفصل الرابع والثلاثون

أصبح يسري بعد تعيين حامد بشهور قليلة سكرتيرًا عامًّا للشركة، ورأى يسري نفسه وهو في بواكير الشباب الأولى ذا حجرة منفردة وذا نهي وأمر وسطوة وسلطان، وأدرك الباشا عند تعيين يسري أنه كان آلة في يد يسري يحركها إلى حيث يشتهي. وقد غضب لهذا الوضع الذي أراده له يسري، ولكنه لم يستطع أن يظهر غضبه واضحًا، فقد كان يرى حب فايزة لزوجها، ولم يكن قلب الأب فيه ليتيح له أن يعنف بيسري العنف الذي يراه يستحق. ولكن لم يشأ أن يسكت، بل انتهز أول فرصة بعد تعيين يسري، وقال له: أظن يا يسري أن عملك في الشركة سيأخذ وقتك كله!

وقال يسري وقد أوجس: أظن ذلك يا عمي!

فقال الباشا في حزم: إذن فاترك حساباتي ليتفرغ لها شاب أقل من سكرتير عام الشركة الوطنية للتأمين.

وأطرق يسري خجلًا وهو يقول: أمرك يا عمي.

وبهذه السخرية اللاذعة وبهذا الحزم القاطع استطاع الباشا أن يبدي ليسري أنه فهم اللعبة التي دبرها له هو وحامد، وأنه أيضًا غير مرتاح لهذا التصرف، كما استطاع بهذه المحادثة القصيرة الحاسمة أن يقطع عن يسري المرتب الذي كان يعطيه إياه.

ولم يكن يسري في حاجة إلى المرتب، فقد كان مرتب الشركة ضخمًا، كما أنه أصبح إلى حين في غير حاجة إلى عون عمه، وطمأن نفسه «أنه رجل طيب وما أسرع ما أستطيع إرضاءه.» فاطمأنت نفسه إلى هذا الظن.

ولم يمر كثير وقت على تعيين يسري بالشركة حتى كان قد دبر هو والدكتور حامد أمرًا، وارتاح إليه وقصد إلى أخيه خيري في البيت، فوجده في حجرته جالسًا يقرأ في إنعام، فقال له: جئتك اليوم في أمر هام يا آبيه خيري.

وقال خيري في هدوء لا يزايله: خير؟

قال يسري: كم بلغ مرتبك في الوزارة؟

وقال خيري: ما المناسبة؟

– أليس لي الحق أن أعرف؟

– لا أرى مانعًا أن تعرف، ولكني أيضًا لا أرى موجبًا لذلك، فقد بلغ مرتبي القدر الذي يكفيني ويجعلني أعيش المعيشة التي أرضاها لنفسي فلا أشكو ضيقًا.

– وحياتي عندك يا آبيه خيري أن تترك هذا الخيال، لكل إنسان طموح ولا يعقل ألا تكون أنت طموحًا مثل كل الناس.

– ومن قال لك إنني لست طموحًا؟ إنني بغير طموحي هذا ما كنت أستطيع أن أواصل تعليمك وتعليم أختك والإبقاء على أسرتنا في ستر ورضًا، ألم يكن هذا جميعه طموحًا؟

– عظيم، عظيم، ولكن أليس لك طموح شخصي؟ أليس لك آمال تبنيها لنفسك؟

– أنت أمل من هذه الآمال، وأختك نادية أمل آخر لي، وثق أنني حين أُزوِّج نادية سأنظر إلى نفسي وأتزوج، وقد أخرج من الوظيفة، وقد أحقق آمالًا أخرى يعود نفعها عليَّ وعليكم.

– لم تحدثني أبدًا عن هذه الآمال.

– أحب أن أنفذها ولا أتحدث عنها.

– ألا تتحدث عنها لي أنا أخوك؟

– أعلم أنك أخي، ولكن حديثي عن آمالي قد يجعلها أمام عينيك حقائق، بينما أنا لا أزال أراها آمالًا، هي بعد في نفسي لم تكتمل عناصرها ومقوماتها، والحديث عنها قد يجعلها تبدو كاملة قائمة.

– قل لي يا آبيه خيري وحياتي، ورحمة أبي إلا قلت؟

– المسألة لا تستأهل كل هذا الإلحاح، أريد أن أترك الحكومة وأذهب إلى البلد فأقيم في بيتنا هناك، وأستأجر أرضًا من حولنا أربي ماشية وأنمي ثروتنا البسيطة.

