سَبَعَةْ يُومْ عَوَضِّيهْ بَيي

البلد، ويقصد الحِلَّة، لم يكن بها في الماضي سوى المرافعين، الحَلُّوف، أبو القدح والقرود والثعالب، وفي كل مكان تلقى الجنون، في الكرب، وطرف البحر، وحتى في باطن الحِلَّة، ساكنة مع الناس، الحِلَّة كانت عبارة عن بيت واحد كبير جدًّا مزروب بالشوك، بيت طوله نحوى ألف متر وعرضه أكثر من ذلك بكثير، ومحروس بالكلاب وهو بيت الصافية الحبوبة، في الداخل كان مقسمًا لبيوت كثيرة، كلها قطاطي من القش، والقصب، ورواكيب كبيرة من حطب الكتر والدهاسير، وفي المنتصف توجد مطامير الذرة، والدخن، وخمارات الكَوَل، كل الجُدد القادمين إلى الحِلَّة يجدون لأنفسهم براحات يبنون فيها قطاطيهم داخل هذا الحوش الكبير.

أما العابرون إلى جهات إثيوبيا، وإريتريا، أو الصعيد، الذين أتى بهم الطريق فإنهم يُستضَافون في ديوان الجَدة الصافية، حيث توجد زاوية الصلاة، وسبيل للمياه والمستراح؛ وهو عبارة عن حفرة معروشة بالحطب القوي والقش تستخدم كمرحاض، وقد عَبَرَ بهذا الديوان حُجاج جاءوا من تشاد، نيجيريا، النيجر والكاميرون، وحتى مغاربة بيض الوجوه لهم ذقون ولحى طويلة شقراء، استراحوا هنا، وهم يمضون نحو باب المندب إلى اليمن ثم إلى مكة، كان بعضهم يقيم لأكثر من عام فيتخذ لنفسه أرضًا، يقوم بفِلاحتها وزرعها بالسمسم والدخن، وقد يتزوجون وينجبون الأطفال، منزل واحد كان مركز الدنيا، وامرأة واحدة كانت سمعتها تملأ الشرق كله، وقد نقل سيرتها الحُجاج إلى بيت الله الحرام بمكة، ولمَّا رجعوا لأهلهم حكوا لهم عنها كذلك، في الحقيقة ما كانت الصافية الجدة هي مؤسسة هذا النُّزل، ولكنها الأشهر بين صافيات كثيرات عِشْنَ في هذا المكان، سُلالة جد جاء هاربًا من سجن في الحُمرة في سنة موسومة بسنة النَّجَمة أم ضَنَب التي لا تظهر إلَّا في السنوات التي سوف تشهد أحداثًا عظيمة، كان نجمًا كبيرًا تبختر في السماء بذيله الطويل لأسبوع كامل، جدها «اتهُّم» في إثيوبيا بسرقة بيت «القِشي» نفسه، وسيقتلونه بالتأكيد ضربًا، أو جوعًا، المسجونون في ذلك الزمن الغابر يخرجون في مجموعات.

يُرْبطون في حبل واحد من التيل، يُطَوَّفون بالأحياء والأسواق والمطاعم، يأكلون البقايا، ويسألون الناس الطعام والمال، التباكو والصعوط، وهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الحياة، وتجنب الموت جوعًا، فالسجن ليس مسئولًا عن طعام المساجين، يكفي أنه يوفر لهم سَقفًا يقيهم المطر وحر الشمس، كان الجد عبد الرَّازِق مع بعض أصدقائه في مطعم بالحُمرة، قُرب سُوق همدائييت، وهي سوق يؤمه لفيف من السودانيين للبيع والشراء، ولأنهم يأتون عن طريق همدائييت عابرين نهر سيتيت؛ فقد سُمِّيَ بهذا الاسم، كانوا يتناولون الزِّقْنِي بالأنجيرا والشطة الدليخ، وهي وجبتهم المفضلة في إثيوبيا، عندما رأى توأمه عبد الرزَّاق مربوطًا من قدميه في حبل من التيل مع عشرين من المساجين كانت حالته بالبلا، ووجهه أصبح عظامًا من الجوع، تفوح منه رائحة كريهة، احتضنا بعضهما البعض إلى أن فرَّق بينهما السجان والمسجونون المتعجلون؛ حيث إن زمن البحث عن الطعام لا يمكن تضييعه في علاقات اجتماعية لا فائدة تُرجى منها، وتكلما بلغة تخص قبيلتهما، ثم أعطى توأمه طعامًا ومالًا ووعدًا صادقًا، يعرف عبد الرزاق عن توأمه أنه خجول وعديم الحيلة، ولا يمكن أن يسرق شيئًا مهما صَغُر وأُهْمِل، ويعرف أيضًا أن عبد الرزَّاق قد يموت بالسجن إذا لم ينجده، الحبشة بلد غُربة، وهو لا يعرف رجلًا مسئولًا، أو وجيهًا إثيوبيًّا يستعين به، وحتى صاحبة البار التي كان دائمًا ما يختلف إليها، قالت له عندما حدثها عن محنة أخيه وتوأمه: لا، القشي حيقتلني، وهو ليس لديه مال للرشوة، أمامه بديل واحد فقط، ومضى نحوه دون تردد، عليه أن ينقذ توأمه مهما كلف ذلك، كان مختار علي يحكي لنا الحكاية كأنما حضر كل حادثة منها، أو أنه أحد أبطالها، على الرغم من أنه يؤرخ لذلك بين حين وآخر قائلًا: دا حصل من أكثر من مية وخمسين سنة.

