السَّارِقُون الرحماء

انتظم العمل في المشاريع، أكثر ما يميز هذا العام هو تدخل البنك كممول للمشروعات الكبيرة، وكمزارع عن طريق موظفيه الذين بسلفيات من البنك زرعوا أراضي واسعة بالسمسم والذرة، ومدير البنك نفسه زرع ألف فدان ذرة في المنطقة الخصبة ما بين خور مغاريف إلى غابة زهانة، وعُرفت بمشروع ناس البنك، عمل الجنقو في كل المشاريع بصبر وأناة، ما داموا يدفعون لهم بانتظام، وما داموا في أشد الحاجة للمال.

الحق يُقال: إن وجود البنك أنعش ركود الاقتصاد المَحَلي، وظهرت أنشطة جديدة أوجدها موظفو البنك الذين بسلفيات من البنك، قاموا باستيراد الأبقار الفريزيان الهجين، ومزارع الدواجن البيطرية، هذان النشاطان وحدهما استَخْدَمَا عمالة لا تقل عن الثلاثين شابًّا عاطلًا عن العمل، وقَلَّلَا من سعر البيض الذي أصبح أحد المواد الاستهلاكية؛ حيث خَلقَتْ له الدعاية والتقليد سُوقًا رائجة، وأيضا أصبح سعر رطل اللبن نِصف جنية فقط، وهو أكثر جودة؛ لأنه الأنظف والأقل ماءً، ويتم حفظه في آنية كبيرة تغسل في اليوم مرتين، وابتكر موظفو البنك نظام تسليف عُرِفَ بين الأهالي بالكتفلي، وهو أن يقوم موظف البنك الثري بتسليف شخصٍ بواسطة ضمين معروف ووصل أمانة مَبلغًا من المال يساوي عددًا من جوالات الذُّرة، أو يتم مقابلته بعدد من جوالات الذُّرة وضربها في اثنين، ويتم استرداده بسعر الذرة في وقت استرداد الدَّين الذي غالبًا ما يتضاعف إلى أكثر من ثلاث مرات خلال شهور رد الدَّين وهي: مايو، يونيو، ويوليو، وأغسطس، ومن ثَمَّ يرد المدين الدَّين مضروبًا في أربعة، وحسَّنوا أيضًا من مستوى المواصلات؛ لأنهم أحضروا إلى المنطقة لأول مرة حافلات الركاب المُريحة، ثلاث حافلات تعمل في فترة الصيف، ما بين الشُّواك وعبودة والحِلَّة، يمتلكها موظفان بالبنك، طبعًا فَسَّرَ الناس ذلك بأنه، إلى أن يثق البنك في المواطنين العاديين، فإنه يقوم بتسليف موظفيه وكبار التجار فقط بدلًا من أن يبقى المال بالخزائن دون فائدة، وكثير من الناس قَدَّرَ موقف البنك هذا، بل وثمنوه، طالما دفع الحياة البائسة الراكدة بالمكان؛ حيث تمكن أي مواطن منتج من بيع سلعته لموظفي البنك، حتى الفحم وحطب الوقود، بل حطب الطلح الذي تتدخن به النساء، خزنه الموظفون بكميات هي الآن ترتفع عشرات الأمتار فوق سطح الأرض: كنا نودي الفحم الخرطوم، بلصات ورشاوى لا أول لها ولا آخر في الطريق، الليلة صديق العوض، أو أحمد البدوي، أو المدير نفسه الذي يعطي مقابلًا من المال لكل شيء له قيمة؛ ريَّحونا من التعب دا كله.

