الرافعي العاشق

الحب عن الرافعي – هو وهي – شعر وفلسفة – وحب وكبرياء – هي وهو. تعقيب – رسائل الأحزان – السحاب الأحمر – أوراق الورد.

***

  • (١)

    «إن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها تعطيه بحبها جديدًا لم يكن فيه، وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلًا …»

  • (٢)

    «إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق …»

  • (٣)

    «… إن ملكة الفلسفة في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها …»

الرافعي

أتراني أستطيع الحديث عن الرافعي العاشق فأوفِّيَ القول وأبلغ الغاية … وهل يكون لي أن أدَّعي أنني أكتب في هذه الصفحات تاريخ الرافعي إذا أنا لم أعرض لحديث الرافعي العاشق …؟

وهل خلتْ فترة في حياة الرافعي من الحب؟

ذلك الرجل الذي لا يتخيله أكثر مَن لم يرَه إلا شيخًا معتجر العمامة مطلق العذبة مسترسل اللحية مما قرءوا له من بحوث في الدين وآراء في التصوف وحرص على تراث السلف وفطنة في فهم القرآن مما لا يدركه إلا الشيوخ، بل مما لا يدركه الشيوخ.

هذا الذي يكتب عن إعجاز القرآن، وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية، ويصف عصر النبوَّة ومجالس الأئمة وكأنه يعيش في زمانهم وينقل من حديثهم …

هذا الذي كانت تتصل روحه فيما يكتب — من وراء القرون — بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد بن المسيَّب، فما تشكُّ في أن كلامه من كلامهم وحديثه من إلهام أنفسهم …

هذا الذي تقرأ له فتحسبه رجلًا من التاريخ قد فرَّ من ماضيه البعيد وطوى الزمان القهقرى ليعيش في هذا العصر ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يزيد في عصر بعيد …

… هذا الرجل كان عاشقًا غلبه الحب على نفسه وما غلبه على دينه وخلقه …!

إن الحديث عن حب الرافعي لَحديث طويل، فما هي حادثة أرويها وأفرغ منها، وحبيبة واحدة أصفها وأتحدث عنها، ولكنها حوادث وحبيبات، وعمر طويل بين العشرين والسابعة والخمسين، لم يُشرق فيه صباح ولم يجِنَّ مساء إلا وللرافعي جديدٌ في الحب، بين غضب ورضًا، ووصل وهجر، وسلام وخصام، وعتب ودلال، وحبيب إلى وداع وحبيب إلى لقاء … وشاب الرافعي وما شاب قلبه، وظل وهو يدب إلى الستين كأنه شابٌّ في العشرين … ومات وعلى مكتبه رسالة ودادٍ من صديقة بينها وبينه جواز سفر وباخرة وقطار، وكان في الرسالة موعد إلى لقاء …!

•••

قلت مرة للأستاذ الزيات صاحب «الرسالة» وبين الرافعي وأجله عام: هل لك في موضوع طريف عن الرافعي أنشره لقراء الرسالة؟ إن للرافعي في الحب لحديثًا يلذُّ ويُفيد …

قال: ومَن لي بهذا؟

قلت: أنا لك.

قال: ولكنه حديث يُغضبُ الرافعي!

قلت: وعليَّ أنا أن يرضى …

وذهبتُ إلى الرافعي فأفضيتُ إليه بعزمي. قال: أوتفعلها؟ أفكان لهذا مجلسُك مني كل مساء، تسترق السرَّ لتدخره إلى يومٍ تنشره فيه على الناس بثمن …؟

قلت: لو أنه كان سرًّا لم يعلمه غيري ما عقدت العزم على شيء، ولكنه «سرٌّ» على لسانك إلى كل مَن تتحدَّث إليه! …

وما كان للرافعي سرٌّ يستطيع أن يطويه بين جوانحه يومًا وبعض يوم، فكأنما أذكرتُه — بما قلتُ — بعضَ ما كان ناسيًا، فعاد يقول: وماذا تريد أن تقول في حديثك عن حبي؟

قلت: حديثًا لو همَّ غيري أن يجعل منه مقالًا لقرائه لما كان الرافعي هو الرافعي عند من يقرؤه، ولكن أحسبني أنا وحدي الذي يستطيع أن يقول: إن الرافعي كان يحب فما يغير شيئًا من صورة الرافعي كما هو في نفسه وكما هو عند مَن يعرفه، إنني أنا وحدي الذي يعرف الحادثة وجوَّها وملابساتها وما كان في نفسك منها، ولعلِّي يوم عرفت كنت أسمع نبضات قلبك وخلجات وجدانك ومرمى أَمَلِك وما كانت غايتك في الحب ومداك، أما غيري فهل تراه يعرف إلا الحادثة؟ وحسبه أن يقول: إن الرافعي يحب … ثم تكون الفضيحة التي تخشاها وأنت منها طاهر الإزار …

واستمع الرافعي إلى حديثي ثم أطرق هنيَّة وعاد يسألني: وهل أقرأ ما تُعِدُّه قبل أن تنشره؟

قلت: لك ما تريد.

قال: أنت وشأنك!

•••

وأجمعت أمري، وأعددت فكري، وتهيأت للكتابة، ثم شغلتْني العناية بطبع «وحي القلم» وتصحيح تجاربه عن الوفاء بما وعدتُ … ومات الرافعي!

فإن يكن في الحديث عن «الرافعي العاشق» حرجٌ فلا عليَّ فقد استأذنتُه فأذن، وما أكتب الآن إلا مستمدًّا من روحه، راويًا من بيانه، ولديَّ شهودي من كتبه ورسائله وما يعرفه أصدقاؤه وصفوته، وإذا كان الرافعي قد خفتَ صوته إلى الأبد فلا سبيل إلى أن أسمع رأيه فيما أكتب عن تاريخ قلبه، فإني لمؤمن شديد الإيمان بأنني ما أزال في رضاه ومنزلتي عنده، وإن كان بيننا هذا البرزخ الذي لا أعرف متى أجتازه إليه فأسمع من حديثه ويسمع من حديثي!

الحب عند الرافعي

وهل في الحب عار أو مذمَّة؟

هذا سؤال يجب أن يكون جوابه إلى جانبه قبل أن أمضي في هذا الحديث. أما الحب الذي أعنيه — وكان يعنيه الرافعي — فشيء غير الحب الذي يدل عليه مدلول هذه الكلمة عند أبناء هذا الجيل …

إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، ولكنه عند الرافعي هو حياة النفس إلى السموِّ والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول، هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا، وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية، هو مفتاح الروح إلى عالمٍ غير منظور تتنوَّر فيه الأفقَ المنيرَ في جانب من النفس الإنسانية، هو نُبوَّة على قدر أنبيائها، فيها من الوحي والإلهام، وفيها الإسراء إلى الملإ الأعلى على جناحَيْ مَلَكٍ جميل … هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان.

كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب … وسعى إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقًا بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أُغلق البابُ من دونه فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب.

وكانت «عصفورة» أول مَن فتح لها قلبه فسيطرتْ عليه وغلبتْه على نفسه، وهي فتاة من «كفر الزيات» لقيها ذات يوم على الجسر، وسِنُّه يومئذٍ إحدى وعشرون سنة، فهفا إليها قلبه، وتحرَّك لها خاطره، وكان للرافعي في صدر شبابه على «جسر كفر الزيات» مَغْدًى ومراح، ومن عيون الملاح على هذا الجسر تفتحت زهرة شبابه للحب، وجاشت نفسه بمعاني الشعر.

ومن وحْي هذا الحب كان أكثر قصائد الرافعي الغزلية في الجزء الأول من الديوان، ومنه كان ولوعه في صدر أيامه بلقب شاعر الحُسْن!

وبلغ الرافعي بعصفورة إلى غايته، واشتهر «شاعرُ الحسن» وترنم العشَّاقُ بشعره وما بلغتْ عصفورةُ إلى غايتها، ثم مضى كل منهما إلى طريق، وأتمَّ الرافعي طبع ديوانه … وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، إلى الزواج أو إلى الغاية الأخرى ثم يبدأ في تاريخ جديد، كذلك انتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية في الجزء الأول من الديوان، ثم كان تاريخ جديد …

وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات وكم أنجبن من ثمرات، وإنه ليخيل إليَّ أن الرافعي كان كلما أحسَّ حاجةً إلى الحب راح يفتش عن «واحدة» يقول لها: تعالَيْ نتحابَّ؛ لأن في نفسي شعرًا أريد أن أنظمه، أو رسالةً في الحب أريد أن أكتبها …! ولقد سمعته مرة يقولها لإحداهن … وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في «ورقة ورد»؟

على أن الرافعي كان له إحساس عجيب في مجالس النساء! وكان لهنَّ عليه سلطان وله عليهنَّ سحر وفتنة، وهو في هذه المجالس فَكِهٌ مداعب رائق النكتة لا تملك السيدة الرَّزَانُ في مجلسه إلا أن تخرج عن وقارها، وكانت هذه أداته في استمالتهنَّ حين يلتمس الوحي أو يجد الحاجة إلى أن يقرأ شعرًا في عينٍ ساحرة، فإذا استوى له ما أراد عاد إلى مكتبه لينشئ وينظم وتنتهي قصة حب.

وكان يسمي كل جميلة «شاعرة»؛ لأنها تمنحه الشعر، و«الشواعر» عنده طبقات، على مقدار ما يبعثن فيه من الشاعرية، ويرهفن من إحساسه، ففلانة شاعرة كالمتنبي وهذه كالبحتري، وتلك بنت الرومي، ورابعة بشار بن برد، وخامسة عبد الله عفيفي أو شاعر الرعاع …

وحين يجلس في الشرفة من قهوة «لمنوس» بطنطا وتمر به الجميلات في رياضتهن أو في حاجتهنَّ، تسمع ثبتًا حافلًا بأسماء الشعراء يبدأ من مهلهل بن ربيعة وينتهي بفلان الذي يؤمِّل أن يكون أمير الشعراء بعد أن يموت كل الشعراء …!

هذه لمحات أذكرها على غير صلتها بالموضوع؛ لأنها تشير إلى بعض عناصره، على أنني — وقد بلغت هذا القدر من الحديث — لم أبدأ القول بعدُ عن حب الرافعي الذي أنشأت هذا الفصل للحديث عنه.

إنها حادثة وقعتْ في تاريخ الرافعي وسنه ثلاث وأربعون سنة فأنشأتْه خلقًا جديدًا، كانت دعابة من مثل ما قدَّمتُ فأوشكتْ أن تكون عِلة، فلما اختار الله له أنقذه بكبريائه من دائه، ولكنه خلَّف في قلبه جرحًا يَدمَى، ولكنها كانت بركة في الأدب وثروة في العربية.

مَن تكون هذه الشاعرة التي غلبتْه على إرادته فغلبها بكبريائه؟ ما شأنها، وما خبرها؟ …

هو وهي

لقد وضعكِ حُسنُك في طريقي موضع البدر، يُرى ويُحَب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، ولكن كبرياءك نصبتْك نصبةَ الجبل الشامخ، كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصعدين فيه … كوني مَن شئتِ أو ما شئتِ، خلقًا مما يكبر في صدرك ومما يكبر في صدري، كوني ثلاثًا من النساء كما قلتِ أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام. انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح، واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك. اصعدي إلى سمائك العالية، ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين. كوني ما أرادت نفسك، ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان …!