كنا نسير ببطء عبر الأزقة، لا نهدف لمكان بعينه، هي فكرة مختار علي، أن نتمشى قليلًا في شمس الصباح؛ لأن بها فيتامينات مهمة، وأكد لي أنه حتى الثعابين تطلع من جحورها لتأخذ منها قوة النظر، صحته بدت في تحسن ملحوظ اليوم، كان متفائلًا ويضحك لأتفه الأسباب، يتحدث بصوت عالٍ، وهو ما ليس من طبيعته في شيء، وجدنا نفسينا ندخل زقاق بيت أداليا دانيال التي فاجأتنا من أعلى صريف بيتها: يا مختار علي، إنت وصاحبك تعالوا جُوه، صاحبكم ذاتو قاعد هنا في بيتي، تعالوا اشربوا ليكم مريسة، وونسوا خشم خشمين.

قبلنا الدعوة الكريمة شاكرين، فالدنيا صباح والمريسة أطيب ما يُستفتح به، وونسة الصباح هي مصيدة حكايات الليلة السابقة، سميتها وصديقي: جريدة الصباح، فالمريسة تطلق الخيال الذي بدوره يطلق اللسان، فينفتح القلب للقلب مباشرة، وتهبط ملائكة الحكايات الرائعة في المجالس فتحلو، وجدناه يجلس على بَنْبَرٍ كبير كشيخ أسطوري نُسِي من مذبحة العَنَج، على بَنْبَرٍ آخر قربه العَجُوز وهو أشهر مُغَنٍّ يستخدم أُم كِيكِي في الحِلَّة والحِلال المجاورة أيضًا، بالأحرى لم ير الساكنون مُغَنِّيًا يستخدم أُم كِيكِي غيره، ولم يسمعوا به مجرد سَمَعٍ، يبدو أنهما أنهيا فاصلًا ممتعًا من الأغنيات؛ حيث إنهما الآن يتحدثان عن مناسبة أغنية:

سَبعَه يوم عَوَضِيَّه بَيَي
أبو اللُّقَنَى رُوَدَاي بقنيص.

فالتقطنا بقية كلام نطق به العجوز: ناس الكَلَش هم أصحابها الحقيقيين، أنا جبتها من قيسان، وسمعتهم يغنوها في قنيص والكرمك، وحتى حي الزهور، وفي يابُوس وكل حفلات الروصيرص، لكن أنا أول زول يغنيها بأُم كِيكِي.

التفتَ إليَّ صديقي قائلًا في انشراح: وين إنت يا أبو الشباب؟

ضحكَ، ضحكتْ أداليا دانيال، ضحكَ مختار علي، وضحكَ هو في هستيريا، قال لي: إنت الوحيد البتضحك عن معرفة.

قالت أداليا وهي تهزُّ صدرها الناهد، فيما يشبه الرقص: يوم ليك ويومين عليك، كلنا عارفين يا أخوي، الدنيا أصلها كدا.

أحضرت أداليا دانيال العسلية، والمريسة، أحضرت الأم فِتْفِت بالشطَّة الخضراء، والفول الدكوة، قالت: عندي مُوليتة.

قال العجوز: أنا أحب المُوليتة.