ولكن رغم هذه الفوائد الجمَّة التي يعدون منها ولا تعد، فإن الناس الذين لا يملأ أعينهم سوى التراب، يعيبون على البنك تدخله في حياتهم الخاصة مباشرة، أو بطرق غير مباشرة، ويحفظون له حوداثَ كثيرة في سجلٍّ قبيحٍ، وقد عُقدت ندوات وندوات في نقاشها ومُحاولة البحث عن حقائقها، ففي ما يُشبه الندوة في منزل أبرهيت، يوم الاحتفال بعيد غامض يطلقون عليه تجاوزًا عيد سُليمان، أو النَّبِي سُليمان، نُوقِشَ موضوع المبلغ الذي خصصه صِدِّيقُ العَوَض موظف البنك لأمول أجانق إذا دخل الإسلام، وكان أمول أجانق نفسه من الحاضرين، ولقد أدلى بشهادة لم تُعط من الاعتبار إلَّا أقله، حيثُ اعتمد الناس بصور أساسية الرواية التي أدلى بها صديقُنا مختار علي، الذي أكد بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ صدِّيق العَوض قد تسلم مبلغًا كبيرًا من المال من أحد الناس ذوي الذقون الكبيرة، وقال: لولا أنَّ أسامة بن لادن مختبئ هذه الأيام في طُورابُورا، لقُلت دا أسامة بن لادن ذاته، زول طويل سمين قوي أبيض، عنده دقن كبيرة، عنده شعر كتير، عنده مال كتير، عنده حرس، جاء القضارف وقابلوا صِدِّيقًا هنالك وحلف بربه وبالنَّبِي، أنه رآه وسمعه.

ثم أخبرت الأم عن محاولة يائسة معها للإخبار عن الجنقو الذين يحملون السلاح في غابة زهانة، ومعرفة مَن معهم ومَن ضدهم، أشار وَد أَمُّونة عن عرض زواج عُرْفِي من مدير البنك إلى بوشي، وربما قد تم ذلك الزواج؛ لأن لا أحد اعتمد رواية بوشي التي أنكرت الواقعة جملة وتفصيلًا، قائلة بشكل قاطع وحاد: إن شاء الله أديه للكلاب، وما أديه للزول المتكبر الحرامي دا!

قالت أداليا دانيال: أبيت أبيع ليهم مسجلاتي، أدوني سعر رخيص جدًّا، ولا الخسارة اللي خسرتها فيهم، وأضافت بعد أن ضحكت ضحكًا يشبه الهيستيريا، قل إنه نُوع من البكاء: هم اللي قالوا لي: خلي راجلك يتطهر، «تقصد يختتن.»

ولكن ما أدلى به أبرهيت المتحفظ دائمًا، المتشكك فيما حوله الغامض، الذي لا يغلط على أحدٍ، كان المدهش، قال موجِّهًا حديثه لي: هم اللي خربوا بيتك، هم اللي ضيعوا ألم قشي، أغروها بالذهب والمَال، أنت شخص غير مرغوب فيه هنا، عايزينك تفوت أو تموت، اعمل حسابك؛ لأنك أنت المتهم بتحريض الجنقو، ودفع صديقك الشايقي على الخروج عن القانون.

ولأول مرة تخرج ندوة بلا شيء؛ لأنها خمنت بما يشبه التقرير عن أنشطة البنك ملخصه: ما لم يقل الفكي كلمته، فإنه لا حقيقة يمكن اعتمادها، لكن على هامش الندوة دار حديث سري مفاده أن الفكي علي هو الذي مكنهم من الناس، هو الذي سخر شياطينه، وآياته، ومِحَايَتِه، وعروقه، وكتبه الصفراء، وجلجلوتيته، وشمس معارفه الكبرى، وتِبيانه، وسحره الأخضر والأحمر والأسود لمصلحة موظفي البنك؛ لأنهم يدفعون له أكثر؛ لأن الفكي علي بإمكانه تدميرهم جميعًا، وخاصة أن ألم قشي عرَّفته بأسماء أمهاتهم جميعًا، عن طريق مهارات استخدمت فيها مَكر النساء، دهاء الرجال وخبث وَد أَمُّونة، والجميع يعرف أنَّ الفكي علي ذهب إلى مدينة باسُوندا، وقضى أسبوعين كاملين بها، وباسُوندا هي المدينة التي تُوجد فيها خَزَنَة أَسْرَارِ عِلمِ الشَّجَر في الكون كله؛ أو مَا يُسَمَّى بالسحرِ الأَخْضَر، وهي المدينة التي قِيلَ في شَأنِها هنا في الشرق: إذَا نَاس بَاسُوندا أَبُوكَ نَاس التُّرَب نَادُوكَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