هو

إن أمي ولدت نفسي، ونفسي هي ولدتني، فلا ترجُ أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضلَّ ضلالك أيها الحبيب …

هي

«رجل وامرأة كأنما كانا ذرَّتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معًا، هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوَّته وفلسفته …

كانا في الحب جزءين من تاريخ واحد، نشَر منه ما نشر، وطَوى منه ما طواه، على أنها كانت له فيما أرى كمَلَك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فَلَك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي، فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه.»١

•••

ولم تكن «هي»٢ أولى حبائبه ولكنها آخر مَن أحب، عرفها وقد تخطى الشباب وخلَّف وراءه أربعين سنة ونيفًا حافلة بأيام الهناءة، مشرقةً بذكريات الهوى والصبابة والأحلام، وكان بينهما في السن عُمرُ غلام يخطو إلى الشباب.٣

سعى إلى مجلسها يوم «الثلاثاء» سعْيَ الخليِّ إلى اللهو والغزل، يلتمس في مجلسها مادة الشعر، وجلاء الخاطر، وصقال النفس، ومجلسها في كل «ثلاثاء» هو ندوة الأدب ومجمع الشعراء، وجلس إليها ساعة، وتحدَّث إليها، وتحدَّثت إليه، وكان كل شيء منها ومما حولها يتحدَّث في نفسه، ولمسه الحبُّ لمسة ساحر جعلتْ في لسانه حديثًا ولعينيه حديثًا، وطال انفرادها به عن ضيوفها، فما تركتْه إلا لتعتذر إليهم فتعود إليه … ثم قامتْ تودِّعه إلى الباب وهي تقول: «متى تكون الزيارة الثانية؟» فنهى النفس عن الهوى ونسأ الأجل إلى غد …!

ووقع من نفسها كما وقعتْ من نفسه، فما افترقا من بعدها إلا على ميعاد، ومحتْ صورتها من ماضيه كل ما كان في أيامه وكل مَن عَرف، لتملأ هي نفسَه بروعتها ودلالها وسحرها، وانتزعها هو من أيامها فما بقي لها من أصحابها وصواحبها غير مُصْيَفٍ٤ مشغلةً في الليل والنهار.

وكان الرافعي أول مَن يغشى مجلسها يوم الثلاثاء وآخر مَن ينصرف، فإن منعه شيء عن شهود مجلسها في القاهرة كتب إليها من طنطا وكتبتْ إليه، على أن يكون له عِوض مما فاته يومٌ وحده …

كان يحبها حبًّا عنيفًا جارفًا لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا؛ لأنه ليس له مدًى ولا غاية.

لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من زمان ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما، ولكنْ في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحسَّ وشَعَر وتنوَّرت نفسُه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمُه وتصطرع عواطفُه، ولا يجد البيان الذي يصف نفسَه ويبين عن خواطره …

بلى، قد كتب ونظم وكان من إلهام الحب شعرُه وبيانه، ولكنه منذ ذاق الحب أيقن أنه عاجز عن أن يقول في الحب شعرًا وكتابة، ومات وهو يدندن بقصيدة لم ينظمها ولم يسمع منها أحد بيتًا؛ لأن لغة البشر أضيق من أن تتسع لمعانيها أو تعبر عنها؛ لأنها من خفقات القلب وهمسات الوجدان.

و«هي» أديبة فيلسوفة شاعرة، فمن ذلك كان حبها وكان وحبه «من خصائصها أنها لا تُعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري … إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خدَّيها وخلابتها وسحرها، صفاءَ اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها …»

«… ولا يستخرج عجبَها شيءٌ كما يعجبها الكلام المفنَّن المشرق المضيء بروح الشعر، فهو حلاها وجواهرها، وما لسوق حبها من دنانير غيرُ المعاني الذهبية، فإنها لا تبايعك صفقة يدٍ بيد، ولكن خفقةَ قلب على قلب.»٥

•••

وكذلك تحابَّا، وتراءيا قلبًا لقلب، وتكاشفا نفسًا لنفس، ومضى الحب على سنته، ونظر الرافعي إليها وإلى نفسه وراح يحلم، وخيل إليه أنه يمكن أن يكون أسعد مما هو لو أنها … لو أنها كانت زوجته …٦ ثم عاد إلى نفسه يؤامرها فأطرق من حياء … وكانت خطرة عابرة من خطرات الهوى أطافت به لحظة وما عادت، وقالت له نفسه كلامًا وقال لنفسه كلامًا آخر، فكأنما انكشفت له أشياء لم يكن يراها من قبل بعيني العاشق، فلم تكد القصة تبلغ نهايتها وتنحل العقدة، حتى جاءت كبرياؤه لتخط الخاتمة …
وراح الرافعي يومًا إلى ميعاده، وكان في مجلسها شاعر٧ جلست إليه تحدِّثه ويحدثها، ودخل الرافعي فوقفتْ له حتى جلس، ثم عادتْ إلى شاعرها لتتم حديثًا بدأتْه، وجلس الرافعي مستريبًا ينظر، وأبطأتْ به الوحدة، وثقل عليه أن تكون لغيره أحوجَ ما يكون إليها، ونظر إلى نفسه وإلى صاحبه، وقالتْ له نفسه: «ما أنت هنا وهي لا توليك من عنايتها بعض ما تولي الضيف …؟» فاحمرَّ وجهه وغلى دمه، ورمى إليها نظرة أو نظرتين، ثم وقف واتخذ طريقه إلى الباب … واستمهلتْه فما تلبَّث، وكتب إليها كتاب القطيعة …!

وعاد إليه البريد برسالتها تعتذر وتعتب وتجدِّد الحب في أسطر ثلاثة، ولكن الرافعي حين وجد كبرياءه نسي حبه، وكان هو الفراق الأخير …!

كان ذلك في سنة ١٩٢٣.

وثابتْ إليه نفسه رويدًا رويدًا، وخلا إلى خواطره وأشجانه ليكتب رسائل الأحزان!

ومضتْ ثلاث عشرة سنة، أو أربع عشرة سنة، لم يلتقيا وجهًا لوجه، إلا مرة في حفل أدبي في طنطا، فما كانتْ إلا نظرة وجوابها، ثم فرَّ أحدهما من الميدان وخلف الآخر ينتظر …٨
على أنَّ الرافعي لم ينسَ صاحبته قط، وعاش ما عاش بعد ذلك وما تبرح خاطره لحظة، وما يأنس إلى صديق حتى يتحدَّث إليه فيما كان بينه وبين «فلانة»٩ ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها، وهو يقول: «هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت …!» ثم ينصرف عن محدِّثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت …
وكان لا ينفك يسأل عنها مَن يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرتْ إلى الشام في سنة ١٩٣٦ تستشفي فأقامتْ هناك، فهفتْ إليها نفسه وتحركتْ عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم، فكتب إلى صديقة في «دمشق» لتزورها في مستشفاها١٠ وتكتب إليه بخبرها، فكتبت إليه:١١

… بالصدق يا صديقي أنني كلما استعدت بذاكرتي وصية «فلانة» المؤلمة ونتيجتها المحزنة، اعترتْني حالة انقباض شديد وحزن لا حدَّ له … إنَّ الموت في مثل هذه الحالات يُعدُّ كنزًا ثمينًا لا يحصل عليه إلا السعيد، وإني أتهمك قانونًا … بأنك كنت سبب جنونها، فماذا كان عليك لو لبيتَ الدعوة؟ آه، لقد كنتَ قاسيًا وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إنَّ المرأة على حق حين تظن، لا، بل حين تعتقد أنَّ الرجل … لا، السكوت أولى الآن …

أما هذه «الوصية» التي تشير إليها الكاتبة في رسالتها، فلست أعرف ما هي، فلم تقع لي كل رسائل الكاتبة، ولست أعرف أين كان يخبؤها الرافعي من مكتبه، ولعل ولده «الدكتور محمد» يدري، فإن كان؛ فإن كان عليه حقًّا للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئًا له قيمته في البحث الأدبي.

•••

قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة، لم يلتقيا فيها إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائلَ لا يحملها ساعي البريد؛ لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلامًا من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك، حشوًا من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة، هي رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعًا وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي عليَّ مقالاته، كان يستمهلني برهة ليُعيث في درج مكتبه قليلًا فيخرج ورقة أو قصاصة يملي عليَّ منها كلامًا، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم، ثم نعود إلى ما كنا فيه، وتُنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الردَّ في رسالة تكتبها «فلانة» فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناءٍ …

هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعًا من الكبرياء التي ربطتهما قلبًا إلى قلب، والتي فرَّقتْ بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين!

•••

وكنت أسير مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة ١٩٣٥، فلما انتهينا إلى القرب من مبنى جريدة «الأهرام»، قال لي: «مِلْ بنا إلى هذا الشارع!» ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة، ولكني أطعتُه، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمدًا على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول: «إنها هنا، هذه دارها، مَن يدري؟ لعلها الآن خلف هذه النافذة …!»

قلت: «مَنْ؟» قال: «هي!»

قلت: «ولكن النوافذ مغلقة جميعًا ولا بصيص من نور، فأين تكون؟»

قال: «لعلها الآن في السيما، إذا كان الصباح فاغْدُ عليَّ مبكرًا لنزورها معًا، إن بي حنينًا إلى الماضي … ليتني … ولكن أترى من الائق أن أزورها بعد كل ما كان؟»

قلت: «وما يمنع؟ أحسبها ستسرُّ كثيرًا بلقياك …!»

قال: «إذن في الصباح، وستكون معي، ولكن احذر، احذر أن تغلبك على قلبك … أو أن تسمح لخيالك أن يسبح وراء عينيك … إنها فاتنة!»

قلت: «لا؛ إنها عجوز، فما حاجتي بها …؟» وضحكتُ مازحًا.

فزوى ما بين عينيه وهو يقول: «وَيْ! عجوز! إنها أوفر شبابًا منك!»

قلت: «قد يكون ذلك لو أن السن قد وقفتْ بها منذ اثنتي عشرة سنة …!»

قال: «صدقت …! اثتني عشرة سنة …!»

وسكتَ وسكتُّ حتى أوصلته إلى دار أخيه على شاطئ النيل عند فم الخليج، فلما كان الصباح غدوتُ عليه فأذكرته موعده! فابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: «يا بنيَّ، إنها ليست هناك، إن «تلك» قد ذهبتْ منذ اثنتي عشرة سنة، أما «هذه» فأظنني لا أعرفها … إنني أحذر على الماضي الجميل أن تتغير صورته في نفسي … بحسبي أنها في نفسي …!»

ثم لم يلبث بعد ذلك أن جاءه النبأ أنها سافرت إلى الشام لعلة في أعصابها …!

