الفصل الخامس

ظل خيري في مذاكرته تلك التي لا تُغني، يقرأ لحظات بذهن شارد، ثم يرفع رأسه عن الكتاب ليفرغ للشرود فراغًا كاملًا، ثم يعود شاردًا إلى الكتاب مرة أخرى. وهكذا حتى وجد حامد أفندي واقفًا على رأسه يلقي عليه التحية في ود ظاهر وإشراق: السلام عليكم.

ويفيق خيري تمامًا إلى أستاذه ويقف ليحييه، ويسأل حامد: وأين محسن، ألم يأتِ بعد؟

– والله أخته الصغيرة مريضة، وقد اتفقنا أن نؤجل الدرس إلى الغد.

– أهي مريضة إلى هذا الحد؟

– لا، ولكن رأيته مشغول الخاطر، فاعتقدت أنه لن يكون صالحًا للدرس اليوم.

– ما هذا الكلام يا أخي؟ لقد اقترب الامتحان.

– نعم صحيح، ولكن أخته عزيزة عليه جِدًّا.

– أعتقد أن المذاكرة ستشغله عن التفكير في مرضها.

– أترى ذلك؟

– طبعًا.

– نطلبه في التليفون ليأتي.

– ولماذا لا نذهب إليه نحن، فنطمئن على أخته من جهة و…

وقاطع خيري أستاذه في لهفة: فكرة، هيا بنا.

وهكذا وجد اقتراح حامد نفسًا متوثبةً لتنفيذه، وقد كان خيري خليقًا أن يكون هو المقترح، ولكن من أين له الذهن الذي يداور ويخلق المعاذير وهو فارغ لتوه من هذا الحديث الخطير الذي دار بينه وبين أمه؟ لقد كان مشغولًا عن وفية بها، كان مشغولًا عن خلق المعاذير للذهاب إليها بالتفكير في زواجه منها.

أمَّا حامد فقد كان شغله الشاغل أن يلقى عزت بك، وأن يجعل رجاءه لديه لندن بدلًا من المدارس الثانوية، والتقت من حامد وخيري الرغبتان وإن اختلفت الدوافع وتباينت الأسباب.

•••

كان محسن جالسًا إلى أخته فايزة لا يرفع نظره عنها، وهي مغمضة العينَين بلا حديث ولا مطالب إلا أنفاسًا تتردد متسارعة. وقد جلس أفراد الأسرة الآخرون حولها شأنهم شأن محسن، لا يتكلمون، وإنما أصبحوا جميعًا عيونًا لا تميل عن طفلتهم الحبيبة. وجاءت الخادم تنبئ محسن أن خيري وحامد ينتظرانه في الطابق الأسفل، وحاول أن يستدعي خيري ليعتذر إليه ولكن أباه قال له: لماذا لا تنزل؟ انزل أنت فأختك بخير، وسألحق بك أنا أيضًا بعد قليل.

ويصدع محسن بأمر أبيه، وينزل إلى أستاذه وقريبه. ويسأل خيري في لهفة عن صحة فايزة، كما يتظاهر حامد بهذه اللهفة نفسها، ويلقي خيري على محسن ذلك النقاش الذي دار بينه وبين حامد والذي أدى إلى مجيئهما. وما يكاد خيري ينتهي من الحديث حتى يدخل عزت بك فيسلم عليهم، فيقوم حامد في احتفاء كبير ويتقبل السلام في احتفاء أكبر، ثم يسأل في إشفاق وحزن يبدو صادرًا من أعمق أعماق نفسه: سلامة الست الصغيرة.

ويقول عزت بك في أدب رقيق: إن شاء الله خير، أنا على موعد غدًا يا أستاذ حامد مع وزير المعارف لأرجوه في مسألتك.

ويقول حامد في أدب شديد منتهزًا الفرصة في مهارة: ألف شكر يا سعادة البك، الحمد لله أن سعادتك لم تذهب بعد.

– لماذا؟ هل تمت المسألة؟

– أبدًا! ولكني عرفت اليوم أن هناك بعثة من دفعتي ستذهب إلى لندن، وأنا من أوائل الدفعة، فإذا أمكن أن تزكيني سعادتك لأُرَشح في هذه البعثة تكون سعادتك قد أديت لي جميل العمر.

– بكل سرور يا أخي، هل كتبت مذكرة بهذا الشأن؟

– نعم، ها هي ذي.