سألتُها: عندك أبُنْغَازِي؟

قالت وهي تشير بأصبع عليه خاتمٌ كبيرٌ من الذهب إلى الشطة: فيها، الشطة فيها أبُنْغَازِي.

قدمت لنا أداليا الكئوس الأولى بيديها الناعمتين السوداوين، تبدو الحناء على أظافرها رقيقة ساحرة، شهية وأكثر سوادًا، بمنزلها أيضًا قليل من الجنقو، حيث سافر الجميع في الصباح الباكر لقطع السمسم، كان مختار علي، بين حين وآخر يذكِّر الناس بانتصاره على إسماعيل الجلابي: سُماعين ود الكِدِك، ما لقى جنقوجوراي واحد يمشي معاهُ.

ودون رد أو تعليق من الحاضرين أخذ العجور يغني بصوته الشجي:

قيسان البعيدة.
قيسان البعيدة.
عندي فُوقُو الحبيبة.
قيسان البعيدة، عندي فُوقُو الحبيبة.

ولأن كل أغانيه جماعية يستحيل أداؤها دون كورس، أخذنا نردد خلفه المقاطع الأولى من الأغنية، وليست تلك مهمة صعبة؛ حيث إن كل الأغاني معروفة لدى الجميع، أنا وصديقي غريبان، ولكن ترديد جملتين لحنيتين بالسلم الخماسي، بهما كلمتان من اللغة العربية، وخمس كلمات من لغة البرتا، وثلاث بالأنقسنا ليس بالأمر العسير، ولو أننا قد نشتُر عن اللحن والإيقاع أحيانًا، ولكننا نغني خلفه بإصرار وحماس، مدَّتنا به عسلية ومريسة أداليا دانيال بجمالها ومذاقها الحلو، في الحقيقة لا يُوجَد غُرباء هنا في الحلة؛ فور أن تنزلك بربارا أو يلقي بك باص كئيب، أو تهبط من ظهر لاندروفر، أو يرمي بك لوري في الحِلَّة، أو بمكان ما في السُّوق، تصبح أحد أفراد الحِلَّة المؤسسين، وتعرف كل شيء عن كل شيء، في ذات اللحظة وذات مكان الوصول، ويُصرح لك بأن تسرد تاريخًا متخيلًا أو حقيقيًّا، يؤكد تواجد جدودك القدامى في هذه الحِلَّة منذ أن كانت مفازة تسكنها القرود، والضباع، والشياطين بقايا مملكة سُليمان وبلقيس، رَقصتْ أداليا دانيال بصدرها المملوء باللبن بصورة رائعة، خلُدتْ في ذهني إلى الأبد، تبرع جنقوجوراي شاب من قبيلة الوطاويط اسمه أَغَازِي، ويعني بلغة البرتا المُر، بأداء إيقاع الكَلَش السريع الصعب، بواسطة وعاء بلاستيكي يُستخدم لتقديم المريسة، عندما انتهت الأغنية، صفقنا جميعًا لأنفسنا؛ حيث كانت الأغنية من أداء الجميع، رقصت أداليا دانيال عنا بصدرها الناهد الوافر؛ ما جعلنا نطلب باقي المريسة «البايرة» عندها؛ لأن الجنقو الفدَّادة ذهبوا، وأعطيناها ثمن جردلين من المريسة لم نشربهما، بِحُرِّ إرادتنا ووعينا، وحَشَر لها صديقي في فراغ ما بين النهدين في ما يُسْمَى ﺑ «وادي الكَدايس»، ورقة نقدية كبيرةُ، همس لي مختار علي في أذني ونحن ننصرف: لو ما عملت كِدا كان تبيع مريستها الحامضة دي لمنو «لمن»؟ وعسليتها البايرة؟

وضعنا سريرينا قُرب قُرب في المساء، كان الضوء الباهت يأتينا من داخل القُطية في شكل عمود ضخم، حكى لي عن أسرة الصافية كما طلبتُ منه، الجدة ووالدها عبد الرازق، حدثني أن الجد جاء إلى هنا بعد هروبه العجيب من سجن الحُمرة وعلى رأسه «الفِرو»، وهو أول شَخص في تاريخ الحبشة يهرب بالفِرو، وربما في إيطاليا ذاتها؛ لأن الإيطاليين هم الذين جاءوا بالفِرو إلى الحَبَشَة، وهو يُستخدم لتأديب الثوار واللصوص، شربنا قهوة أعدَّتها لنا إحدى الجارات، وناولتها لنا من على الصَّرِيف، مُذكِّرة إيَّانا بأن اليوم هو عيد القديس يُوهَنِس، باركنا لها العيد، واعتذرنا عن المُباركة المتأخرة؛ لأننا ما كنا نعلم، قالت لي الجارة: ألم قِشي تسلِّم عليك، سألتها بسرعة: وين ألم قِشي؟