شعر وفلسفة، وحب وكبرياء

  • (١)

    «إن في الرجل شيئًا ينقذ المرأة منه وإن ملك بحبها، وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه؛ فيه الرجولة إذا كان شهمًا، وفيه الضمير إذا كان شريفًا، وفيه الدم إذا كان كريمًا، فوالذي نفسي بيده، لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تجن عواطفه وينفر طائر حلمه من صدره، إلا عاذت — والله — بمَعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح مَلَك من الملائكة.»

  • (٢)

    «… ويسرف عليَّ بغضها أحيانًا، فأتلهف عليها في زفرات كمعمعة الحريق حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة، فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس، ثم يسرف عليَّ حبها أحيانًا، فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته، يتطوح من غمرة إلى غمرة، فأنا بين نقمة تفجأ وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مائة درجة لأهبط مائة درجة …!»

  • (٣)

    «لقيتها وما أريد الهوى ولا تعمده قلبي، ولا أحسب أن فيها أمورًا ستئول مآلها، وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تُفضي إليه، وما يمكن وقوعه فتهمله فلا يُفضي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة، ومتى استطردك القَدَر الذي لا مفرَّ منه، أقبل بك على ما كنت منه تفر.»

  • (٤)

    «… إنها لأبلغ ذات لسان، وأبرع ذات فكر، وأروع ذات نفس، ولو كنا سليلي أبوة ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفًا، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفًا، وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي أشهد لها …!»

  • (٥)

    «… دعني أقول لك: إني أبغض مَن أحبها … وإن هذا البغض وجه آخر من الحب، كالجرح: ظاهره له ألم وباطنه له ألم.»

  • (٦)

    «… وكما ينشأ الكفر أحيانًا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب!»

الرافعي
أترى صوتي يبلغ إليها حيث تقيم بالشام شاردة الخيال مستطارة القلب؟١٢

أم ترى صوتي يبلغ إليه تحت أطباق الثرى وبيننا هذا القدْر من عمر الزمان كأنه من البُعد وانفساح المدى سنوات وسنوات؟

إنه ليخيَّل إليَّ أن هذا الحديث الذي أكتبه عنها وعنه هو رسالة من الغيب. إلى هذه الحبيبة الواجدة المحزونة، من الحبيب الذي أحبها أعنف الحب وأرقَّه وما تراءى لها مع ذلك في عمره الطويل إلا الرجلَ القاسيَ الذي حطم قلبها بقسوته وكبريائه، ومات وما تلقت رسالته الأخيرة، فنفذت روحُه من أقطار السموات لتمليها عليَّ وفيها المعذرة والاستغفار …

آهٍ لو تدرين كم كان يحبك أيتها الحبيبة! … فهل كنت …؟ ولكن … ولكن لا سبيل إلى ما فات …!

•••

لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبًّا أضلَّ نفسَه وشرَّد فكره وسلبه القرار، ولكنه حب عجيب، ليس فيه حنين الدم إلى الدم، ولكن حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مناجاة طويلة كأنها تسبيح وعبادة، وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في غمراته خلقًا بلا إرادة فليس له من دنياه إلا «هي»، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه!

والرافعي رجل كان له ذات وكبرياء، فأين يجد من هذا الحب ذاتَه وكبرياءه؟ هكذا سألتْه نفسه!

•••

وأحبها أديبةً فيلسوفة شاعرة تستطيع أن ترتفع إلى سمائه وتحلق في واديه، وله مثل قدرتها على الطيران والتحليق في آفاق الشعر والحكمة والخيال، فما التقيا مرة حتى كان حديثهما فنونًا من الشعر وشذراتٍ من الفلسفة وقليلًا من لغة العشاق في همس من لغة العيون … وقال لها مرة: «إن الحب يا عزيزتي …»

قالت: «إن فلسفة الحب …»

قال: «بل، أعني حقيقة الحب ومعناه …»

قالت: «دعْ عنك يا حبيبي … إن أحلام الحب هي شيء غير الحب، أفأنت تريد …؟»

فاختلجت شفتاه وأطرق، وراح يسأل نفسه: «ما الحب؟ وما فلسفة الحب؟ يا ضيعة المنى إن كان الحب شيئًا غير الذي في نفسي!»

وتحدَّث ضميره في ضميرها فابتسمت وهي تقول: «أنا ما أحببتك رجلًا، بل فكرًا وروحًا ونفسًا شاعرة، وأنت بكل ذلك ملء نفسي وملء قلبي، فلا تلتمس فيَّ طباع أنثى وإلا ضلَّ ضلالك أيها الحبيب …!»

قال: «فهل رأيتني يا حبيبتي إلا فكرة تُطيف أبدًا بك، وروحًا ترفرف حواليك، ونفسًا تغترف الشعر والحكمة من وحي عينيك …؟»

قالت: «دعْ عنك ذكر عينيَّ يا حبيبي، إن الحب ليس هناك، إن الحب …»

قال: «لا تحدِّثيني عن الحب، يُخيل إليَّ أني أعرفه؛ لأني أجد مسَّه على قلبي كلذع الجمر، ولكن آه، ولكنك أنتِ …»

وقالت له نفسه: «إنك — يا صاحبي — تضرب في بيداء، إن الشعر والحكمة والفلسفة لا تلد الحب، فهل أحببتها أنت إلا للشعر والحكمة والفلسفة؟ فلن تجد بذلك منها الحب، إن الحب من لغة القلب، أما هذه …»

وكان يحبها أديبةً فيلسوفة شاعرة، فعاد يباعد بينه وبينها؛ أنها فيلسوفة شاعرة!

•••

وهي امرأة كانت — إلى أدبها وفلسفتها — «فتنة خلفت امرأة، فإذا نظرتْ إليك نظرتَها الفاترة فإنما تقول لقلبك: إذا لم تأتِ إليَّ فأنا آتية إليك … وهي أبدًا تشعر أن في دمها شيئًا لا يوصف ولا يسمَّى، ولكنه يجذب ويفتن، فلا تراها إلا على حالة من هذين، حتى ليظن كل مَن حادثها أنها تحبه وما به إلا أنها تفتنه …

رشيقة جذابة تأخذك أخذ السحر؛ لأن عطر قلبها ينفذ إلى قلبك من الهواء، فإذا تنفستَ أمامها فقد عشقتَها …

أما أنوثتها فأسلوب في الجمال على حدة، فإذا لقيتها لا تلبث أن ترى عينيك تبحثان في عينيها عن سر هذا الأسلوب البديع، فلا تعثر فيهما بالسر، ولكن بالحب وتنظر نظرة الغزال المذعور أُلهِم أنه جميل ظريف فلا يزال مستوفزًا يتوجس في كل حركة صائدًا يطلبه …»١٣

والرافعي رجل كان — على دينه وخلقه ومروءته — ضعيفَ السلطان على نفسه إذا كان بإزاء امرأة، فما هو إلا أن يرى واحدة لها ميزة في النساء حتى يتحرك دمه، وتنفعل أعصابه، وما كان — رحمه الله — يرى في شدة الإحساس بالرجولة وفي سرعة الاستجابة العصبية إلى المرأة إلا أنها أحد طَرَفيْ النبوغ، أو أحد طرفي النبوَّة كما كان يقول، فما كان يرى له وقاية من سحر المرأة حين يحس أثرها في نفسه إلا أن يسرع في الفرار، وكثيرًا ما كان يقول: «الفرار الفرار، إنه الوسيلة الواحدة إلى النجاة من وسوسة الشيطان وغلبة الهوى …!»

وقالت له نفسه: «ما أنت وهذا الحب الذي سلبك الإرادة وغلبك على الكبرياء، ويوشك أن يهوي بك من وسوسة النفس وفتنة الهوى إلى أرذال البشرية …!»

فكان لصوت النفس في أعماقه صدًى بعيد …

•••

وكان يحبها ليجد في حبها ينبوع الشعر، فما وجد الحب وحده، بل وجد الحب والألم وثورة النفس وقلق الحياة، ووجد في كل أولئك ينابيع من الشعر والحكمة تفيض بها نفسه وينفعل بها جنانه ويضيء بها فكره، وكان آخر حبه الألم، وكانت آلامه أول قدْحة من شرار الشعر والحكمة …

وقالت له نفسه: «ها أنت ذا قد بلغتَ من الحب ما كنت ترجو، فلم تبقَ إلا الغاية الثانية، وإنك عنها لعَفٌّ كريم …!»

•••

وهي فتاة ذات جمال وفتنة، ولها لسان وبيان، وما يمنعها دينها ولا شيء من تقاليد أهلها أن يكون لها مجلس من الرجال في ساعة في يوم من كل أسبوع، يضم من شعراء العربية ورجالاتها أشتاتًا لا يؤلفها إلا هذا المجلس المعطر بعطر الشعر وعطر المرأة الجميلة، أفتراهم يجتمعون في دارها كل أسبوع لتتوارى منهم خلف حجاب فلا سمر ولا حديث؟!

والرافعي غيور شموس كثير الأثرة، لا يرضيه إلا أن يكون على رأس الجماعة، وقالت له نفسه: «أأنت هنا وحدك أم ترى لكل واحدٍ من هؤلاء هنا هوًى وحبيبًا …؟»

•••

وكانت القطيعة بين الرافعي وبينها من أجل ذلك كله، من أجل أنَّ له ذاتًا وكبرياء، وما يريد أن تفنى ذاته وكبرياؤه في امرأة، ومن أجل أنها فيلسوفة وشاعرة، وما تجتمع الفلسفة والحب في قلب حواء، ومن أجل أنها أنثى وأنه رجل له دين ومروءة وزوجة ودار، ومن أجل أنه بلغ مبلغه منها حين وجد الألم في حبها فوجد ينبوع الشعر الذي كان يفتقد، ومن أجل أنه الرافعي الغيور الظنين الكثير الأثرة والاعتداد بالنفس …!

وخُيِّل إليه حين كتب إليها رسالة القطيعة في يناير سنة ١٩٢٤ أنه يبغضها، وأنَّ هذا الحب الذي قطعه عن دنيا الناس عامًا بحاله قد انتهى من تاريخه وطواه القَدَر في مَدْرَجة الفناء، وأنَّ نفسًا كانت في الأسر قد خرجت إلى فضاء الله …

وأحس في نفسه حديثًا طويلًا يريد أن يُفضي به، وشَعَر كأن في قلبه نارًا تَلَظَّى، واصطرعت في نفسه ذكريات وذكريات، وخُيِّل إليه أنه يكاد يختنق، فصاح من كل ذلك مغيظًا محنقًا يقول: «أيتها المحبوبة، إنني أبغضك … إنني أبغضك أيتها المحبوبة!»