وكأنه كان على موعد مع هذا اللقاء الذي هيأته له ظروف متضافرة من مرض فايزة وعدم خروج عزت، ثم من رغبة عزت أن يطمئنه على المسعى الذي رجاه فيه ونزوله إليه، ظروف متنافرة تجمعت خيوطها من كل منحى في الحياة تمهد له هذا اللقاء وتتيح له أن يقدم المذكرة إلى عزت شخصيًّا بلا وسيط من خيري أو محسن.

ويخرج عزت عائدًا إلى ابنته. ويعود الأستاذ مشرقًا مرحًا إلى تلميذيه فلا يلقيانه بهذا المرح، فأمَّا محسن فمشغول بأمر أخته، وأمَّا خيري فمشغول بأختَي محسن جميعًا. ويدرك حامد أن لا فائدة تُرجى من الدرس في يومهم هذا، ويصبح الدرس الذي كان مهمًّا لديه غير ذي قيمة الآن، فقد أتى له المجيء إلى محسن بالفوائد التي كان يرجوها منه، وأصبح الامتحان الذي كان قريبًا لا يحتمل تأجيل درس أمرًا يسهل التغلب عليه. وهكذا اقترح في جرأة: لنؤجل الدرس اليوم، فإني أراكما مشغولين بفايزة.

ويقول محسن: والله أنت مُحق يا أستاذ، أنا لا أستطيع أن أركز ذهني في شيء اليوم.

ويرى خيري أن أمنية حامد قد تحققت دون أن تتحقق أمنيته هو، فيسارع قائلًا: أتنتظرني دقائق يا أستاذ حتى أرى فايزة وأعود؟

ولكن حامد توَّاقًا إلى أن يخلو بالطريق ليفكر وحده في أعقاب هذا اللقاء الذي تم بينه وبين عزت، فهو يقول: ولماذا العجلة يا أخي؟ على مهلك أنت، وأستأذن أنا.

ويفرح خيري بهذا الاقتراح ويقول: أترى ذلك؟

– نعم، فنحن ذاهبان من طريقين مختلفين، أستأذن أنا، السلام عليكم.

ويخرج حامد، ويصعد خيري ومحسن إلى الطابق الأعلى فيجدان الأسرة كما هي في غرفة فايزة. ويُلقي خيري نظرة على المريضة، ثم يخرج إلى البهو ويتبعه محسن، فيقول له: ادخل أنت عند أختك، وسأنتظر أنا أمي هنا، فهي قادمة لترى فايزة، وسآخذ أنا السيارة إلى البيت.

ويحاول محسن أن يجلس معه فيهدده إن فعل أن يترك البيت، فلا يجد محسن مناصًا من طاعته.

•••

يبقى خيري منفردًا لحظات، ثم ما تلبث وفية أن تخرج إليه وتعجب لوجوده، فما كانت تعلم أنه ما زال بالبيت. تلقي إليه ابتسامة وتذهب إلى الخدم تأمرهم أن يعدُّوا مشروبًا ساخنًا لأختها، ثم تعود إلى خيري فتجلس إليه.

يرنو خيري إليها طويلًا حائرًا لا يدري كيف يبدأ الحديث، وتظل هي تنتظر أن يفرج شفتَيه عن أي كلام، حتى إذا يئست قالت: لماذا لم تدخل؟

وأفاق خيري دهشًا يسأل: أين؟

– عند فايزة.

– آه، كيف هي الآن؟

– الحرارة مرتفعة.

– بسيطة إن شاء الله، وفية.

– هه.

وحل الصمت بينهما مرة أخرى، ثم عاد خيري يقطعه قائلًا في نفس النغمة الملهوفة التي ناداها بها: وفية.

وتطلق وفية «هيه» ممدودة، كأنما خُيِّلَ إليها أنه لن يسمعها إذا هي لم تمدها، وإن تكن قد صحبتها بابتسامة عذبة، ويتحفز هو مرة أخرى وهو يقول: وفية هل … هل …

– هيه، هل ماذا؟

ويومض في ذهنه باب آخر يستطيع أن يدخل منه إلى الحديث الذي يريد، فيقول: هل تعرفين ماذا قالت لي نينا اليوم؟

وازدادت الابتسامة إشراقًا في وجه وفية وهي تقول: وكيف أعرف؟

– هل تستطيعين أن تحزري؟

وابتسمت وفية وهي تقول: اذكر لي رأس الموضوع على الأقل.