قالت وبصوتها احتفالية جزلة: هي قاعدة معانا هنا، عايز تشوفها؟

وجودنا في بيت مختار علي، حرمنا من حضور الاحتفال العظيم الذي أقامته أَدِّي في منزلها؛ احتفاءً بعيد القديس يُوهَنِس، وحرمنا من وجبة الديوك الحمر والأم بَابَا، ولو أنه لم يكن هناك رقص وغناء نسبة لانشغال وَد أَمُّونة بتعليم العروس الشتراء، إلَّا أن اليوم كما حُكي لنا لاحقًا كان «خطير»، على حسب تعبير ألم قِشي، وأشيرُ هنا إلى أن ألم قِشي هو الاسم الذي يلاحقني في هذه الأيام، وأنا وهي متهمان بأننا ننوي القيام بخطوة ما كانوا يتوقعونها، يقولون إننا سوف نتزوج في عيد الأضحى القادم، وأقل الأقوال تفاؤلًا بعلاقتنا هي أنني أحبها حُبًّا شديدًا، وهي أيضًا متأكدة من حُبي لها مثلها مثل الجميع، إلَّا أنا لا أعرف شيئًا عن هذا الحُب، كل ما أعرفه أن ألم قِشي أول من أنهت عذريتي بصورة واضحة وطبيعية، وأنها إلى حد ما كسرت حاجز الخُوف الذي بيني وبين المرأة؛ والحق يُقال أيضًا كنت دائمًا ما أتخيل نفسي بأنني سوف أفشل مع النساء حالما تُتَاحُ لي الفرصة كاملة، لذا كنَّ يُخفنني، كما أنني كنت مقتنعًا بفكرة غريبة مفادها أنني إذا فشلت مع المرأة الأولى سوف أصبح عِنِّينًا بقية حياتي، ولم تنفع الشهادات الهشة التي كنت أستعين بها للدفاع عن رجولتي من حين لآخر، مثلًا ذِكرى صاحبةَ الطحَّانة التي اغتصبتني وأنا طفل، وذِكرى أخت زميلي، ذِكرى دَحَشَة، ومِعزة، أتيتهما وأصحابي المراهقون، ذِكرى كلبة ألبسناها طَبقًا من السَّعف حول عنقها واغتصبناها، وأستاذة الجامعة الشبقة وغيرها من الممارسات غير السوية المقرفة، ألم قِشي هي التي أعادت لي ثقتي بنفسي بِحِرفية عالية، بذكاء بالغ، بمتعة مدهشة، وجدت نفسي أتعامل مع امرأة كاملة طبيعية وإنسانة، أتينا الفِعْلَ في ليلة واحدة ما لا يقل عن عشر مرات، أو قلُ الليل كله، وعند الفجر، وقبل وبعد الإفطار، أعطيتها أجرها بكرم سخي، ثم لم نفعل مرة أخرى، ولو أننا تقابلنا وشربنا القهوة معًا وتلامسنا، أما مسألة الحُب، والزواج، وغيره، وغيره لم أعرف منها شيئًا، ولم أفكر فيها أبدًا، وإذا صَدَقتُ القَول أنا لم أحب في حياتي مطلقًا، وغالبًا ما يصفني أصدقائي بأنني «بارد»، ألم قِشي سيدة طويلة، لها بشرة ذهبية ناعمة، بل قل حَمراء، لها عينان حبشيتان كبيرتان، يُحيطُ بهما ظل ثقيل يكسيهما سِحرًا خاصًّا بساكني المناطق الجبلية والهضاب العالية ذات المُنَاخاتِ المطيرة، فوق ذلك لم تكن بالسيدة الفاتنة فتنة ظاهرة صارخة، على الرغم من أن لها جسدًا شهوانيًّا، وإلَّا لأصبحت عاملة بار ناجحة في الحُمرة، أو قُنْدَر، أو حتى أديس أبابا ذاتها، ولكن ما يبدو من فتنتها أبعدها، كما تقول دائمًا، عن منافسة البَارِسْتَات المحترفات شكلًا ومهارةً هنالك، وقادها إلى الأراضي السودانية الجديدة، حيث شِيعَ وعُلمَ عن السُّودانيين حُبهم للحبشيات وتفضيلهن على نسائهم الوطنيات، وسبب ذلك كما تؤكد ألم قِشي: الطَّهَارةَ «الختان» وعَدَم الحِنيَّة، وعدم الحِنيَّة سببه الطهارة برضو، قلتُ للجارة الطيبة: قولي لألم قِشي مبروك عيد القديس يُوهَنِس، وأنا ح أجيها بعد شوية عندكم، أصدرتْ الجارةُ صوتًا بباطن لسانها، وشفطت كمية من الهواء بفمها، فيما يعني في هذه الأنحاء: حسنًا.