ليت شعري، أكان الرافعي يعني ما يقول؟ أكان على يقين حين زعم أنه يبغضها؟ أم أنه استعار للحب لفظًا متكبرًا من كبريائه العاتية فسماه البغضَ، وما هو به، ولكنها ثورة الحب حين يبلغ عنفوانه فتختلط به مذاهب الفكر ومذاهب النظر فلا يبقى فيه شيء على حقيقته؟

كلا، ما أَبغض الرافعي صاحبته يومًا منذ كانت، ولا استطاع أن يفك نفسه من وثاقها، وما هذه الثورة التي ألهمتْه كتابيه «رسائل الأحزان»، و«السحاب الأحمر» إلا لون من ذلك الحب وفصل من فصوله وكان الخطأ في العنوان، فلما ثابتْ إليه نفسه نزا به الحنين إلى الماضي، ولكن كبرياءه وقفتْ في سبيله، فظل حيث هو، ولكن قلبه ظل يتنزى بالشوق والحنين …!

وجاءت صاحبته إلى طنطا بعد ذلك بقليل، مدعوَّة إلى حفلةٍ خيرية لتخطب، وكان الرافعي مدعوًّا لمثل ما دُعيت له، وعلى غفلة التقتِ العيون، فدار رأس الرافعي وذُهب به، وعاد الزمان القهقرى، لينشر ماضيه على عينيه، وزلزلت نفسه زلزالًا شديدًا، حتى أوشك أن تغشاه غاشية، وحاول أن يتحدَّث فوقفت الكبرياء بين قلبه ولسانه، وخشي أن يفتضح فنهض عن كرسيه منطلقًا إلى الباب، ولحقه صديقه الأديب جورج إبراهيم، فأفضى إليه بذات صدره وودَّع صاحبته بعين تختلج، ومضى …

وانتهى الحفل، ووقفت «هي» تدير عينيها في المكان فما استقرَّتا على شيء، ووجدت في نفسها الجرأة على أن تقول: «أين الرافعي؟» فما وجدتْ جوابًا … وكان الرافعي وقتئذٍ جالسًا إلى مكتبه ينشئ قصيدة لمجلة المقتطف عن بعث الحب … وكان آخرَ لقاء …!

•••

ولقيتُ الرافعي في خريف سنة ١٩٣٢، فتسرحنا في الحديث عن الحب، فكشف لي عن صدره في عبارات محمومة وكلمات ترتعش، ثم قال: «… وإن صوتًا ليهتف بي من الغيب أن الماضي سيعود، وأنني سألقاها، وسيكون ذلك في تمام عشر سنين من رسالة القطيعة، في يناير سنة ١٩٣٤ …» وأخذ يقبض أصابعه ويبسطها، ثم قال: «نعم، بعد أربعة عشر شهرًا سيكون هذا اللقاء … إن قلبي يحس، بل إنني لموقن … بعد أربعة عشر شهرًا، في تمام السنة العاشرة منذ فارقتُها مغضبًا، سنلتقي ثانية، ويعود ذلك الماضي الجميل، إنها تنتظر، وإنني أنتظر …!» وظل على هذا اليقين أشهرًا وهو يحصي الأيام والأسابيع كأنه منها على ميعاد …!

ومضت السنوات العشر، ومضى أربعون شهرًا بعدها، وما تحقق أمله في اللقاء حتى لقي الله …!

•••

هذا هو الرافعي العاشق، جلوتُ صورته كما عرفته، أما هي، أما صاحبته التي كان من تاريخه معها ما كان، فهل كانت تحبه؟ وما كان هذا الحب؟ وماذا كانت غايته؟

هي وهو

أتذكر إذ التقينا وليس بيننا شابكة فجلسنا مع الجالسين، لم نقل شيئًا في أساليب الحديث غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟
… وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلبًا ينتظر قلبًا من زمنٍ بعيد؟
… ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسلحتها … وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب …؟
وقلتَ لي بعينيك: أنا … وقلتُ لك بعيني: وأنا … وتكاشفنا بأن تكاتمنا؟
وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثِّها؟
وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس مَن يراها، فإذا هو إعجاب، فإذا هو إكبار، فإذا هو حب؟
وعودتُ عيني من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟
وجعلت أراك تشعر بما حولك شعورًا مضاعفًا كأن فيه زيادة لم تزد؟
وكان الجو جو قلبينا …
وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية …
هي
… بماذا أصف مكانًا للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصانًا من العمر، بل زيادة عليه، وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنها بعض الفكرة والحس لا بعض الزمان والمكان …
… وكنت وما أشعر من سحرك إلا أني بإزاء سر وضعني في ساعة من غير الدنيا وحصرني فيك وحدك …
وهاجمتِني من يقظتي واقتحمتِ عليَّ من حذري …
وخليتِني وعينيكِ، وخليتِني وما كُتب عليَّ …
واتسعتْ روحي لتشملك، فما كنتِ تتكلمين ولا تضحكين ولا تخطرين في غرفتك، ولكن في داخل نفسي …
… وكنا نتكلم ولكن ألفاظنا تتعانق أمامنا ويلثم بعضها بعضًا من حيث لا يراها إلا عيناي وعيناك.
وتراءت النفسان فملأتا المكان بأفراح الفكر، واستفاض السرور على جمالك بمعنًى كلون الزهرة النضرة، هو عطرها للنظر.
وقلتِ لي بجملتك: أنا … وقلتُ لك بجملتي: وأنا …
هو

إني لأعرفه عرفاني بنفسي، فما بي شك فيما أكتب عن حبه، ولقد خلطني بنفسه زمنًا فإني لأسمع نجواه وأقرأ سره وأعرف ذات صدره، فما أصف مِن حبه إلا مستيقنًا كأنما أنقل عن لوح مسطور في فؤادي، أو أُثبت من حادثة في تاريخ أيامي ماثلة في نفسي بصورها وألوانها وحوادثها فما يغيب عني منها شيء، ولولا تقاليد الناس وآداب الجماعة لمزقت النقاب عن وجه الحديث وجلوته على القرَّاء في بيان سافر كإشراق الضحى، ولكن … ولكنها هي …

أما هي فما في يدي شيء من خبرها إلا ما حدَّثني به الرافعي أو حدَّثتْني رسائله، فما أتحدَّث عن حبها إلا راوية يكتب ما يسمع لا ما يشهد، أو محققًا يضع كلمة إلى كلمة، ويزاوج بين رسالة ورسالة، ليخرج منهما معنًى ليس في يده من حقيقته شيء إلا ما يهديه الفكر وصواب الرأي وملابسات الحادثة.

وإنها لأديبة شاعرة يعرفها كثير من قرَّاء العربية وأعرفها عرفانهم، وحسبي هذا مقدمات إلى النتيجة، وما يعسر على مَن يمسك طرف الخيط أن يصل إلى آخره.

•••

لقد التقيا وما بينهما شابكة ولا يربطهما سبب، فما كانت إلا نظرة وجوابها حتى ارتبطا قلبًا إلى قلب، وكان الأدب رباطَ بينِهما أول ما كان، ثم استجرَّهما الحديث إلى فنون من الكلام فكشفتْ له عن آلامها وكشف لها عن آلامه، فكان عطف وإشفاق، ثم تحدَّثتْ عن أحلامها وتحدَّث عن أحلامه، فكان الحب، ثم … ثم كانت القطيعة حين بلغ الحب غايته ونال مناله من نفسها ومن نفسه، فافترقا حين كان يجب أن يبدأ اللقاء ليتذوقا سعادة الحب ويقطفا من ثمراته … وضرب الدهر من ضرباته فإذا هو تحت الرغام، وإذا هي في المستشفى تتمرَّض من وهنٍ في أعصابها!

•••

لم تكن «هي» تقصد الحب ولا تعمدتْه ولا كان هو، ولكنها أديبة تعرف موازين الكلام، لقيت الأديب الذي تعجب به ويفتنها بيانه، فأحبتْه «عقلًا جميلًا»، كما تسميه في بعض رسائلها …

وكان سعيه إليها يلتمس الشعر والحكمة، والشعرُ والحكمة هما رابطتها إليه وفاتنتها به، فتصنَّعتْ له لتفتنه وتزيده شعرًا وحكمة، ثم تصنَّعتْ لتزيده، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنَّعتْ لتزيد هي به؛ لأنها وجدتْ به نفسها، ووجدت به الشعر والحكمة والبيان، فأحبته «أستاذها ومرشدها»؛ لأنه أوحى إليها ما عجز دونه الآخرون؛ لأنه فجَّر لها ينبوع الشعر وعلمها البيان، هكذا تقول في بعض رسائلها …

•••

وهي فتاة لم يسالمها الدهر ولم تزل منذ كانت غرضًا لسهام الأيام، تنوشها الآلام من كل جانب، ولها نفس شاعرة تُضاعف أحزانها فتجعل لها من كل همٍّ همَّيْن، وإن حواليها لكثيرًا من الأصدقاء يزدلفون إليها ويخطبون ودها، ولكنها تريد الصديق الذي يستمع إلى شكواها من الأيام فتستريح إليه أكثر مما تريد، الصديق الذي لا تسمع منه إلا كلمات الزلفى والتحبُّب واصطناع الهوى والغرام … وتحدث إليها الرافعي وتحدثت إليه، وقصت عليه من أحزانها، فاخضلَّتْ عيناه وأطرق، فوضعت يدها على يده وهي تقول:
«سأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أنَّ هؤلاء ليسوا دوامًا بالمحبين، وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق، وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيَّل فيَّ قوَّة الأبطال ومناعة الصناديد!
وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري …!»١٤

وأحبته «صديقًا» تفزع إليه إذا ضاقتْ بآلامها وحزبتْها الهموم …

•••

وهي الفتاة التي لم تعرف في حياتها إلا التجهم والعبوس، ولم تعرف من دنياها إلا الجد الصارم، ولم يكن لها من عمل غير الاستغراق في الفكر، أو الاستغراق في الفنِّ، وإنها لأنثى وإن كانت فيلسوفة شاعرة …

والرافعي رجل كان لا يحمل من هم، فما يدع المزاح والدعابة، وإن الدنيا لتصطرع حواليه وإن كان القضاء منه بمرصد يراه ويتوقعه، وإنه ليهزل في أجدِّ الجدِّ وأحرج الساعات هَزْلَه في أصفى حالاته وأسعد أيامه، فما يُجالسه ذو هم إلا سُرِّي عنه، كأنما يمسح قلبه فيمحو أحزانه …

وتحدَّث إليها وتحدَّثت إليه، فأحبته «الرفيق الأنيس» الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه …

•••

واستمعت إلى صوته يتحدَّث، فكان له في نفسها رنين، ونظرتْ إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأتْ فيها مرآة صافية لا تعرف الخداع والتزوير، ولمحتْه يبتسم، فجذبتْها إليه ابتسامة لم تجد مثلها إلا زيفًا على شفاه الرجال، ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدَّث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت، وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها، وأحست في نفسها إحساسًا ليس لها به عهد، فتناولتْ قلمها لتكتب له:١٥

سأستعيد ذكرك متكلمًا في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكايةَ البشر المتجمعة في فرد واحد، وسأستمع إلى جميع الأصوات؛ علِّي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأُشرِّح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك … وسأبتسم في المرآة ابتسامتك.

في حضورك سأتحوَّل عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحوَّل عن الآخرين إليك لأفكر فيك …

سأتخيل ألفَ ألفِ مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عاديِّ الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل …

وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورًا؛ لأنك أوحيت إليَّ ما عجز دونه الآخرون. أتعْلَمُ ذلك، أنت الذي لا تعلم! أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم …!

