الفصل الخامس والثلاثون

كان يسري جالسًا بمكتبه بالشركة حين دلف إلى المكتب سكرتيره ينبئه أن بالخارج صديقه صبحي الملواني. وقال يسري في لهفة: دعه يدخل.

ثم سارع يقول في نفس اللهفة: بل اجعله ينتظر قليلًا.

فقد ومض في ذهنه خاطر سريع لا يدري مأتاه، لقد أحب أن يشعر زميل دراسته بالفارق الذي أصبح بينهما، وخرج السكرتير لم يبدِ ملاحظة ولم يشغل ذهنه باللهفة التي أرسلت رئيسه سامحًا في دخول الزائر، ثم اللهفة التي أتبعتها في أن يتريث به، لم يفكر فليس من عمله أن يفكر وإنما عليه أن يسمع فيطيع، وقد سمع وأطاع وخرج. ولبث يسري يتشاغل بالأوراق التي أمامه بعض الحين، ولم يطل به التشاغل، فقد دق التليفون المجاور له وإذا هي دولت تخبره أن جميلًا ووفية سيصحبان فايزة إلى السينما، وأنهم يسألونه إن كان يريد أن يرافقهم ليشتروا له تذكرة، فيسألها: وأنت هل تذهبين؟

– لا.

– إذن فأخبريهم أنني سأتأخر في الشركة ولا أستطيع صحبتهم.

– ومتى تجيء؟

– في الساعة الرابعة.

وانتهت المكالمة، ولكن التليفون الآخر الذي يصل حجرات الشركة بعضها ببعض دق، فرفع يسري السماعة ليصله صوت حامد يطلب إليه أن يجيء إلى مكتبه.

وفكر يسري أن يمضي إلى حامد دون أن يلقى صديقه صبحي، ولكنه خشي أن تطول غيبته وينصرف صبحي ففضل أن يراه واقفًا. لم يغب عن ذهنه ما في هذه المقابلة الواقفة من إظهار مدى مشاغله ومن أثر هذا في نفس زميل الدراسة.

ودق يسري الجرس وطلب إلى السكرتير أن يدخل صبحي ودخل صبحي، ونسى يسري ما أراد أن يأخذ به نفسه من وقار وعظمة وإظهار مشاغل وإثبات أهمية، ووجد نفسه حين رأى وجه صديقه يفتح ذراعيه ويحتضن صديقه، وكأنه يحتضن نفسه والأيام التي قضياها معًا، ووجد نفسه يقول في سجية مواتية لا تكلف فيها: أين أنت يا ولد؟ أين طول هذه المدة؟

وأطرق صبحي قليلًا ثم قال: أشكرك يا يسري، يا يسري بك.

وكأنما أفاق يسري من غفوة، أيقظته «بك» يسمعها من صبحي، وأوشك أن يقول «لا تقلها!» ولكنه التذها، أحس فيها بما وصل إليه من غنى وسلطان، فوجد نفسه يتجاهل «البك»، وكأنها أمر مفروض، وقال لصبحي: علامَ الشكر؟

– على هذا اللقاء.

وقال يسري في صوت يغاير مضمون كلامه: نحن أخوان.

قالها في عظمة متواضعة تستطيع أن تحمل في طواياها، أي معنى غير معنى الأخوة، ثم ما لبث أن قال: صبحي، عضو مجلس الإدارة يطلبني وأنا مضطر للذهاب إليه، هل هناك أي خدمة أستطيع أن أؤديها؟

وقال صبحي في ارتباك: أجيء في وقت آخر.

– أهلًا، ولكن ماذا تريد؟

– وظيفة.

وبهت يسري فهو لم يكن يتوقع هذا الطلب من صديقه، وطاف به الصمت هنيهة ثم قال: والله يا صبحي المسألة ليست سهلة، أتعطيني فرصة من الوقت؟

– طبعًا، ولكن أرجو ألا يطول هذا الوقت.

– كن على اتصال دائم بي.

– سأجيء كثيرًا.

– وهو كذلك، اترك لي هذا الموضوع.

