المنظر

(«حضير» في منزل أبي الفوارس الهواري من دوَّار أبي مصطفى عمدة القرية الفيومية. به مصطبة إلى أعلى. إلى جوارها من اليمين باب، هو في الوسط، واسع يظهر منه عن بعد مزرعة قطن أشرقت عليها شمس الغروب فهي زاهية، وإلى يمين المرسح باب غرفة وإلى يساره غرفة أخرى، بل هي ردهة تؤدي إلى بيت العمدة. والمكان مفروش بحصيرة «قياس». والمصطبة عليها «شريط» من السمار له مساند من القطن، مخدات.. وقد ترى أدوات المنزل من قلل وزير وما يلحق بمنزل عربي يعيش عيشة الفلاحين من أدوات الدار.

إذا ارتفع الستار وجدت الحسناء سلمى جالسة في حالة تفكير على المصطبة وهي لابسة جلابية عربية قصيرة؛ أي إنها تصل إلى ما دون الركبة بفتر تقريبًا. وعلى رأسها عطفة زرقاء. وهي بيضاء اللون خمرية لون الخد صغيرة الوجه وفي عنقها عقد من العقيق والخرز الأزرق … ثم تسمعها تغني ترنما.)

سلمى :
طال شوقي لحبيبي مصطفى
غاب عني أشهرًا وما اكتفى
يا حبيب القلب أدرك مدنَّفا
كاد يرديه التجني والجفا

(في هذه الأثناء كان مصطفى قد وصل إلى البلدة من المحطة وهو بلباسه الإفرنجي فلما سمعها تغني هذه الأبيات انطلق يرد عليها بالأبيات الآتية.)

مصطفى :
أين سلمى أين من قد شغفا
بهواها القلب حتى تلفا
إن تضنِّي بالسلام صلفا
جُدتُ يا سلمى بنفسي سرفا

(فلما سمعت سلمى صوته نهضت من مكانها وتلفَّتت هنا وهناك.)

سلمى : من هذا الذي يسميني باسمي! أيكون مصطفى قد عاد من القاهرة! وي (يدخل مصطفى) مصطفى! (تجري إليه ويجري إليها فاتحًا ذراعيه! وتستسلم له.)
مصطفى : سلمى، سلمى! (يقبلها.)
سلمى : مصطفى! مصطفى (وتنظر في وجهه تمتع عينيها برؤيته وتسكت مدة طويلة ثم تقول) أنت هنا أيها الحبيب! أنت هنا ولا تدخل عليَّ! كيف؟ أخبرني.
مصطفى : أتيت من القطار إليك توًّا.
سلمى (تأخذه إلى الأمام) : والله لو كنت قد مررت ولم تَمِل عليَّ قبل سواي ما عفوت عنك.
مصطفى (بتلطف) : كيف أَمْلِك أن أرى قبلك أحدًا؟ إن أمي تلتهب شوقًا إليَّ وهي هنا لا يفصلها عنك إلا وصيد الدار. ومع ذلك … (يقطع حديثه عن أمه) آه يا سلمى! ما تمنيت على الله شيئًا في هذه الأشهر الثلاثة التي احتبست فيها في المدرسة بعد عيد النحر إلا أن أراك وأملأ عيني من نور هذا الوجه الصبيح (يقبلها) وأمتع هذا الصدر بضمك إليه (يضمها إلى صدره) هنيهة من الزمان ليهدأ هذا القلب الذي يدق الآن لصاحبه دق البشرى بهذا اللقاء يا سلمى! كيف حالك أيتها الحبيبة؟
سلمى : كما ترى يا مصطفى! كما ترى! لقد شفَّني الوجد لنواك، ولطالما تمثَّلتك جالسًا إلى جانبي في بطن وادي الصفصافة ثم تنبهت لنفسي فلم أجدك بجواري فأسرفت عيني في دموع تروي شبح تلك الصفصافة التي سقيناها من قبل شآبيب السعادة وأمواه الغرام. خبِّرني كيف كان بُعدك عني؟
مصطفى (بتأوُّه خفيف طويل) : كيف كان! كيف كان! ألا تعرفين؟ (ثم ينطلق يغني الأبيات.)
سلي خيالك عن قلبي وما وجدا
وما لقيت وما لاقى وما شهدا
قد كان في القلب طيف منك يؤنسني
واليوم من نار هذا القلب قد شردا
فإن بكت وحدتي عيني فقد أمنت
نفسي عليه من النيران إذ بعدا
كم ليلة بتُّها أرعى سواهدها
حتى رقدن وجفني قط ما رقدا
مللن مني أنَّات أرددها
فَمِلنَ عني مع الصبح الذي وفدا
يا أيها الجفن خبِّرها بما فعلت
بك الدموع وأشهد ذلك الرمدا
وإذ بلغت المنى فاعصِ الدموع إذا
هلَّت تحيي محيَّا البدر حين بدا
أو فَارْوِ بالدمع وردَ الخد تلثمه
عند اللقاء وغصن القد إذ ملدا
لا تجْرِ يا جفن دمعي في اللقاء على الـ
خدين منيَ مجرى حرقة أبدا

(ينشد هذه الأبيات وعيناه مغرورقتان بالدموع فتدني سلمى يدها من عينيه وتمسح الدموع وهي تحادثه أو تقبله بلطف.)