وكان حبها إعجابًا بالعقل الجميل، ثم تقديرًا لأستاذها الذي فجَّر لها ينبوع الشعر والبيان، ثم إجلالًا للصديق الذي وجدتْ مفزعها إليه، ثم انعطافًا إلى الرفيق الأنيس الذي كشف لها عن أفراح الحياة، ثم … ثم حبًّا يستأثر بنفسها ويسيطر عليها في غيبه ومشهده فما لها عمل إلا أن تفكر فيه …

وأضلَّها الهوى وأضله، وخُيل إليها أنها تستطيع أن تكون أرفع محلًّا لو أنها منعتْه بعض ما تمنحه، وخُيل إليه أنه يستطيع، وقالت له: «أنا لا أشفق على آلامك، وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟» وقالت له كبرياؤه وغيرته وظنونه غير ما قالت صاحبته، ومضى كل منهما إلى طريق والقلب يتلفت، وما عرفتْ إلا من بعدُ أنه يحبها حبًّا لا يطيق أن يتسع أكثر مما تتسع له نفس إنسان، وما عرف إلا من بعدُ أنها كانت تجافيه لتطلب إليه أن يكون في الحب أجرأ مما كان …

وعرف وعرفتْ، ولكن العقدة لم تجد مَن يحلها وبينهما فلسفة الفيلسوف وكبرياء المتكبر، وظلَّ وظلت وبينهما البعد البعيد على هوًى وحنين … حتى جاء الموت فحل العقدة التي استعصتْ على الأحياء …

تعقيب١٦

… هذه قصة الرافعي وفلانة، كما رواها لي، وكما يعرفها كثير من خاصته، وإني لأعلم أن كثيرًا ممن يعرفونها ويعرفونه سيدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك، وسيقول قائل، وسيدَّعي ومدَّعٍ، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلل، ولا عليَّ من كل أولئك ما دمت أروي القصة التي أعرفها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير أيُّ تأثير يُرَدُّ إليه أكثر أدبه من بعد، وحسبه أنه كان الوحي الذي استمدَّ منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحسبي أنني قدَّمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد!

على أني مسئول أن أبرِّئ نفسي أمام قدس الحق، فأعترف هنا بأن ما رويت من هذه القصة كان مصدره الرافعي نفسه، مما حدَّثني به وحدَّث أصحابه، أو مما جاء في رسائل أصحابه إليه ممن كانوا يعرفون قصته، وما بي شك فيما روي من هذا الحديث، فما جرَّبتُ عليه الكذب، ولا كان هناك ما يدعوه إلى الاختراع والتزيد كما يزعم من يزعم، ولكنها حقيقة أُثبتها للتاريخ؛ لعل باحثًا مدققًا يوفَّق في غدٍ إلى إثبات ما أعجز اليوم عن التعليل له.

على أن الرافعي قد أقرأني رسالة أو رسالتين بخط «فلانة» إليه، وهما وإن لم تدلا دلالة صريحة على حقيقة ما رويت من قصة هذا الحب، لا تنفيانها كذلك، بل لعلهما أقرب إلى الإثبات منهما إلى النفي، والحذر طبيعة المرأة!

ثم إن الرافعي لم يخصَّني وحدي برواية هذه الحادثة، فإن عشرات من الأدباء في مصر قد سمعوها منه، ومنهم من يعرف «فلانة» معرفة الرأي والنظر، ومنهم من كان يغشى مجلسها لا يتخلف عنه مرة، ومنهم من كان الرافعي يقصد بالحديث إليه أن يكون بريدًا بينهما ينقل إليها حديثه شفةً إلى شفة، وفي الناس بُرُد إن لم تزد على ما سمعتْ من حديث الحب لم تنقص منه شيئًا! فلو أن الرافعي كان يتزيَّد فيما روى لي ولأصحابي من حديث هذا الحب لخشي مغبَّة أمره، وإن «فلانة» يومئذٍ ذات جاهٍ وسلطان!

وثمة برهان آخر لا يتناوله الشك: وهو رسالة من رسائلها نقلها الرافعي من كتاب من كتبها المعروفة لا أسميه، إلى كتابه أوراق الورد،١٧ يزعم أنها رسالة منها إليه في كتاب، جوابًا على رسالة بعث بها إليها — وكانت هذه بعضَ وسائلهما في المراسلة كما رويتُ من قبل١٨ — وأوراق الورد معروف مشهور، وكتابها معروف مشهور كذلك، ومما لا يحتمل الشك أن تكون «فلانة» لم تقرأ هذه الرسالة في كتاب الرافعي ولم ينبهها أحد إليها، وأبعد منه في الشك أن تكون قد قرأت هذه الرسالة المنشورة قبل ذلك في كتاب يحمل اسمها ثم لم تفهم ما يعنيه الرافعي، ولا شيء وراء ذلك إلا أن تكون قرأتْ، وفهمتْ، وسكتتْ، ولا شيء بعدُ إلا أن يكون بينهما شيء يؤيد ما رواه الرافعي من قصة هذا الحب …!

•••

على أن اعتراضات ثلاثة توجهتْ إلى ما رويتُ من هذه القصة، لا بد من التنبيه إليها؛ أما أحدها فمن الأستاذ الأديب جورج إبراهيم، فهو يُنكر عليَّ أن أستند إلى هذه الرواية، ويروي لي أنه صحب الرافعي في أولى زياراته لفلانة، وشهد ما كان من تأثر الرافعي وانفعاله وجذْبته، ولكنه إلى ذلك ينكر أن يكون بين الرافعي وفلانة صلة بعد هذه الزَّوْرة، ويصحح ما رويته عن الرافعي — وكان من سامعيه — بأنه حبٌّ من طرَف واحد، اختلطتْ فيه مذاهب الفكر ومذاهب النظر فشُبِّه للرافعي ما شبِّه، فما يحكيه هو صورة ما في نفسه لا صورة ما كان في الحقيقة …!

فالرافعي عند الأستاذ جورج إبراهيم لم يكذب، ولكنه أخطأ التقدير والنظر، وعندنا أن عدم علم الأستاذ جورج أن صلة ما كانت بين الرافعي وفلانة بعد الزَّورة الأولى لا ينفي أن الصلة كانت حقيقة ولم يعلم بها، فحديثه من ثَمَّ لا ينفي شيئًا ولا يثبته، ويبقى بعد ذلك ما يُستنبط من الرأي على هامش القصة.

وقريب مما يرويه الأستاذ جورج، ما تستنبطه جريدة المكشوف في بيروت في حديث تناولتْ به بعض ما نشرنا من قصة حب الرافعي.

•••

وتعقيب ثانٍ توجه به صديقنا الأستاذ فؤاد صروف — محرر المقتطف — على ما رويناه، قال:

لقد سمعت هذه القصة من الرافعي كما رويتَها، فما أشك في صحة ما تكتب، ولكني أسأل: هل كانت «فلانة» تُبادل الرافعي الحب …؟

هاكَ خبرًا يدعوك معي إلى هذا السؤال: في يناير من سنة ١٩٣٤ — أو ١٩٣٥ — دعتْني «فلانة» إلى مقابلتها، فلما شخصتُ إليها رأيتُ في وجهها لونًا من الغضب، فدفعتْ إليَّ رسالتين من رسائل الحب بعث بهما الرافعي إليها لأرى رأيي فيهما، ثم قالت: ماذا تراني أفعل لأذود عن نفسي؟ أتراني أتقدَّم في ذاك إلى القضاء؟

قال الأستاذ صروف: «فاعتصمتُ بالصمت من لا ونعم، وتركتُ لها أن تستشير غيري، ولستُ أدري ما كان بعد ذلك!»

قلت: وهذه رواية جديرة بأن تُذكر — ومعذرة من ذِكرها إلى الأستاذ صروف — على أنها لا تدل على شيء في هذا المقام أكثر من أن فلانة لم يكن يروقها في سنة ١٩٣٤ أن يتحبَّب إليها الرافعي، فماذا كان أمره وأمرها قبل ذلك بعشر سنين؟

أيكون لهاتين الرسالتين اللتين يتحدَّث عنهما الأستاذ صروف صلة بما كان في نفس الرافعي من يقين بأنه سوف يلقى فلانة ليصل ما انقطع من حبال الود بعد عشر سنين من يوم القطيعة.١٩

أعني: هل حاول الرافعي — بعد عشر سنين من القطيعة — أن يُعيد ما كان بهاتين الرسالتين فلم يُصادف قلبًا يستجيب لدعائه؟

على أن هذا الخبر — أيضًا — لا ينفي شيئًا ولا يثبته، ولكنه يفتح بابًا إلى الاستنباط والرأي.

ولكن مما لا شك فيه أن الرافعي لم يكن يعلم شيئًا عن وقع هاتين الرسالتين في نفس صاحبته، ولا أحسبها صنعتْ شيئًا يدل على مبلغ استيائها من هاتين الرسالتين، وإلا لما ظل يتعلق بالأمل في لقائها إلى شتاء ١٩٣٥، وكنتُ معه لما همَّ بزيارتها.٢٠

•••

وثمة اعتراض ثالث يعترضه الدكتور زكي مبارك، وما كان لي أن أثبته هنا لولا أن أثبتَه هو في كتاب من كتبه نشره على الناس منذ قريب،٢١ ولولا أن أشار إليه في مقالاتٍ نشرها في مصر وفي العراق وفي بيروت!

والدكتور زكي مبارك أديب مشهور، ولكن آفته — ولكل أديب آفة — أن يدس أنفه فيما يعنيه وما لا يعنيه، وهو قد شاء أن يحشر نفسه في هذه القصة التي لا يهمه منها إلا أن يُعلن للناس — والإعلان عن نفسه بعض خصائصه الأدبية — أنه كان يجلس إلى «فلانة» جنبًا لجنب في الجامعة المصرية بضع سنين!

وليس يهمنا أن يجلس الدكتور زكي مبارك جنبًا لجنب إلى فلانة أو إلى نساء الأرض جميعًا — كما يريد أن يتعالم عنه الناس في أكثر ما يكتب — ولكنه يزعم أن ما كتبناه عما كان بين الرافعي وفلانة ليس من الحقيقة في شيء؛ لأنه كان يجلس مع فلانة جنبًا إلى جنب في الجامعة بضع سنين فلم تحدِّثه يومًا أن حبًّا كان بينها وبين الرافعي …!

فمن شاء أن يقرأ مثلًا للحجة الواضحة في أدب الدكتور زكي مبارك، فليقرأ هذه الحجة، على شرط أن يكون مؤمنًا بأن الدكتور زكي مبارك لا يجلس إلى «فلاناتٍ» ولا يجلس إليه «فلاناتٌ» إلا ليحدثنه عما كان لهن من جولات في ميادين الحب يسألنه الرأي والمعونة!

وليدع القارئ بعد ذلك حديث الدكتور عن العُري والعراة، وعن «الأديب العريان …» الذي روى هذه القصة.

وعفا الله عن أهل الأدب!