واستأذن صبحي وانصرف، وقصد يسري إلى مكتب الدكتور حامد، وحين دخل وجد في الحجرة رجلًا أنيق الملبس قدمه إليه حامد قائلًا: عبد السميع بك فتحي، مندوب شركة النقل بالسيارات.

وحيا عبد السميع بك يسري في أدب وافر، ولاحظ يسري عناية الرجل البالغة بحركاته جميعًا وتحريه أن تكون كل حركة فائقة الأدب والجمال، وحرصه كل الحرص أن تظل ابتسامة على فمه ثابتة لا تزيد ولا تنقص إلا عند ضحك شديد إذا ما بدا في الجو مشروع نكتة وإن لم يكن المتحدث يقصد إليها، وطال الحديث بينهم في أمور عامة لا صلة لها بالعمل، ويسري يشارك في الحديث طورًا ويرقب هذا الوافد الجديد طورًا آخر، أو هو يرقب الأدب البالغ الذي يصطنعه الدكتور حامد أيضًا في الحديث، أو يحاول أن يعرف هدف هذه الزيارة، أو على الأقل السبب الذي استدعاه من أجله الدكتور حامد، ولكن محاولاته لم تنتهِ به إلى رأي يرتاح إليه. وبدا ليسري أن كلًّا من حامد وعبد السميع بك يتباريان أيهما أكثر صبرًا وأشد مداورةً من الآخر، فكل منهما يلوب في الحديث مبتعدًا عما اجتمعا من أجله. وقد فاز حامد في هذه المباراة وهزم عبد السميع، فقد حرص حامد أن تشيع في الحجرة فترة من الصمت أعقبها بكلمة واحدة:

– شَرَّفت.

وقال عبد السميع: الله يحفظك، ترى أتخبر أنت يسري بك بالمسألة أم تفضل أن أقول أنا؟

– أظن من الأفضل أن تخبره أنت.

– أمرك، لقد اتفقت يا يسري بك مع حامد بك على صفقة ستعود عليكم بخير عميم.

وقال يسري مُشجِّعًا: عظيم.

– أنا رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة الأمانة للنقل، وأملك فيها أكثر من ٦٠٪ من الأسهم.

وقال يسري: أهلًا وسهلًا.

– لدى الشركة ما يقرب من الخمسين سيارة نقل، وحوالي ثماني سيارات خاصة للمديرين ولي.

– عظيم.

– نريد أن نؤمِّن تأمينًا كاملًا على هذه السيارات.

وبدا على يسري كأنه فهم ما يراد به، فقال في تفكير: تأمينًا كاملًا؟

– نعم.

– السيارات جديدة طبعًا؟

وأصاب السؤال مكانًا دقيقًا من الموضوع فوجم عبد السميع ووجم حامد. وسارع عبد السميع يتخلص من وجومه في سرعة حاذقة: طبعًا، طبعًا.

– عظيم.

– كل ما في الأمر أنها ليست حديثة.

وازداد يسري فهمًا للأمر فقال: كيف تكون جديدة وليست حديثة؟

– جديدة بمعنى أنها في حالة جيدة، وإن كانت ليست حديثة الشراء.

فقال يسري في مداورة: على كل حال هذا أمر يقوم به مهندسو الشركة.

فقال عبد السميع في سرعة: هذا ما أردناك فيه.

وقال حامد: عبد السميع بك لا يثق في مهندسي الشركة.

وقال يسري: أيُّهم؟ فسعادتك تعرف أنهم أربعة نتعامل معهم، نستطيع أن نستبعد الذي لا نثق به، وإن كانوا جميعًا موضع ثقة الشركة.

وقال حامد: إنه لا يثق بأي واحد منهم.

وقال يسري في دهشة: الأربعة ذمتهم خربة؟!

فقال حامد في حزم: هذا رأيه.

فقال يسري: وما رأي سعادتك؟

فقال حامد موجهًا حديثه إلى عبد السميع: وعلى كل حال يا عبد السميع بك اعتبر المسألة منتهية. وتستطيع سعادتك أن تمر بالشركة بعد غد، وستجد الأوراق جاهزة.

فقال يسري محاولًا إبداء رأيه: ولكن …

فقال حامد في حزم الرئيس: انتهينا يا يسري.