سلمى : هوِّن عليك أيها الحبيب! إنك الآن بين ذراعي فجفف هذي الدموع، حرام أن تجري دموع السرور على خدك حيث جرت دموع الوجد والأنين (تقول هذا وهي مغرورقة بالدموع).
مصطفى : وأنت أيتها الحبيبة، لماذا تبكين؟
سلمى : إن هي إلا دمعة فرح بلقياك اعتدتها في نواك، أتحسب أنك فارقتني أيها الحبيب؟ لقد كانت أيامي بك ولياليَّ فرقةَ ساعةٍ تعقبها بطيفك لقيا هناءة، تدر لها عيني درة غبطة ونعيم (تجلس بجواره) وعما قريب نجتمع اجتماعًا لا فراق بعده. أفتأبى عليَّ أن أودع الوجد بدمعة وأستقبل السعد بأخرى؟!
مصطفى : افعلي ما شئت أيها الحبيبة فإني أعرف ما في الدموع من لذة الدامع. ولعمري (ذراعه حول عنقها) ليس من حق المحب أن يُدِلَّ على المحبوب ببكاه؛ فإن له من هذي الدموع سلوى لنفسه وعزاءً لروحه.
سلمى : هو كذلك أيها الحبيب (تتنبه إلى وقع أقدام فتلتفت) من القادم؟
مصطفى (يتنبه بلطف) : من؟
سلمى (تنهض وتسير صوب الباب الموصل إلى بيت العمدة إلى يسار المرسح بالنسبة للمتفرج) : هذي أمك آتية.
مصطفى (ينهض عجلًا عن المصطبة) : أمي! وا سوأتاه! إنها ستعيب عليَّ أني لم أرها أوَّل الناس. ماذا أقول لها؟
سلمى : قل لها ما شئت أيها الحبيب، إنه لا يغضبها أنك معي أو تكون لي.
مصطفى : كيف؟
سلمى : هي قالت لي ذلك … مرحبًا بك يا خالتاه.
الأم (تدخل وعلى رأسها صينية عليها أطباق مغطاة وهي في لباس نظيف مهندم من لباس أهل القرى وعلى رأسها عصبة من الحرير النفيس الملون بمختلف الألوان ذات أهداب طويلة مدلاة فوق ظهرها، وهي في الخمسين من عمرها أو دون ذلك) : مرحبًا بك يا سلمى. هذا طعام أبيك يا بنيتي. (تلتفت) وي! مصطفى! أنت هنا؟!
مصطفى : معذرة يا أماه.
الأم (تناول الصينية سلمى فتدخلها هذه الغرفة اليمنى على المصطبة وتهرع الأم إلى ولدها تقبِّله) : يا حبيب قلبي! لقد علمت من الكلَّاف أنك وصلت من المحطة بالسلامة. فلما لم تدخل زعمت أنك ذهبت للقاء أبيك (تعود سلمى) ولكنك لم تشأ أن ترى هذا أيضًا. أخذت تنساني يا بني! ماذا ينسي الولد أمه إلا الحبيبة التي يهواها (تنظر إلى سلمى باسمة).
مصطفى : ما نسيت والله يا أماه. ولكني رأيت سلمى قريبة مني فلم أشأ أن أمر بدارها ولا أراها. أنت علمتني ذلك يا أماه. ألم تقولي لي آثر عمك الهوَّاري على أبيك في البر وابنته سلمى على أختي هاجر؟
الأم : صدقت يا بني، كن كذلك دائمًا. ولكني أم، فلا تؤاخذني إذا نسيت ما به أوصيتك.
سلمى (تتقدم منها وتتعلق بأكتافها وتنظر إليها) : يا خالتاه! لو جازت الصلاة لغير الله لصليت لك. ولكني لا أملك إلا حبًّا عظيمًا وشكرًا خالدًا لا يعلم إلا الله وأبي نجواه.
الأم : أنت ابنتي يا سلمى (تقبِّلها) وستكونين لابني هذا عما قريب. لن يمر إن شاء الله أسبوع حتى أزفك إليه وأراكما مني كالحمامتين لدى برجهما يتناجيان وسأبني لكما دارًا بالقرب مني، من مالي أنا ثم أهبها لك أنت يا سلمى (تقبِّلها).
سلمى (تقع على ركبتيها وتتعلق بالثوب حيث تصل يدها من قامة الأم) : اللهم اغفر لي ركوعي، فإنما هذا الجود من جودك وهذي المروءة من إحسانك، لا طاقة لي على شكرك قائمة (تأخذ يدها وتقبِّلها).
مصطفى (يقف يتنهد من الفرح) : وا فرحتاه!
الأم : سلمى، سلمى! انهضي يا بنيتي، وتعالي معي إلى الدار لأعطيك العقد الذي دخلت به على أبي مصطفى.
مصطفى : انهضي يا سلمى (يذهب إليها ويقيمها) هذا عقدٌ مبارك إن شاء الله، إنه من الدرر النادرة يا سلمى وللدرة في البيت بركة عميمة.
سلمى : شكرًا لك يا خالتاه.
الأم : واذهب الآن يا مصطفى إلى أبيك، إنه عند السواقي وإذا سلَّمت عليه وجلست منه فقل له أمي تُقرئك السلام.
مصطفى : طوعًا يا أماه، ولكن ما معنى هذا؟ أأنك لم تريه منذ عهدٍ بعيد؟
الأم (تضحك بهدوء وصوت لا أثر فيه للحدة مطلقًا، بل هو ضحك القانتات كالراهبات ومن أشبههن) : ها، ها، إنه علامة بيني وبينه، لقد طلبت إليه أن يفاتح ضيفنا الكريم في شأن زواجك فقال إنه يخشى ألا تكون لك رغبة في الزواج وقد جعل عليَّ أمر سؤالك. وها أنا ذا قد عرفت كل شيء، فاذهب إليه أقرئه السلام، ثم تعالَ إلينا في الدار على بركة الله. هلم يا سلمى (تخرج هي وسلمى. وإذ ينفرد مصطفى بنفسه يأخذ يتطلع إليها لحظة ثم ينطلق ينشد):
صفا لي الدهر يا سلمى فعاطيني
من ثغرك العذب، أقداحًا تداويني
دنا الوصال فلا دمع يباكرني
وجدًا عليك ولا نوح يغاديني
سأسهر الليل لا شجوًا ولا أرقًا
بل فرحة بك في نعمى تواليني
صبرت للحب حتى إذ وَهَى جَلَدي
وافاني الدهر عن صبري يجازيني
أُثني على الدهر فضلًا كنت أنكره
والدهر أكرم نفسًا لا يعاديني
يا أيها الدهر عفوًا إنْ يَلُمْكَ شَجٍ
هل يحسب الصب إلا في المجانين؟
أحق بالبر مسكين شكا فلحا
والصب يا دهر مسكين المساكين