•••

هذا كل ما تلقيتُ من اعتراض المعترضين من أهل الأدب أو من أهل الدعوى، وعلى أيِّ الوجوه انتهى رأي الأدباء في تحقيق هذه القصة، فإن ما لا شك فيه أن الرافعي كان يحب «فلانة»، وهذا حسبي، فما يعنيني من هذا التاريخ إلا إثبات المؤثرات التي كانت تعمل في نفس الرافعي فتلهمه الشعر والبيان، أما هي وما كان منها وحقيقة عواطفها، فشيء يتصل بتاريخها هي بعد عمر مديد!

ونعود إلى تتمة القصة بالحديث عن كتب الرافعي في فلسفة الجمال والحب.

رسائل الأحزان

هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت، ثم لأنها من لسان كان سِلْمًا يترجم عن قلب كان حَرْبًا، ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان كالحياة ماضيًا إلى قبر …!

الرافعي

خرج الرافعي من مجلس صاحبته مغضبًا على ما روينا، في نفسه ثورة تَؤجُّ، وفي أعراقه دم يفور، وفي رأسه مرجل يتلهب، وكتب إليها كتاب القطيعة وأرسل به ساعي البريد، ثم عاد إلى نفسه فما وجد فيما كتب شفاء لنفسه، ولا هدوءًا لفكره، ولا راحة في أعصابه، وأحس لأول مرة منذ كان الحب بينه وبين صاحبته أنه في حاجة إلى مَن يتحدَّث إليه، وافتقد أصحابه فما وجد منهم أحدًا يَبُثُّه أحزانه ويُفضي إليه بذات صدره، ويطرح بين يديه أحماله، لقد شغله الحب عن أصحابه عامًا بحاله لا يلقاهم ولا يلقَوْنه، ولا يتحدَّث إليهم ولا يتحدَّثون، فلما عاد إليهم كان بينه وبينهم من البُعد ما بين مشرق عام ومغربه، بلياليه وأصباحه وتاريخه وحوادثه، وثقلتْ عليه الوحدة وضاقتْ بها نفسه، ففزع إلى قلمه يشكو إليه ويستمع إلى شكاته، فكتب الرسالة الأولى من «رسائل الأحزان» إلى صديقه الذي خصَّه بسرِّه … إلى نفسه …

وترادفتْ رسائله من بعدُ مسهبةً ضافية يصف فيها من حاله ومن خبره وما كان بينه وبين صاحبته، في أسلوب فيه كبرياء المتكبر، ولوعة العاشق، ومرارة الثائر الموتور، و… وذلة المحب المفتون يستجدي فاتنته بعض العطف والرحمة والحنان.

بدأ الرافعي كتابه «رسائل الأحزان» في يناير سنة ١٩٢٤، وانتهى منه في مساء ١٧ من فبراير سنة ١٩٢٤.

•••

يُخاطب الرافعي نفسه في «رسائل الأحزان» على أسلوب «التجريد» فهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه، فتراه يوجِّه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول يستعينه على السلوان بالبثِّ والشكوى، ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق نتفًا من الرسائل يدير عليها أسلوبًا من الحديث في رسائله هو، وما هناك صديق ولا رسائل، إلا الرافعي ورسائله، يتحدَّث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه.

أو قُلْ: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئًا مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل، إلى صاحبته ثم نشرها كتابًا تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه، فهي رسائله إليها على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه.

وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخلُق، يتمنى العاشق لو كان له ملء الفضاء ليهبه إلى مَن يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول …! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته: «إنه يحبك»، يعني: «أنا أحبك!» ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأًى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهدٍ قريب …!

وبهذا الأسلوب تحدَّث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان.

«أنا …» هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعتَ في نبره معنى شموخ الأنف، وصَعَر الخد، وكبرياء الخلُق، لا يؤدِّي في لغة الحب إلا معنًى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى: «أنا محروم …!»

يا عجبًا للحب! كل شيء فيه يحوَّل عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام …!

وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: «هو»، ويعني: «أنا …»؛ لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب …!

•••

إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتابًا يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي، وهي كل حسْبه من القرَّاء، فمن ذلك لم يجرِ فيها على نظام المؤلفين فيما يكتبون للقرَّاء من قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان والحادثة، بل أرسلها خواطر مطلقة لا يعنيه أن يقرأها قارئها فيجد فيها اللذة والمتاع، أو يجد فيها الملل وحيرة الفكرة وشرود الخاطر.

ولم يكتبها — كما يزعم — رسائلَ أدبية عامة تتم بها العربية تمامها في فنٍّ من فنون الرسائل لم يُؤْثَر مثلُه فيما نقل إلينا من تراث الكُتَّاب العرب، ليحتذيه المتأدِّبون وينسجوا على منواله، بل هي رسائل خاصة تترجم عن شيء كان بين نفسين في قصة لم يذكرها في كتابه ولم ينشر من خبرها.

وبذلك ظلت «رسائل الأحزان» عند أكثر قرَّاء العربية شيئًا من البيان المصنوع تكلَّفَه كاتبُه يحاول به أن يستحدث فنًّا في العربية لم يوفَّق إلى تجويده على أنه كتاب فريد في العربية في أسلوبه ومعانيه وبيانه الرائع، ولكنه بقيةُ قصةٍ لم تنشر معه، فجاء كما تأكل النار كتابًا من عيون الكتب فما تُبقي منه إلا على الهامش والتعليق، وصُلْب الكتاب رماد في بقايا النار …

فمن شاء أن يقرأ رسائل الأحزان فليقرأ قصة غرام الرافعي قبل أن يقرأه، فسيجد فيه عندئذٍ شيئًا كان يفتقده فلا يجده، ولسوف يوقن يومئذٍ أن الرافعي أنشأ في العربية أدبًا يستحق الخلود.

•••

قلت: إن الرافعي أنشأ رسائل الأحزان؛ ليكون رسالة إليها هي، فهذا كان أول أمره فيما بينهما من الرسائل التي قلت عنها فيما سبق إنهما كانا يتبادلانها على أعين القراء من غير أن يذيع السر أو ينكشف الضمير، ومن غير أن يسعى بينهما حامل البريد، ولقد ردَّت صاحبته على رسالته هذه برسالة مثلها بعثتْ بها إليه مع بائع الصحف والمجلات … ثم تتابعت رسائلهما من بعد على هذا الأسلوب العجيب …!

وسيأتي يوم يُدرس فيه أدب فلانة صاحبة الرافعي، وسيجد الباحثون يومئذٍ لونًا لذيذًا من البحث؛ إذ يعثرون على رسائلها إليه في بعض كتبها ومقالاتها، وليس بعيدًا أن يقرأ الأدباء يومئذٍ كتابًا جديدًا بعنوان «رسائلها ورسائله» بتاريخها وزمانها وأسبابها، مقتبسةً مما نَشر ونشرتْ في الصحف والمجلات من مقالات وأقاصيص بين سنتي ١٩٢٤ و١٩٣٦.

أيها الباحث الذي سيأتي أوانه، ابحث عن حَشْو القول وفضول الكلام في مقالاتها ومقالاته، وأقرِن تاريخًا إلى تاريخ، وسببًا إلى سبب؛ لتنشر لنا رسائلها ورسائله في كتاب …

•••

أراني لم أتحدَّث عن «رسائل الأحزان» كما يتحدَّث كاتب من الكتَّاب عن كتاب من الكتب، فليس هذا إليَّ، وإنما قدَّمتُ وسائل القول لمن يريد أن يقول، وأحسب أن كلامًا سيقال عن رسائل الأحزان من بعدُ غيرَ ما كان يقال، وأعتقد أن الدكتور طه حسين لن يكرِّر مقالته التي قالها فيه من قبل، يوم أشهدَ الله على أنه لم يفهم منه حرفًا، وأعتقد أن الدكتور منصور فهمي لن يقتصر على قوله فيه من قبل: «إن معانيه من آخر طراز يأتي من أوربا …»؛ لأنه سيجد مجالًا للقول في غير معانيه وبيانه.

•••

ولكنَّ في رسائل الأحزان شيئًا غير ما قدمتُ من أشيائه؛ ذلك لأن الرافعي — رحمه الله — كان ولوعًا بأن يضيف إلى كل شيء شيئًا من عنده، وتلك كانت طبيعته في الاستطراد عند أكثر ما يكتب.

سيجد الباحث في رسائل الأحزان عند بعض الرسائل وفي هامش بعض الصفحات من الكتاب كلامًا وشعرًا لا يتساوق مع القصة التي رَويتُ، إلا أن الرافعي كانت تغلبه طبيعته الفنية في الكتابة أحيانًا فيستطرد إلى ما لا يريد أن يقول؛ ليثبت معنًى يخشى أن يفوته، أو ليذكر حادثة يراها بالحادثة التي يرويها أشبه، أو لأن تعبيرًا جميلًا وجد موضعه الفني من الكلام وإن لم يجد موضعه من الحادثة، فإن رأى الباحث شيئًا من ذلك فلا يداخله الريب فيما أثبتُّ من الحقيقة التي أرويها كما أعرفها.

وسيجد في بعض الرسائل حديثًا وشعرًا عن لبنان وأيام لبنان، وما عرف الرافعي صاحبته إلا في مصر وإن كان مولدها هناك. فليذكر مَن يريد أن يعلم، أن صاحبة الرافعي هذه لم تكن هي أولى حبائبه، وقد كان له قبل أن يعرفها في الغرام جوَلان، وكان بعض مَن أحب قبلها فتاة أديبة عرفها في لبنان، وهي سَمِيَّة صاحبتنا هذه، وكان بينهما رسائل أثبت الرافعي بعضها في «أوراق الورد»، وهي التي أنشأ من أجلها كتابه «حديث القمر»، على أن عمر الحب لم يَطُل بينهما؛ إذ تروجتْ وهاجرتْ مع زوجها إلى أمريكا لتشتغل بالصحافة العربية هناك — وما تزال — فما جاء في رسائل الأحزان من حديث لبنان وذِكر أيامٍ هناك، فهو بقية من ذكرى صاحبة «حديث القمر»، أقحمه في رسائله؛ حرصًا عليه وبخلًا به على الضياع.

•••

لقد كان حب الرافعي الأخير حادثة في أيامه فعاد حديثًا في فكره، ورسائل الأحزان هي أول ما أنشأ من وحي هذا الحب، على أن قارئه يقرؤه فما يعرف أهو رسالة عاشق ألحَّ عليه الحب، أم زفرة مبغضٍ يتلذَّع بالبغض قلبه؟ والحق أن الرافعي أنشأه وهو من الحب في غمرة بلغتْ به من الغيظ والحنق أن يتخيل أنه قادر على أن يبغض من كان يحب، بغضًا يردُّ عليه كبرياءه وينتقم له، فما فعل إلا أن أعلن حبه في أسلوب صارخ عنيف كما تحنو الأم على وليدها في عنفوان الحب فتعضه وإنها لتريد أن تُقبِّله، أو كما تقسو ذراع الحبيب على الحبيب تضمه في عنفٍ وما بها إلا الترفق والحنان …!