وفكر يسري قليلًا ثم قال: والله مشروع لا بأس به! وماذا يؤخرك عنه؟

– أنا الآن مطالب بالتزامات إزاء والدتنا وأختنا، ولا أستطيع أن أترك مرتبي الثابت المضمون لمشروعات لا أدري نتائجها.

وأطرق يسري هنيهة ثم قال: ما رأيك لو ارتفع مرتبك هذا إلى ضعفيه؟

وصمت خيري لحظة ثم قال: ماذا تتوقع أن أقول؟

وقال يسري على الفور: أن توافق طبعًا.

– طبعًا، ولكن فقط أحب أن أعرف كيف يرتفع؟

– تترك الوزارة وتعمل معنا في الشركة.

فقال خيري في تؤدة: الشركة التي تعمل بها سكرتيرًا عامًّا؟

وبهت يسري من الإجابة، وما لبث أن قال في لعثمة: نعم.

– أترضى لي ذلك؟

– ماذا؟

– أن أكون مرءوسك.

– وهل تعتقد أنني سأكون رئيسًا حقًّا؟

– وهذا أدهى، سأجعلك بين أمرين لا أرضاهما، إمَّا أن تكون رئيسًا حقًّا وهذا لا أحبه لنفسي، أو لا تكون رئيسًا حقًّا، وهذا لا أحبه لك.

– يا آبيه خيري إنها فرصة، وقد تستطيع أن توفر منها مبلغًا ينفعك في مشروعك الذي تنتويه.

– إن كان مشروعي سيجعلني أفعل ما لا أرضاه، فإني سأنصرف عنه.

– يا آبيه خيري إنه مشروع عظيم.

– ألم أقل لك إنك ستراه كاملًا قائمًا بينما هو لا يزيد عن مجرد أمل في نفسي.

– وهل الأمل شيء بسيط؟ أليست الآمال هي التي تحدد خطوط سيرنا في الحياة؟

– الآمال أهداف وأخلاقنا وتركيب نفوسنا هي التي توجهنا في الطريق. إن طريقًا لا ترضاه أخلاقي طريق لا أسيره، وإن لم يكن غيره مؤديًّا إلى هدفي، هكذا أنا، هكذا ركبت نفسي منذ كنت صغيرًا حتى الآن، لا أظن أنني قادر على تغيير نفسي.

– كنت أظن يا آبيه خيري أن مثاليتك لا تستطيع الصمود أمام الحقيقة، نعم أعرف ما فعلته مع عزت باشا في أول حياتك، ولكنني خُيِّلَ لي أنك مع مرور الأيام أسفت على ما كان منك، وخُيِّلَ لي أنك قد تلين أمام المنفعة إذا كانت ماثلة أمامك بلا أوهام ولا خيالات، ولكن للأسف ما زلت تتحدث عن الأخلاق والمثالية، والتعفف والقناعة حتى أصبحت تطبقها في حياتك أيضًا ولا تكتفي بها في أحاديثك.

– عجيبة يا يسري، أكنت تظن أن آرائي مجرد كلام فقط؟

– كنت أظن أن الحياة علمتك أكثر مما فعلت.

وضحك خيري ضحكة صغيرة فيها بعض سخرية وقال: لا عليك يا يسري، أمرك إلى الله، ربنا بلاك بأخ عقله فارغ، تحمل.

وسارع يسري يقول وقد احمر وجهه خجلًا: العفو، أنا لم أقل هذا.

– لم تقله ولكنك تعتقده، لا عليك ولكن اسمع، أنا أشكرك، فإن وفاءك لي وحرصك الدائم على أن تقدم لي ما تظنه خيرًا أمر أحبه فيك وأكبره، وهو أيضًا يطمئنني أنك يومًا ما ستعرف أن ما آخذ به نفسي ليس مثالية ولا أوهام تقاليد بالية، ويجعلني أيضًا آمل أنك في يوم ما سترى الدنيا شيئًا آخر غير المال يستحق أن نحيا له.

وأطرق يسري هنيهة وقد تأثر بحديث أخيه واختلج قلبه بعواطف الحب له، وإن كان عقله لم يعفه من الإلحاح عليه أن هذا اليوم لن يأتي، وأن اليوم الذي قد يأتي هو يوم يعلم أخوه القيمة الحقيقية التي يحتلها المال في الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