(يهم بالخروج من الباب الأوسط وإذا بأبيه العمدة داخلًا فيلاقيه.)

الأب : ولدي، مصطفى! مرحبًا بك في دار أبيك، لماذا لم تجئني يا بني؟ لقد علمت أنك وصلت من المحطة منذ ساعة، فلما لم تجئ إليَّ تمتعني بنظرة إلى هذا الوجه الصبيح سعيت إليك يا بني.
مصطفى : عفوك يا أبي، لقد كنت على وشك أن أسعى إليك ساعةَ دخلت، فإن أبى الله إلا أن تجيء أنت إليَّ فذلك لأن الله يأبى إلا أن يكون لك الفضل عليَّ في كل شيء وليكون لي من تقصيري خجلة تذكرني دائمًا أني لا أستطيع أن أجزيك عن برك بي لا حبًّا ولا شكرًا. اعْفُ عني يا أبتاه! اعفُ عني (تدمع عينه).
الأب : إليَّ يا بني إليَّ! لا تبكِ، لماذا تبكي؟ إني إنما أعيش لك وأسعى، وأجمع المال ليكون لك عدة في الحياة، فإذا سعيت على قدميَّ فإنما أسعى إلى نفسي، وحسبي يا بني أن أراك بعيني كل يوم، هذا جزائي منك ولا أطلب إليك سواه.
مصطفى : آه يا أبي! لولا أنه يجري في عروقي من دمك النبيل فيض كوثري لأفسدني هذا المقال. ولكني أعلم يا أبتاه أن حب الوالد من حب الله، ومن يحببه الله فقد وجبت له عليه الصلاة. سأصلي يا أبي! أجل سأصلي فوق الفروض والسنن، فرضًا عليَّ بما نعَّمني به من حبك، ثم أدعوه أن يطيل في حياتك لأتذوَّق نعيم الجنة في الدنيا، فما حياتي في جوارك إلا كحياة الأبرار في ظل الملائكة الأطهار.
الأب : شكرًا لك يا بني شكرًا (يقبله)، أرأيت أمك؟
مصطفى : أجل يا أبي: وهي التي دلتني على مكانك حين هممت إليك محمَّلًا منها برسالة سلام.
الأب : كيف؟ ماذا حملتك؟
مصطفى : كلفتني أن أذهب إليك فأقرئك السلام.
الأب (يبتسم) : وعليها السلام ورحمة الله. (يسكت ثم يتكلم) أفأنت إذن لا تأبى زواج سلمى؟
مصطفى (بحياء) : أبي!
الأب : لا تستحي مني يا بني! خبرني ولا تحتشم. لقد كانت عزيمتي قد صحَّت على تزويجك في هذا العام بعد إذ أتممت دروس المدرسة وبلغت سن الرشد. إني لا أود لك أن تسلك طريق الحكومة، لا كبرًا عنها، ولكن أجدادك الأقدمين كانوا حكامًا ومنهم من لم يُرضِ الله ولا الخلق، وأنا رجلٌ عجوز احتسبت أولادي عند الله جميعًا كما احتسب ضيفنا الهوَّاري ذكوره جميعًا. وأشتهي يا بني أن أزفك إلى عروس يرتاح لها قلبي كما ارتاح لأمك المباركة، ليكون لك أولاد يتصل بهم نسبنا في الصالحين. فماذا ترى في ذلك؟
مصطفى : أنت وما ترى يا أبتي.
الأب : أيرضيك أن أزف إليك سلمى ابنة ضيفنا الهواري؟
مصطفى : أبي!
الأب : أريد أن أسمع منك جواب الرضا إن رضيت. إن أمك تبلغني رضاك، ولكني أود استماع الجواب منك (يبتسم).
مصطفى : أجل يا أبي، افعل ما تريد متكرمًا.