وطبع الرافعي كتابه وأنفذه إلى صاحبته، فكتبتْ إليه … وثارتْ ثورة الرافعي مرة ثانية فأصدر «السحاب الأحمر».

السحاب الأحمر

لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا … ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين — حين يقع — أعنف ما في الخصومة؛ إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصمين في عالم النفس، متحابان تَبَاغَضَا …

الرافعي

تُرى ماذا كتبتْ إليه صاحبته بعدما قرأتْ رسائل الأحزان، فأثارتْ نفسه بعد هَدْأتها وردَّتْه من الغيظ والحنق إلى أن يقول: «يا هذه، لا أدري ما تقولين، ولكن الحقيقة التي أعرفها أن نفس المرأة إذا اتسختْ كان كلامها في حاجة إلى أن يُغسل بالماء والصابون وهيهات …!» ويقول: «يجب على المدارس حين تُعلم الفتاة كيف تتكلم أن تعلمها أيضًا كيف تسكت عن بعض كلامها.»

مَنْ لي بأن أعرف ما كان وقْع رسائل الأحزان في نفسها وما ردَّتْ به؟

إنه يتحدث في السحاب الأحمر عن التهمة والظنون، والكلام الذي لا يغسله الماء والصابون، والنجمة الهاوية، وخداع النظر في الحب، وفساد الرأي في الهوى، وطيش القلب في الاستسلام، ثم … ثم يحاول أن يعتذر …!

هنا الحلقة المفقودة في تاريخ هذا الحب، فلست أدَّعي المعرفة، ولقد كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا السحاب الأحمر يقرأ لي بعض فصوله، فأشرت إليه عند فقرة من الكلام ليجيبني عن سؤال يكشف عن شيء من خبرها ومن خبره، فوضع الكتاب إلى جانبه وحدَّق فيَّ طويلًا ثم سكتَ وسبحتْ خواطره إلى عالم بعيد، وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه، ثم قال: «أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نِصابه بين عينيَّ والمصباح …؟» ثم دسَّ يده في درج المكتب فأخرجه ودفعه إليَّ وهو يقول: «ضعْ النصاب بين عينيك والمصباح وانظر، ألست ترى سحابًا يترقرق بالدم كأنَّ قلبًا جريحًا ينزف؟ في شعاعة هذا النور تراءتْ لي هذه الخواطر تقرؤها في السحاب الأحمر …»

ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال …

•••

أحسب أنَّ الرافعي حين أنشأ السحاب الأحمر كان في حالة عصبية قلقة لست أعرف مأتاها ومردَّها، ولكن فصول الكتاب تتحدَّث عن خبرها في شيء من الغموض والإبهام.

لقد أنشأ الرافعي رسائل الأحزان؛ ليكون رسالة إليها يتحدَّث فيها عن حبه وآلامه، ولست أشك أنَّ صاحبته حين تأدَّتْ إليها رسائله قد فهمتْ ما يعنيه وعرفتْ ذات صدره، وأحسبها — وهي الأديبة الشاعرة — قد سرَّها أن تكون هي فَلَك الوحي لما في رسائل الأحزان من كل معنًى جميل، أفتراها قد بدا لها أن تهيجه بالدلال والإغراء وقسوة العتب وتصنُّع الغضب، لتفتنه وتزيده وحيًا وشعرًا وحكمة …؟

إن كانت هذه رسالتها إليه فما أراها قد بلغتْ بها إلا أن هاجتْ كبرياءه وأثارتْ نفسه، فكتب كتابه ولكن لغير ما أرادتْ وما قصدتْ إليه …

•••

يقوم السحاب الأحمر على سبب واحد، حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة …

على أنَّ كلَّ ما فيه لا يشير إلا لمعنًى واحد، هو أنَّ قلبًا وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه، فما يملك إلا أن يصيح بملء ما فيه: إنني أُبغضك أيتها … أيتها المحبوبة!

وكما يفزع الشخص إذا حزبه أمره إلى أصدقائه يستعينهم ويستلهمهم الرأي في بلواه، كذلك فزع الرافعي في السحاب الأحمر، ولكن إلى أصدقاء من غير عالمه يستعينهم على أمره. فهذا صديقه الشيخ علي صاحب المساكين، وهذا صفيُّه وصاحب نشأته الشيخ أحمد الرافعي، وذلك أستاذه ومثله العالي في دينه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهذه أمٌّ ضلَّ ولداها الحبيبان، وتلك زوج يفارقها زوجها الحبيب إلى السجن، وهذا، وهذه، وتلك يحدِّثونه جميعًا حديثهم عن الحب في رأي العين، وفي رأي القلب، وفي رأي العقل، ويحدِّثهم حديثه … فما تلمح من أحاديث هؤلاء جميعًا إلا أن الرافعي في جهاد عنيف بين قلبه وعقله، يريد أن يثبت الغلبة لعقله على هواه؛ ليخرج من أمر صاحبته برأيه وفكره وكبريائه، ثم لا تكون الغلبة في النهاية إلا للحب على رأيه وفكره وكبريائه.

على أن كتاب السحاب الأحمر ليس كله خالصًا لصاحبته وإن يكن من وحيها؛ ذلك أن نسقه العجيب، ومحاولة الرافعي به أن ينصرف عنها، قد شرع له في الكتاب مسالكَ من القول لم تكن مما يقتضيه ما بينه وبين صاحبته.

•••

في الفصل الأول من السحاب الأحمر، يتحدَّث الرافعي عن فتاة «عرفها قديمًا في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها، ثم يقف!» وهو يعني صاحبته التي أملتْ عليه «حديث القمر»، وإنك لتقرأ حديثه عنها، ووصفَه لها، وما كان من أثرها في نفسه، فتسأل نفسك: أي شيء ردَّه إلى هذه الذكرى البعيدة فأيقظها في نفسه بعد اثنتي عشرة سنة محا الزمان بها في قلبه وأثبت! فلا تلبث أن تجد الجواب في الأسطر الأخيرة من هذا الفصل:

إن من النساء ما يُفْهَم ثم يعلو في معانيه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يُفهَم ثم يَسفل في معانيه الخسيسة إلى أن يُبتذل …

إن من المرأة ما يُحَبُّ إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يُكرَه إلى أن يلتحق بالكفر …

من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مُرٌّ كريه يُشبع منه بلا أكل …!

أتراه بهذا يُوازن بين واحدة وواحدة، ليقول لهذه: إن تلك كانت خيرًا منك؟ وهل تحسبه كان يعتقد ذلك؟ أما أنا فأعرف من أخلاق الرافعي أن هذا معنًى لم يكن يعنيه، ولكنها مساومة في الحب يريد بها أن يهيج غيرة صاحبته ليردَّها إليه، أو أنه أراد أن ينقذ كبرياءه فيزعم لصاحبته أنه لم يكن يعنيها برسائل الأحزان؛ لأن هنالك أخرى …

•••

وتقرأ «النجمة الهاوية» في الفصل الثاني، فتسمعه يقول: «تتمُّ آمالُنا حين لا نؤمل!» فما تشك أن هناك رسالة إليها، رسالة يمليها الحب المغيظ المحنق، يحاول فيها أن يوهمها أنها لم تعد شيئًا في نفسه، وأنه قد تمتْ آماله واستراحتْ نفسه فليس له فيها أمل ولا يتعلق بها رجاء، ثم يستطرد في معاني البغض والهجر والقطيعة بأسلوب قاسٍ عنيف، ولكن قلبه العاشق المفتون ينبض في كلماته، فما ينتهي الفصل حتى يستعلن حبه من وراء كلمات البغض وهو يقول: «أشأم النساء على نفسها من لا تُحَب ولا تُبغَض، وأشأمهنَّ على الناس مَن إذا عدَّتْ مبغضيها لا تَعُدُّ إلا الذين أحبوها …!» وإنني لأعرف الرافعي وأستمع إلى همسات قلبه، فهل ترى ترجمة هذه العبارة إلا أنه يقول: «إنني أُحبك يا أشأم النساء»؟

اقرأ في آخر هذا الفصل الصاخب قوله:

يا مَنْ على الحب ينسانا ونذكره
لسوف تذكرنا يومًا وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمرُ
له صباح، متى تُدْرِكْه أخفاكا

ويتحدَّث في الفصل الثالث عن السجين تحمله عربة السجناء إلى قضائه، وزوجته التي تحبه تشيعه بنظراتها الجازعة، فتعرف من وصفه لساعة الفراق بين الزوجين الحبيبين، أي خاطرة في الحب ألهمتْه هذا الفصل البديع، وكأنك تسمع الرافعي يتحدَّث فيه عن نفسه مما فعل به الفراق: «ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتَها بمسِّ الفناء؛ لأن أرواحًا أخرى فارقتْها، ففي الموت يُمسُّ وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي، وكأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها، وهو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!

وإنما الحبيب وجود حبيبه؛ لأن فيه عواطفه، فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين ونجلس في كل مكان محزونين كأن في القلوب معنًى من المناحة على معنًى من الموت …

ترى العمر يتسلسل يومًا فيومًا ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبَّه القلبُ فينا بغتة معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجارٌ كتطاير عدة سنين من الحياة …»

ويتحدث في الفصلين الرابع والخامس عن تجارة الحب،٢٢ وعن المنافق، فتلمح من وراء حديثه معنًى لا يريد أن يفصح عنه، وإنه لبسبب مما كان بينه وبين صاحبته، أفتراه يشير به إلى شيء من أسباب القطيعة؟

وفي الفصل السادس يتحدَّث عن حب الأم في قصة والدة ضلَّ ولداها الصغيران ثم اهتدتْ إليهما: «الحب! ما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خُلقتْ لهفة الحب أول ما خُلقت إلا في قلب الأم على طفلها … حب الأم في التسمية كالشجرة، تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تُفني عدادَ أوراقها لياليَ وأيامًا، وحب العاشقين كالثمرة؛ ما أسرع ما تنبت، وما أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف، ولكنها تُنسي الشفاهَ التي تذوقها ذلك التاريخَ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة …

… لا لذة في الشجرة، ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة، ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها …

وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسي الله حينًا، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأمَّ أحيانًا!»

وتراه في الفصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده، يحاورهم ويحاورونه فتستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، وإلى الصراع بين عقله وهواه.

إن الرافعي بكبريائه وخُلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يُخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعًا دائمًا بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان، وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر.

•••

وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر، وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فلَّ من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسبٌ ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه، وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمة فيما قضى وقدَّر، وإن دقَّتْ حكمته على الأفهام: «ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرضٍ من الملح، فبماذا أصبحت زُعاقًا لا تحلو ولا تُساغ ولا تُشرب؟ إنك لستَ على أرضٍ من الملح، ولكنك يا ماء البحر ذابتْ فيك الحكمة المِلْحة …!»