ولم يكن خيري يتوقع هذا السؤال، فحار ماذا يقول إلا أن يردد في محاولة للتفكير: رأس الموضوع، رأس الموضوع.

– نعم، فيمَ كان حديثكما؟

– حزري.

– اذكر لي الموضوع، وسأحزر التفاصيل.

وتومض الكلمة المناسبة في ذهن خيري فيقول: نجاحي، إذا نجحت …

– تشتري لك سيارة.

ويضحك خيري قائلًا: لا، لن تشتري لي شيئًا.

– إذن …

– إذن ستقدم لي أعظم أمل في حياتي.

– ماذا؟ ما هو هذا الأمل؟

– قولي.

– يا أخي أنا أسلم بغبائي، قل لي، ماذا قالت لك؟

وتعود اللعثمة إلى خيري عاجزًا كل العجز أن يكمل، راغبًا في إنبائها رغبةً تأخذ عليه مشاعره، وبين العجز والخجل والرغبة يرتبك خيري وتكاد تدرك وفية، ويجمع خيري بعض شجاعته ليقول ثالثة في حيرة وارتباك: وفية هل … وفية …

وقبل أن يكتمل الكلام ليكون شيئًا مفيدًا يرتفع صوت الخادم معلنًا قدوم سميرة هانم، وتقوم وفية قائلةً: عمتي.

وتنزل السلم لتستقبلها، ويظل خيري في مكانه ينتظر أمه حائرًا لا يزال، لا يدري أيفرح أن طالت بهما الجلسة بعض الشيء فاستطاع أن يومض بما في نفسه ومضًا لا يكاد يبدد ظلامًا، أم يلوم نفسه هذه الخجلى دائمًا والمترددة العاجزة التي لا تستطيع أن تترك لسانه وشأنه ليقول مرة — ولو واحدة — ما لا بد أن يُقال.

وتصعد أمه وهو في حيرته لا يزال، وقبل أن تقول أمه شيئًا يسارع هو قائلًا: أتسمحين لي بالسيارة أصل بها إلى البيت وأعيدها؟

وتقول الأم: ولماذا لا تنتظر حتى نذهب معًا؟

– أريد أن أذاكر.

وتبتسم الأم، فقد أصبح للمذاكرة أسباب قوية تصل إلى أعماق الفؤاد وهي تدري، ومن خلال ابتسامتها تسمح له بالسيارة.

وفي الطريق يعود خيري إلى تفكيره، ترى أفهمت وفية أي وعد بذلته أمه إن هو نجح، لقد فهمت، وإلا فما هذه الغلالة الوردية الرقيقة التي كست وجهها، ويريد أن يعود إلى لوم نفسه ثم ما يلبث أن يثوب، ماذا تراني كنت قائلًا؟ أحبك؟! ألا تدري؟ إذن كنت أسألها أتحبينني؟! ألا أدري؟ وهل يرضى لي حيائي أو حياؤها أن أقول أو تقول، هو الحب ما بيننا يقوله الضياء الذي يحيط بنا إذا التقينا، واللهفة التي أحسها وتحسها إلى هذا اللقاء، كيف أقول؟ كيف تقول؟ أتراني أقبل أن تقول لي أحبك؟ لا، أم تراها تقبل أن تسمعها مني؟ إنما حبنا أعظم من أن تعبر عنه كلمة مهما تكن خالدة بعيدة الأصول في الزمان الماضي، باقية على كل زمن مستقبل. ولكن الهوى العذري بيننا، ولكن التقدير الذي أكنه لها، ولكنه التقاليد التي ربينا أنا وهي في ظلها، كل هذا يمنعها ويمنعني أن تقول أو أقول. ألا ما أجمل أن تجمعنا جملة واحدة، أنا وهي، اهدئي إذن يا نفسي، فهكذا أنت، وما كنت لأكلفك أمرًا لم تتعوديه، إنها تعلم، ولم يبقَ إلا أن أذاكر، لا شيء إلا أن أذاكر، ألا ما أهون العقبة التي تقف بي دونها، وأفاق خيري من تأملاته على صوت السائق وهو يقول: خيري بك، خيري بك، سأتأخر عن الست.

– ماذا؟ هل وصلنا؟

– منذ نصف ساعة. نحن هنا يا خيري بك من نصف ساعة.

ويبتسم خيري وينزل من السيارة. الابتسامة تعلو شفتَيه، وأفكار كثيرة كلها باسمة تدور في ذهنه، وفي قلبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