الأب : أم ترى أن أزف إليك فاطمة ابنة خالك؟
مصطفى : بل سلمى يا أبي، إني أحب سلمى.
الأب : ها، ها، ها. فلتكن سلمى يا بني، هذي فتاة تصلح لك وما كنت أشتهي إلا أن أراها في بيتي قيامًا بحق المروءة عليَّ. لا تحسب يا بُنيَّ أنها كعامة الناس، إن أباها هذا كان سيد قومه، كان زعيم بطن من الهوَّارة يسكنون صحراء عيذاب ثم اختلف بعضهم معه على دار وتقاتلوا حتى أفنى بعضهم بعضًا. وكان أبو الفوارس مقهورًا فنبا بنفسه عن مكان ذِلَّته تاركًا من ورائه جثث خمس من أولاده وقصد الفيوم بابنته سلمى هذي وعمرها إذ ذاك دون التاسعة. ولما نزل عليَّ يا بني ضيفًا لم يكن يتذوق طعامنا إلا كل ثلاثة أيام، كبرًا عن طعام الناس. ولكني كنت وحقك يا مصطفى لا أذكر أنه ضيفي ولا أشعر أنه في بيتي، وإنما أشعر أني وإياه في بيت الله، فما هذا الملك الواسع إلا من فضل الله. ولقد عاشرت الرجل فتبينت حاله وتفحصت معدنه، وعلمت أنه نقطة عطر مشتارة من ربيع الأعراب. ولقد كنت ثاكلًا وكان ثاكلًا أيضًا فجمع الأسى بيننا. ثم رأيته يتأفف من مكثه عندنا فأقطعته ما ورثته عن أمي وقلت له إن هذه الأرض لقاح لا يملكها أحد، إنما هي لمن أرادها. فأخذها يزرعها ليطعم نفسه منها. وأعطيته هذه الشقة من دوَّاري حتى يبني له دارًا. ولكنه علم بعد عهد أن الأرض لي فأكبرها ولم يعلم أني غيَّرت من حبي له، فآوى الرجل إليَّ وأقسم لا يفارقني حتى الممات.
مصطفى : أحسنت الصنيع يا أبي، أحسنت.
الأب : فإذا زوَّجتك من سلمى، فإني أزوجك ابنة رجلٍ كريم؛ أي عربي في الأرض لا يعدل ملكًا!
مصطفى : أجل يا أبتي أجل.
الأب : حسب الإنسان في الدنيا أن يكون عربيًّا ليكون كريمًا. فإذا زفَّت سلمى إليك، أتم به برهان ودي للهواري، فإنما أزف إليك بها العزة والمجد والطهارة بَلْهَ هذا الجمال الذي لا يفوقه فيها إلا جمال نفسها وأدبها.
مصطفى : صدقت يا أبي! صدقت.
الأب : هنيئًا لك يا بني ولي ولأمك! اذهب الآن إليها وخبِّرها تبعث في طلب أختك هاجر هي وأولادها وزوجها من كفرة سليم على الفور. إني سأفاتح الهوَّاري في شأنها الساعة، ولن تبيتنَّ الليلة يا مصطفى إلا عروسًا.
مصطفى : أمسك يا أبي عني! إن صدري صغير لا يسع كل هذا السرور، أرجئ ليلة العرس أو أخفها عني وليكن عقد الزواج سرًّا، وإذا زففتني فليكن بلا حفاوة؛ حتى لا يعلم هذا القلب الثائر (يضع يده على قلبه) بهذه السعادة ولا ينفطر. أمسك يا أبي أقصر (ينشد وهو بين ذراعي أبيه):
أيها القلب تمهل واتئد
ليس ما تنظر إلا حلما
أوشك الصدر الذي تضربه
كلما تخفق أن ينهدما
لا تصدق أننا نلنا المنى
إنها أبعد من هذي السما