ساعدتُ مختار علِي عَلَى الاستحمام، لأول مرة تقريبًا يستحم، منذ أكثر من أسبوعين، أي مُنذ أن أُصيبَ، حيث نُصح بعدم الاقتراب من الماء، حتى لمجرد الوضوء للصلاة، عليه بالتيمم، نَصحهُ أفراد كثيرون أصيبوا قبله بضربة الدم، وهو التصنيف المحلي لمرضه المجهول، عندما فرغنا من الاستحمام وجدناها في انتظارنا خارج القُطية، في الراكوبة مضجعةً على عَنَقَريبٍ عجوز دون لحاف، تُظهر عُري سَاقيها بصورة استعراضية إيروسية في غاية الإغواء، قالت: طالما أنا رافض أن أزورها، فبادرت هي بالزيارة، ولكنها أكدت أيضًا أنها لن تكرر هذه المحاولة: كُلنا عِندنَا عِزة نَفِس.

تشاغل مُخْتَار عَلي بأمر ملابسه، ونظافته الشخصية، سأعترف هُنا بأن ألم قِشي أحَبتني، ولكن في ظاهر الأمر أنا الذي أغار عليها؛ لأنني طلبت منها أن تترك العمل مع أَدِّي كفتاة مَبيت، وتعمل طباخة في مَيسِ شركة الاتصالات الجديدة، قلت مُعلقًا ومحببًا الفكرة: عمل شريف.

قالت بِغنج، وهي تحاول أن تخفي عُري ساقيها، بحركة أخرى أكثر إثارة: عملي مع أَدِّي عمل شريف.

قلت لها: على الأقل أنا شايفه غير شريف.

قالت بإصرار: أنا شَايفَاهُ عكس كِدَا، دَا شُغُل، العايز يدفع، وأنا بصراحة ما قاعدة أستمتع بالرُّجَال، شُغُل يَعْنِي شُغُل.

وأكدتها باللغة التِّجْرِنة «سَرِحْ سَرِحْ بَيُوْ» ثم أضافت: العَيب فيهُ شُنُو؟

عرفتُ فيما بعدُ، بعدَ سنوات كثيرة، وذلك بعد أن قرأت كتاب «نَقْدُ الفِكرِ اليَومِي» لمهدي عامل، أن العيب الذي فيه تربيتي أنا، القيم الخاصة بي كآخر أقيم في ظرف مختلف، ونوع مختلف، وثقافة مختلفة، تراني أعترف بأنها فتحت لي آفاقًا إنسانية فيما يخص علاقتي بالمرأة. وتراني استمتعت تمامًا بالفعل الجِنسي معها، ولكنني رغم ذلك أنظر إلى الأمر كله بميزان الخطأ والصواب، وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مدعٍ آخر وهُمَا أنا، هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيرًا، ولا أظن أن الأمر له علاقة بالدين، أو السلوك الشخصي، المسألة معرفة فحسب طالما كُنا أنا وهي نُدرك أن الخير والشر، وكل الديانات، والكُفْر أيضًا من ذات المصدر، وأن العمل مقدس. ناداني في هدوء، خاطبني قائلًا: تعال ح أحكي ليك موضوع الصافية.

قلت له متعجبًا: إنت مُش حكيته لي أمبارح؟

قال وفي فمه ابتسامة تعبة: الحكاية القصيتها ليك قطعتها من رأسي، إنت حاصرتني، وأنا حاولت أفوتك، تعال يا مختار علي كُون شَاهِد، هي حكاية على كل حال ظريفة، ولا رأيكم شنو؟

أشرنا برأسينا في وقت واحد إيجابًا، وجلسنا على عنقريب وبنبر قربه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