فقال يسري في استخزاء داهش: أمرك.

واستأذن عبد السميع بك وانصرف يودعه حامد إلى باب الغرفة، وحين عاد من توديعه وجد يسري متجهمًا يأخذ طريقه إلى الباب، فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ اقعد، أنت عبيط.

فقال يسري: أنا دهش.

– فيمَ الدهشة؟

– يبدو أن المسألة ليست سليمة.

– وما يهمك أنت، أتمانع أن تقبض أربعمائة جنيه دون أي تعب؟

وفهم يسري الأمر على تمام حقيقته.

– لا أمانع أبدًا، كيف؟

– تأتي لي بمهندس صديقك يأخذ في هذه العملية ضعفي ما يأخذ مهندسو الشركة ويعتبر السيارات جديدة، ونأخذ مقابل ذلك ألف جنيه، لي منها ستمائة ولك أربعمائة، ما عيبها؟

وقال يسري مُفكِّرًا: أمَّا عن الأربعمائة جنيه فلا عيب بها، أمَّا عن الطريقة …؟

وقال حامد في سخرية: نعم يا سيدي، ما لها الطريقة؟ لا تجعلني أظن بك العبط كأخيك، أنا دائمًا أحترمك لأنك واقعي، ذهنك تخلص من المخلفات الراكدة للتقاليد والتفكير الضيق العقيم.

– ولكن هذه المسألة يا حامد بك لا شأن لها بالتفكير العقيم ولا مخلفات الماضي، إنها … إنها …

– هيه، قل سرقة، قل، قلة ذمة، كرر هذه الألفاظ الجوفاء التي سيطرت على الأجيال الماضية وكبلت التفكير فيها.

– يا حامد بك أنا لا أرى صلة بين الأجيال الماضية وهذه المسألة أبدًا.

فقال حامد في حزم: إذن فأنت لا تريد الاشتراك معي فيها؟

– والله إذا أعفيتني أكون شاكرًا.

– أنت حر، طبعًا أنت اليوم غني ولم تصبح في حاجة إلى المال. أصبحت تختار نوع المال الذي يصل إليك، فهذا تقبله وهذا ترفضه، معلوم، لك حق، ولكنني يا سيدي لست كذلك. وإن لم أحصل على المال من حنك السبع فلن أجده، أنت حر.

– الواقع يا حامد بك أنا خجلان أن أرفض لك أمرًا، ولكن لا أستطيع.

– أنت حر، أنت حر، ولكن فقط لا تعطل الورق.

وأصابت يسري بغتة أخرى: ماذا؟ هل سيمر بي هذا الورق؟

– طبعًا.

وفكر يسري قليلًا ثم قال: ألا يمكن أن يأتيك هذا الورق مباشرة؟

– بالطبع لا، أنت سكرتير عام الشركة، وحين يمر موضوع من غير تأشيرتك سيثير كثيرًا من التساؤل والدهشة. وأنا لا أحب التساؤل أو الدهشة، أو التعطيل.

– إذن …

– إذن فلا تعطل الورق.

•••

وأطرق يسري وفكر، يمكن أن يُقال لم ينتبه. وهذا خير من أن يُقال لص، لعلهم سيقولون لص أيضًا، لا يهم ما دمت أنا مقتنعًا أنني لم أسرق، إن لم أوقع فسأُرفت، فهو لا يحب التعطيل.

وقاطع حامد تفكيره قائلًا في حزم ونغمة خالية من التهديد: هيه.

فقال يسري: حاضر، سأوقع.

وضحك حامد ساخرًا وقال: تقبل أن يُقال مغفل لا يفهم شغله، ولا تقبل أن تأخذ أربعمائة جنيه.

وحاول يسري أن يعتذر عن أمانته ثانيةً، ولكن حامد سارع يقول: لا، لا، لا ترغم نفسك على شيء، أنت حر، أنت دائمًا حر، تقبل ما تشاء ولا تقبل ما تشاء، أنت حر.

وأطرق يسري وهو يقول: أشكرك.

ثم خرج من الغرفة يفكر في هذه الحرية التي يتيحها له رئيسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