(ثم يلتفت لنفسه.)

فاعتبر يا قلب، من يدريك ما
في ضمير الغيب عني كتما
ما لنفسي قد تولاها الأسى
وغدا قلبي لقولي وجما
لا يَرُعْكَ القول يا قلبي وكن
مثلما تهوى طروبًا مغرما
دُقَّ يا قلب وَثِبْ واظفر ونل
لذة العيش ولاقِ النعما
وَالِ دقاتك ممراحًا وتِهْ
واملأِ الأسماع بشرى كرما

(يخرج من باب الوصيد إلى الدوار.)

الأب : أجل يا بني هكذا يكون.

(وإذا بالهواري قد دخل وهو لابس طربوشًا مغربيًّا ذا زر طويل وعلى صدره شال أبيض من الحرير وفي رجله مركوب أحمر.)

الهواري : سلامٌ على أخي العمدة الكريم.
الأب : وعليك السلام يا أبا الفوارس، لقد هممت أن ألقاك فساقك الله إليَّ.
الهواري : خيرًا إن شاء الله (يجلس على المصطبة) أَجَدَّ شيء؟ إني علمت أن ولدنا مصطفى قد عاد من مصر سالمًا ليقضي معنا أشهر العطلة، فهل رأيته؟
الأب : أجل كان معي الآن ثم دخل إلى أمه.
الهواري : حمدًا لله على سلامته.
الأب : سلمك الله (سكوت) يا أبا الفوارس!
الهواري : لبيك يا عميد الكرام!
الأب : لي حاجة لديك.
الهواري : مقضية إن شاء الله. تالله لقد أقسمت لا أخيِّب لك رجاءً ترجوه، مُرْ تُطَعْ، إن لك في رقبتي ذمة لا تُخفر.
الأب : شكرًا لك يا أبا الفوارس، أنت تعلم أني مثلك رجل عجوز أكلت القبور أولادي.
الهواري : أبقى الله عليك مصطفى، إنه لخير من قبيل.
الأب : آمين، آمين. وأرى أنه قد بلغ سن الرشد منذ عامين واليوم أتمَّ علوم مدرسته في مصر، وحصَّل ما يكفيه فيما أظن لتدبير ما تركه لي أبي من الأرض الواسعة وما حصلته بإذن الله وتوفيقه.
الهواري : تبارك وتعالى.
الأب : ولقد خطر لي يا أبا الفوارس أن أزوِّج الغلام في حياتي لأطمئن عليه وأفرح به.
الهواري : تحسن صنعًا؛ إن الزواج ليحفظ على المرء نصف دينه.
الأب : وإذا كانت الزوجة صالحة حفظت عليه النصف الباقي.
الهواري : صدقت، صدقت.
الأب : وقال النبي عليه السلام: «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس.»
الهواري : عليه الصلاة والسلام. هذا رأينا نحن الهوارة والعرب أجمعين، وإلا لفسدنا وفسدت الأرض بنا.
الأب : ولقد رأيت أن أجعل صلتي بك بعد مماتنا كما كانت في حياتنا وأن تكون ابنتنا سلمى واسطة لذلك.
الهواري (يستوي متنبهًا) : ماذا؟ ابنتي!
الأب : أنتم أيها الأعراب أطهر خلق الله دمًا وأعزهم وآباهم للضيم.
الهواري (يعود إلى مجلسه مفكرًا) : شكرًا لك.
الأب : أنا رجل لا أدانيك صراحة نسب، وإن كنت من سلالة السلطان طومان؛ إذ استوطن أحدهم الفيوم فارًّا من سيف السلطان سليم لما غدر بالسلطان المصري ثم اختلط بأهلها وخلف ذرية كنت أنا من بعضها.
الهواري (يتأوه) :
رحمة الله على عهدٍ مضى
وزمان كنت فيه سيدا
يوم كان الناس يعشون إلى
ضوء ناري في العشي أبدا
يوم كان الحُرُّ من أفذاذهم
لا يمنِّي النفس مني ولدا
وأراني باخعًا نفسي بما
أوجب الفضل عليها والندى
الأب : ماذا تعني يا أبا الفوارس؟
الهواري : لا تقل يا أبا الفوارس، إن فوارسي قد ماتوا قتلهم أهلوهم في صحراء عيذاب ولم يبقَ من سكان العرين إلا سلمى.
الأب : بركة الله فيها إن شاء الله.
الهواري : يا ليتني أفقدتها ولا أفقدت شعرةً من أولادي.
الأب : معذرةً إليك يا أخي، أيسوءك أن يسألك أخ لك لم تلده أمك زواج ابنتك بابنه؟
الهواري : آه أيها العمدة! كيف آبى عليك هذا وليس في مقدوري أن أرد إليك جميلًا وقد أقسمت لا أخيِّب لك رجاء. أما جئتك من صحراء عيذاب ثاكلًا محزونًا فعزيتني وأمنتني وجعلتني من بعض أهلك! تسقيني أنت القهوة بيدك وتحمل الطعام إليَّ امرأتك وأنا رجل أنزلتني الأيام منزلة فوقها منازل الصَّغار والذلة! ثم ألم تعطني من مالك أرضًا واسعة فوق ما يرجو طالب الدنيا ولم يكن لك فيها مَنٌّ ولا إعلان!
