صديقي الثائرُ

عاد صديقي إلى الحِلَّة بعد فترة غياب طويل قضاها في الخرطوم، أو ربما في أي مكانٍ آخر راق له، ولكن بدا واضحًا أنَّ الحِلَّة قد أصبحت المكان المفضل لديه، وقد قال ذلك لأكثر من شخص: هنا أجمل مكان.

كان يرى ما قام به الجنقو من حملٍ للسلاح، وقطع للطرق، وحرب للجيش الحكومي لن يستمر طويلًا، ولن يقود إلى أي نتيجة ما لم يسنده تنظير سياسي، وتحليل اجتماعي، وهدف محدد بدقة، يمكن تحقيقه في مثل هذه الظروف، وقرر أن يكون هو حادي ركب التنظير، ولا يتم ذلك إذا لم يواكب الجنقو، ويعيش معهم في غابات الكِتِر، والخيران المتوحشة، تحت تهديد نيران كتائب الحكومة، في الخوف، الجري، الإقبال، الإدبار، الجوع، الحرمان، الهزيمة والنصر، كان يقول: التنظير بدون معايشة الواقع مثل طباخة الإدام على النار مباشرة دون وسيط يُفْسَدُ الإدام والنار معًا، وأكد أن فشل الحركات الدارفورية هو أنها حركات لا يتبعها أي تنظير ثوري، والسلاح وحده لا يحل قضية، ولا يأتي بحق مستلب، فالبندقية إذا لم يكن بارودها قد صُنع من الفكر والحلم معًا، فإنها لا تقتل غير صاحبها، وطلب مني أن أدله على المكان الذي يختبئ فيه المسلحون من الجنقو، فنصحته بأنه قد لا يستطيع أن يعيش كما يعيشون، ولو أنه يأكل كل شيء تمامًا مثل الجنقو، لكنه في النهاية، ود مدينة، وعلاقته بالمكان لا تتعدى السياحة الخشنة، وأن الخطر الكبير الفعلي هو احتمال تعرضه للأسر، والأسر هُنا يعني الموت البطيء المؤلم، أو الإصابة، أو ربما القتل، قال كعادته عندما يُخْشَى عليه من الموت: أنا ما ح أموت قريب، عارف كدا، والإنسان بيموت بإرادته، وإذا ما كان مستعدًّا للموت ما في شيء يقتله!

أعرف أنه لا يُحَاج، وأنَّ مبرراته حاضرة دائمًا، لكنني أعرف الصعوبات التي سيواجهها، أقصد التي سوف تهزمه شر هزيمة، وذَكرته بعاقبة مغامرته مع الصافية، وكيف انتهت بتوريثه سُمعة سيئة، ومغامرته مع أبرهيت ولدو إسحاق، والنهاية المأساوية التي أفضت به إليها؛ حيث شَمَّتَ علينا طفْلَة عِشرينية مَدَّتْ لنا لسانًا أرقط تفوحُ منه رائحة الكرملا، كما ذكرته بنقاشه البيزنطي مع الأم مريم كُودي راعية الكنيسة؛ حيث كاد يقتلنا المؤمنون لولا أنْ ستر الله، وبما جرى بينه وبين وَد أَمُّونة أيضًا من حوارٍ فاشلٍ كسبه الأخير، وبغير ذلك من مغامرات صغيرة فاشلة تافهة، خاضها بعناده هنا وهناك، على أن ذلك كله هين، سوى أن الأمر الآن قد يصل للموت، وهنا تكمن الخُطورة الحقيقية! لكنه رَدَّ عَليَّ قائلًا: أولًا: هنالك مبدأ أؤمن به، وهو أن الرجل الناجح هو الذي يفشل ليستثمر فشله، أما موضوع الصافية دا موضوع مصنوع من خيال الجنقو والجنقوجورايات لا أكثر، ومستحيل امرأة تغتصب ليها راجل، يا راجل! واتهمني بأنني أصبحت أفكر تمامًا كما يفكر الجنقو، وتملكتني غريزة التفسير العضوي للظاهرة، وهذا مصطلح قام بنحته الآن؛ لأنني لم أسمع به من قبل، منه أو من غيره، ولا تُخفى ظلال فرويد الثقيلة عليه، ثم سألك ضاحكًا مستهترًا: يعني كيف، مستحيل؟

سألته في مَكْرٍ بيِّن: حتى لو كان عندها موضوع، وصفه الفكي علي الزغراد بأنه: كبير.

قال محتجًّا: وين شافو الفكي الزغراد، وكيف؟

ثم راح يفند لي كل ما ذكرته من فشل، محيلًا إياه إلى انتصارات، بل فتوحات باهرة، أخذتُه إلى التَّاية معي وبقي هنالك خمسة أيام قبل أن يأخذه الشايقي إلى تخوم إريتريا، ظللنا نسمع أخباره من وقت لآخر، تأتينا مَشُوكةً بالكِتِر والحَسَكَنِيت، ملوثةً بطين سبتمبر اللَّزج، وعليها خَوفُ الناقل، وحِرصُ السامع، وهَوهَوةُ الريحِ الجنوبية الرطبة، تأتينا أخبارهُ مرةً باللغةِ التِّجِرِنَّة، ومرة بالأمهرا، وأحيانًا بالبَنِي عَامِر، أو البجاويت، أو العربية المُكسَّرة، عربي الجنقو، بالرندوك، أو بلهجة البدو الرشايدة الزبيدية، كان يبعث إلي برسائل كثيرة مع أقرب زوار، أو أصدقاء مشتركين، وكنتُ أرد عليه، ولكن بحذر شديد، طلب مني مرة أن أرسل إليه ما أسماه الجدول الزمني اليومي لحركة موظفي البنك، كتقرير بعد مراقبة لصيقة لأسبوع واحد فقط، ثم لأسبوع آخر بعد مرور أسبوعين من الأول، ثم مراجعة الجدول كل ثلاثة أسابيع لحساب معدل الانحراف بصورة دقيقة، وفعلًا قمت بالعمل على أكمل وجه مستعينًا بوَد أَمُّونة، ولكن ليس بطريقة مباشرة؛ لأنني مثل الجميع لا أثق في وَد أَمُّونة، ولربما أشك في أنه قد يكون عميلًا مزدوجًا ومستفيدًا من معلومات ظللت أستخلصها من بُوشاي نفسها؛ حيث إن مدير البنك لا يزال يضاجعها على الهواء بالموبايل، كانت تعرف قليلًا عن نظام حياته، ومع ذلك فالفائدة التي كنا نجنيها من علاقتها بالمدير كانت كبيرة؛ لأن بوشاي إذا طلبت منه أن يحضر إلى منزلها في أي وقت فإنه لا محالة قادم متنكرًا دون أن يعلم أحدٌ بتحركه، مما يتيح فرصة التصرف فيه كما يَشاء الجنقو المقاتلون، في الحقيقة لستُ أدري ما يُريد الجنقو أن يفعلوا بالبنك وأهله على وجه التحديد، لكنني كنت متأكدًا من شيء واحد، هو أنهم كانوا ينوون بهم شَرًّا، ربما يُمْكن وَصفه بأنه: مُستطير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