الأب : لا تذكر الأمر بحقي عليك! فما كان جودًا مني بل كانت أمانة الله عندي حتى جئت فأخذتها. لقد كانت أمي عربية من بني سليم، فإن أصابك مني شيء فهو حق لك لأني ما أقطعتك إلا ما ورثت منها، والعربي أحق بتراث العربي.
الهواري : ذاك غاية الفضل يا أبا مصطفى. نعم أنا هوَّارة يا أبا مصطفى، ولن يسمح الهواري بزواج ابنته من غير هواري صميم، ولكني لا أستطيع أن أدلك على مكان جميلك من نفسي إلا بإجابة سؤلك: خذ ابنتي، لتكن لك بعد ساعة إذا أردت.
الأب : لقد نسيت عادتكم يا أبا الفوارس، فإن كان في نزولك عنها ما يسوءك فقد نزلت عن رجائي، وما أرجو منك رد جميل، فما لي عليك جميل وإنما ابتغيت منك فضلًا.
الهواري : لك ابنتي، لقد رفعت يدي عنها، امضِ في شأنها كما ترى لا رأى لي معك.
الأب : شكرًا لك يا أخي شكرًا، أيكون بعد ساعة إذن؟
الهواري : أجل بعد ساعة إذا أردت.
الأب : ايذن لي بشكرك، إنك أوليتني اليوم فضلًا جزيلًا (يقبِّله والرجل جالس) إني ذاهب الآن لأعد حفلة الزفاف وسأجعل مهرها مائة فدان، ثم أهب لمصطفى بهذا الزواج مائتين ويكون له ولأخته الباقي وهو غير قليل.
الهواري : افعل ما ترى، وأرسلها إليَّ متكرمًا.
الأب : سمعًا، سلام عليك (يخرج من الباب الأيسر).
الهواري : وعليك السلام والرحمة. (ثم ينهض ويتمشى في المكان منكَّس الرأس مدة ثم يرفعه ويتكلم.)
آه من جور هذا الزمان! آه من تخاذل الإخوان! أيها العرب الذين قاتلوني في صحراء عيذاب فقتلوا رجالي وأولادي، وسبوا حريمي، وأفنوا بيت أبي الفوارس حتى لم يبقَ منهم إلا هذا الشيخ النادب وتلك الفتاة اليتيمة، هذا أنا ذا أنتقم منكم بما فعلتم. وهذي ابنتي؛ المهرة العربية الفرهة، أزفها بملكي إلى برذون من براذين هذه الأرض التي تضيع فيها الأنساب كما تضيع نقطة ماء السحاب في لجة البحر في العباب (يسكت ويتمشى ويكاد يختنق) وا سوأتاه. وا سوأتاه! أمنتقم أنا منكم أم أن هذي يد الدهر لا تزال تتغلغل في جوف حياتي! تنتزع منها قلبها وروحها ثم تتركني صعيدًا جرزًا لا يحدث عني محدِّث ولا يخبر عني صدًى! ابنتي، ابنتي التي فررت بها من حومة الموت أسلمها بيدي إلى نغل من الأنغال، لتنقطع ذريتي. وليكون لي منه أخرى تؤاخي الشيطان وتكون شرًّا في الناس وبؤسًا! (يسكت ويبكي) أيها الهوارة الذين قاتلوني وقتلوا أشبالي أمام عيني، لقد عفا عنكم هذا القلب المحترق عفا عنكم طرفي الثاكل! لو جاءني بالأمس منكم فتًى حافي القدمين، عاري الرأس، لا معتذرًا ولا راجيًا ومد يده إلى ابنتي، غلابًا، ليفعم نفسي غمًّا، ما أبيتها عليه، بل لزودته بما في يدي شاكرًا راضيًا؛ فإنما دمكم أيها الأعراب أطهر الدماء وإن أفسدته الأحقاد. وآباؤكم أشرف الآباء وإن عقهم الأحفاد (يسكت ويتمشى) وي، وي! ماذا جد بي؟ ماذا عراني؟ ما لي أنسى فضل هذا الفلاح الكريم عليَّ؟! ما لي أنكر بره بي؟ وا سوأتاه ألم يجدني شريدًا فآوى وعاريًا فكسا وجائعًا فأطعم وعائلًا فأغنى. يا لله من جحود الإنسان! كيف آبى عليه ابنتي وما نماها إلى فضلة ولا أبقاها إلى اليوم إلا بره. وهذه النعمة التي أمرح فيها وأتقلب! أليست نعمته؟! لك ابنتي يا مصطفى جارية. ألا إنما نسب الإنسان حسبه وما كان فضل أبيك عليَّ ومذكور كرمه في هذه الأرض إلا دليلًا على كرم المحتد وطهارة الأرومة. ويح الأعراب ما أشد كبرهم وأخطل رأيهم! من أنا في الناس حتى آبى على هذا الجواد عذراء أنزلها كشح أهلها مرتبة الإماء (بتعجب) من أنا؟! من أنا؟! أنا عربي، أنا هواري، أنا أخو رسول الله ونصيره، تبَّ فؤاد لم يَرْعَ حرمة أهله! وشلَّت يمين تطعم المرء لذله! أيشتريني الرجل بلقمة، ويقتلني في ابنتي بمكرمة! لقد طالما أكرمنا الناس وأطعمنا! ويحي لن يجري في عروق أحفادي دم من نغيل. ماذا يقول الأعراب عن أبي الفوارس! وماذا أقول لنفسي (يسكت) أأفر بها من هذا المكان؟ أفر! أنا أفر وفي رقبتي للرجل ذمة وجميل وقسم ثم وعد؟ وا سوأتاه! اللهم أخرجني من أزمة هذا الضيق وأولني منك منَّةً وهدًى. أأقتل نفسي لكي لا أشهد بعيني جريمة يدي؟ ولكنه عار عليَّ. واحر قلباه! ماذا ينفعني قتل نفسي ولن يمحو سوء سمعتي ومفسدة الأحفاد (يسكت ثم يتكلم بصوتٍ خافت) أقتل الغلام (يسكت) أقتل مصطفى! وي! ماذا أصابني حتى أجزي الرجل عن برِّه بي أبد هذه الأعوام قتل ولده. لقد أنكرتني المروءة إن أنا هممت بمثل هذا (سكوت) سلمى! أقتلها؟ أجل. هي ابنتي حتى اليوم، هي ملك يدي. أقتلها تفاديًا من عار تزويجها هذا أدفع للريب عني وسوء الظنة، ولن يكون مصاب الفتى فيها كبعض مصابي. إن في الدنيا كثيرًا من أمثالها، أما شرفي فواحد، وما أقتلها إلا ليعلموا أني لا أنكر جميلًا، ولا أطيق نغيلًا، لَلْموتُ أولى لها وأستر، وبي أبر وأرحم.
سلمى (من الخارج) : أبي! ها أنا ذا.
الهواري : هذي هي، هذي هي (يجرد سكينًا من حزامه ويذهب إلى باب الوصيد ويضربها عند دخولها).
سلمى : ما هذا يا أبي (تطل من الباب ثم تتراجع وتقع) أنا سلمى ابنتك، سلمى أنا آه، آه. عفا الله عنك يا أبي (تسقط داخل الدوار).
مصطفى (من الخارج) : ما هذا؟ سلمى! أدركونا أدركونا.
العمدة والأم : ما هذا؟ سلمى! هذا دم، وا مصيبتاه!
مصطفى (يدخل) : ما هذا يا عمَّاه لماذا قتلتها؟! أواه!
الهواري (كأنه لم يفهم السؤال) : الآن محا أبو الفوارس الهواري عار الأحفاد وجاء بالبرهان اعترافًا بالجميل. لم أكن أطيق نكران الجميل فوهبتها ولم أكن لأخون عهد العرب بتزويجها من نغيل فقتلتها.
العمدة (يدخل) : لا حول ولا قوة إلا بالله!
الهواري : أيها العمدة الكريم لك مني جسدها ولي روحها وقد أخذت نصيبي في ابنتي فخذ الآن نصيبك (يلتفت إلى ابنته وصوته خافت مبحوح) أما أنت يا ابنتي فوداعًا (يبكي) وداعًا يا حبة قلبي، وإذا لقيت ربك فاشفعي لأبيك واعذري (يعلي صوته) لا تنسي أن النار خير في هذه الدنيا من العار. سلام عليك، سلام (ويخرج جاريًا).١
الأم : هلمَّ يا أبا مصطفى! هلم بنا نذهب بها إلى النورية! إن في الفتاة نفسًا يتردد (يذهب العمدة إلى امرأته ويحملان الفتاة ويخرجان بها. أما مصطفى فإنه منذ الأول يرتمي على المصطبة وهو في غيبوبة طويلة ثم يفيق).
مصطفى : أين ذهبوا بها؟ أين هي؟ آه واحر قلباه (ثم ينشد):
قد خيَّب الدهر يوم الوصل آمالي
يا دهر غدرك لم يخطر على بالي
ماذا جنيت؟ أكان الحب مأثمة
يصلى لها القلب نارًا ذات أهوال؟
أم أنت مغرًى بأهل الحب تحرمهم
نعمى الحياة إذا وافت بإقبال؟
والله يا دهر ما كان الهوى بيدي
إن كان هذا فإني تائب سالي
هبني جنيت فلم أخلفتني وعدا
عني الجزاء إليها وهو أولى لي
أم أنت تعلم أنَّا في الهوى شرع
فإن تصبها تصب قلبي وأوصالي؟
قد كنت أحسب سيف اللحظ يحرسها
والرمح ترهفه من قدها العالي
وكنت أحسب أن الدهر يعطفه
على الحبيبة ثغر باسم حالي
ويا أباها وقد أهوى بطعنته
هلا جعلت لها من إلفها تالي؟!
إنْ يجعلِ العُرْبُ خيرًا ما فعلت فلم
يذكر لك الله إلا شر أفعال
الحب فوق غضاضات النفوس ومن
تعارفا في الهوى كانا من الآل
ومن تكون به حال يعاب بها
يسمو به الحب من حالٍ إلى حال

(يدخل العمدة وامرأته عَجِلين إلى مصطفى ويصيحان.)

الأم : تنشَّط يا بني وافرح؛ إن سلمى لم تمت.
مصطفى : لم تمت!

(يسير إليها ويقبض على أكتافها.)

الأب : ستأتيك على الفور على قدميها.

(عند ذلك يدخل الفلاحون والفلاحات الذين كانوا مع سلمى يزغردن وتتبعهم سلمى ضعيفة بين أيدي النورية فلما يراها مصطفى يهرع إليها ويحتضنها ويُجلسها على المصطبة.)

مصطفى : سلمى، سلمى! لقد ردك الله إليَّ، إنه لا يرضى لحبيبين مثلنا فراقًا كالذي أراده أبوك. إلى صدري أيتها الحبيبة، إليَّ!
سلمى : مصطفى، مصطفى!
الأب : خذوا بشارتكم أيها الأحباب، وأنت أيتها الضيفة الكريمة (للنورية وتتقدم) لتكن لك عليَّ عادة ثلاثة أرادب من القمح ومثلها من كل ما تخرج الأرض كل عام بما بشرت وداويت. خذي الآن هذا (يقدم لها كيس نقود).
الأم : ومثلها مني من مالي الخاص.
النورية : شكرًا لك يا سيدتي.
مصطفى (ينشد) :
حنَّ الزمان وجاد لي
بك يا حياتي والمنى
ما عدت أشكو لوعتي
يومًا ولا أخشى عنا
هذا النعيم المرتجى
وأبي كرضوان هنا
قومي ادخليها وافرحي
وتقبَّلي رسل الهنا

(فتقع على صدره فرحة وهي تقول):

سلمى : مصطفى، مصطفى.

(ثم يأخذها بلطف ويسير بها نحو الدوار والفلاحون والفلاحات يزغردن ويسدل الستار.)

١  هنا انتهت الرواية في الأصل ولكن الأستاذ أبيض ودَّ أن يفرجها وطلب إليَّ أن أختمها ختامًا ترتاح به النفوس فأضفت ما يأتي بعد ذلك، ومع ذلك فقد دعاهم الموقف إلى الدخول بسلمى قتيلة وإسدال الستار بعد إنشاد القصيدة التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