قلت في الفصل السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شيء من البيان المصنوع تكلَّفه كاتبه؛ ليحاول به أن يستحدث فنًّا في العربية لم يُوفق إلى تجويده … لأنه بقية قصة لم تنشر معه …

أما السحاب الأحمر فهو كتاب كامل، احذف منه فصلًا أو فصلين في أوله، وشيئًا من فضول القول في سائره، تجد فنًّا في العربية لا يقدر عليه إلا الرافعي، فجرِّدْهُ من قصته أو انسبه إليها، فإنك واجد فيه أدبًا يستحق الخلود، وبيانًا يزهى على البيان، وشعرًا وحكمة ما زال الأدباء يدورون عليهما حتى وجدوهما في أدب الرافعي.

•••

في رسائل الأحزان أراد الرافعي أن تعرف صاحبته من حاله ومن خبره ما أراد، فأغراها بالترفع والدلال عليه، وفي السحاب الأحمر حاول أن يُشعرها أنه قد فرغ من أمرها وفرغتْ من أمره فما لها عنده إلا البغض والإهمال، وما له عندها إلا اللهفة على ما كان من أيامه. أفتراه في السحاب الأحمر قد بلغ ما أراد؟

هيهات أن يخفى الهوى!

استمع إليه يحاول أن يُهيج فيها الغيرة ويبعث اللهفة ويُوقظ الحنين ويُؤرِّث البغضاء ويُثير الندم، فلا يكاد يبلغ آخر الرسالة حتى ينسى ما قصد إليه ليدع لقلبه أن يقول:

ويلي على متدلِّلٍ
ما تنقضي عني فنونهْ
كيف السُّلُوُّ وفي فؤا
دي لا تفارقني عيونهْ؟!

يرحمك الله يا صديقي!

أوراق الورد

… إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي، وكل ما كان ومضى هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجمًا إلى لغة عينيه، أصبحتُ أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري.

كان لها في نفسي مظهر الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه، ثم خضوعي لها خضوعًا لا ينفعني … فيدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعًا لا يضرها.

وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب …

كلما ابتعدتْ في صدِّها خطوتين رجع إليَّ صوابي خطوة.

لقد أصبحتُ أرى ألْيَن العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضا، ولن يحسن عندي ما لا يحسن، ولن أطلب الحب إلا في عصيان الحب، أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يُناسب كبريائي، ودع جرحي يترشش دمًا، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقوَ أول شيء على الألم …

أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها … تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث، ولكن له في القلبين عمل كلام طويل …

الرافعي

هدأتْ ثائرة الرافعي هونًا ما، وفاءتْ إليه نفسه، واعتدلتْ مقادير الأشياء في عينيه، وعاد إلى حالة بين الرضا والغضب، وبين الحب والسلوان، فاستراح إلى اليأس … لولا أثارة من الحنين تنزع به إلى الماضي، وبقية من الشوق واللهفة على ما كان، وفرغت أيامه من الحادثة لتمتلئ من بعدُ بالشعر والحكمة والبيان.

ومضتْ سبع سنين والحياة تذهب به مذاهبها، والذكرى تغشاه في خلوته وتداعبه في أحلامه، والأمانيُّ التي بعثرتْها الكبرياء بدَدًا في أودية النسيان تتخايل له في شكول وألوان، وخواطره من وراء ذلك تعمل، ونفسه الشاعرة تحس وتشعر وتنفعل بما يتعاقب عليها من الرؤى والأحلام، وأتمَّ نظم قصيدته البارعة في «أوراق الورد» سنة ١٩٣١.

أوراق الورد هو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته، ويثبت تاريخًا من تاريخه، في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخًا ولا من بعد.

ويقول الرافعي: إنه جمع في أوراق الورد رسائلها ورسائله. أما رسائله فنعم ولكن على باب من المجاز، وأما رسائلها فما أدري أين موضعها من الكتاب؟ إلا رسالة واحدة وجُزازات من كتب ونتفًا من حديثها وحديثه.

بلى، إن في أوراق الورد طائفة من رسائله إليها، ولكنها رسائل لم تذهب إليها مع البريد، بل هي من الرسائل التي كان يناجيها بها في خلوته، ويتحدَّث بها إلى نفسه، أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسَّل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام، إلا رسالتين أو ثلاثًا مما في أوراق الورد … فلما أتمَّ تأليفها وعقد عقدتها، بعث بها إليها في كتاب مطبوع بعد سبع سنين من تاريخ الفراق!

•••

ولكن أوراق الورد ليس كله من وحي «فلانة» وليست كل رسائله في الكتاب إليها، فهنالك الأخرى، هنالك صاحبة «حديث القمر»، تلك التي عرفها في ربوة من لبنان منذ تسع عشرة سنة، وهنا فلانة …

هما اثنتان لا واحدة: تلك يستمدُّ من لينها وسماحتها وذكرياتها السعيدة معاني الحب التي تملأ النفس بأفراح الحياة، وهذه يستوحيها معاني الكبرياء والصدِّ والقطيعة وذكريات الحب الذي أشرق في خواطره بالشعر وأفعم قلبه بالألم!

لقد مضتْ سبع سنين منذ فارق صاحبته «فلانة» كان قلبه في أثنائها خالصًا لها، ولكن فكره كان يدور على معاني الشعر يلتمسه من هنا ومن هناك، فلما اجتمع له ما أراد، ضمَّ أوراق الورد إلى أشواكه، وأخرجها كتابًا للفن أولًا، ثم لها من بعد.

هو كتاب ليس كله من نبضات قلبه الذي يعشقها وما زال متيَّمًا في هواها، ولكن فيه إلى جانب ذلك فكر المفكِّر وعقل الأديب وحيلة الفنان.

بلى، إنه كان يحبها حبًّا لا يتسع القلب لأن يشرك فيه غيرها، فكان «قلبه» لها من دون النساء جميعًا، ولكن الذكريات كانت تتوزع «فكره» فتوحي إليه من هنا ومن هنالك ومما يستجدُّ على خواطره من بعدُ في معاني الحب والبغض والودِّ والقطيعة.

هو كتاب يصوِّر نفسه وخواطره في الحب، ثم يصوِّر فنه وبيانه في لغة الحب، ثم … ثم لا يصوِّر شيئًا من بعد مما كان بينه وبين صاحبته على وجهه وحقيقته، إلا أن يتدبر قارئه ويستأني ليستخلص معنًى من معنًى على صبر ومعاناة في البحث والاستقراء.

فما رأيتَ من رسالة فيها اللهفة والحنين، وفيها التذلل والاستعطاف، وفيها تصنُّع الغضب ودعوى الكبرياء، وفيها المنى الحالمة تتواثب بين السطور في خفة الفراشة الطائرة، وما رأيتَ من معنًى تحاول أن تمسكه فيفلت، فهو فصل يؤدِّي أداءه في قصة هذا الحب العجيب.

وما قرأتَ من رسالة تصف ما كان في خلوة نفس إلى نفس، وتقص عليك في لغة الماضي حديث قلب إلى قلب، وتكشف لك عن سر الابتسامة ومعنى النظرة، وتتحدَّث إليك عن جمال الطبيعة وفلسفة الكون، فهو ذكرى من الماضي البعيد، وكان حبًّا في القلب فصار حديثًا في الفكر، ثم استتبع شيءٌ شيئًا.

وما قرأتَ من قول مزوَّق، وبيان منمَّق، ومعنًى يلد معنًى، وفكرة تستجرُّ فكرة، وعبارة تتوكأ على عبارة، فهو من أداء الفنِّ وولادة الفكر.

ولقد تجد رسالة كلها حنين ولهفة، أو حادثة وذكرى، أو فن من الفن، ولقد تجد كذلك رسالة غيرها تجمع هذه الثلاثة في قَرَن، ففيها قلب ينبض، وذكرى تعود، وبيان مصنوع.

فإذا أنت عرفتَ هذه الثلاثة، عرفتَ الكتاب، وعرفتَ صاحبه، وخرجتَ منه بشيء.

•••

يبدأ أوراق الورد بمقدمة بليغة في الأدب يتحدَّث فيها عن تاريخ رسائل الحب في العربية بأسلوب هو أسلوب الرافعي، وإحاطة هي إحاطته، وسعة اطلاع لا تعرفها لغيره، وهذه المقدمة وحدها هي باب في الأدب العربي لم يُنسج على منواله ولم يكتب مثله، تُذكِّر قارئها ذلك النهج البارع الذي نهجه الرافعي العالم المؤرخ في كتابة «تاريخ آدب العرب»، فكان به أول من كتب في تاريخ الأدب وآخر من كتب …

وتأتي بعد هذا الفصل مقدِّمة الرسائل، وفيها سبب تسمية الكتاب، وهو شيء مما كان بينه وبين صاحبته. يقول: إنه كان في مجلسها يومًا ومعها وردة، فأخذت تحدِّثه عن الحب وعمر الحب، وعن الورد وعمر الورد، وكأنها تقول له: احذر أن تجعل حظك من الوردة أكثر من أن تستنشيها على بُعد من دون لمسة البنان، واحذر في الحب … قال: «ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطتْ وردتها إلى عروة صاحبها، فقال لها: وضعتِها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معانٍ في القلب كأشواكها … فاستضحكتْ وقالت: فإذا كتبتَ يومًا معاني الأشواك فسمِّها أوراق الورد … وكذلك سَمَّاها.»

ويمضي في هذه المقدمة يتحدَّث عن حبه، وآلامه في الحب، ورأيه في الحب، وشيء مما كان بينه وبينها، ثم يتحدَّث عن نهجه في هذه الرسائل، وما أراد بها، وما أوحاها إليه، في أسلوب كله حنين، وكله شوق وألم.

ثم تأتي بعد ذلك فصول الكتاب متتابعة على ما أوضحتُ طريقها من قبل: فيها حنين العاشق المهجور، وفيها مُنية المتمني، وفيها ذكريات السالي، وفيها فن الأديب وشعر الشاعر، وفيها من رسائلها ومن حديثها …

•••

من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئًا، ومن أراده رسائل وجوابها في معنًى خاص لم يجد شيئًا، ومن أراد تسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئًا، ومن أراده نموذجًا من الرسائل يحتذيه في رسائله إلى مَن يحب لم يجد شيئًا، ومن أراده قصة قلب ينبض بمعانيه على حاليه في الرضا والغضب، ويتحدَّث بأمانيه على حاليه في الحب والسلوان، وجد كل شيء.

وهو في الفن فنٌّ وحده، لا تجد في بيانه ومعانيه ضريبًا له مما أنشأ الكُتَّاب وأنشد الشعراء في معاني الحب، على أنه بأسلوبه العنيف وبيانه العالي وفكرته السامية في الحب، لا يعرف قرَّاءه في العربية، وكم قارئ استهواه عنوان الكتاب وموضوعه فتناوله بشوق ولهفة، فما هو إلا أن يمضي فيه صفحات قليلة حتى تُسلمه يمناه إلى يسراه إلى الزاوية المهملة من مكتبته، ثم لا يعود إليه …

وكم قارئ كان لا يعرف الرافعي الشاعر الثائر العنيف في حبه وبغضه وكبريائه، فلما قرأ «أوراق الورد» عرفه فأحبه فاستخلصه لنفسه فما يعرفه في الأدباء إلا أنه مؤلف أوراق الورد.

وكم وكم … ولكن أوراق الورد ما يزال مجهولًا عند أكثر قرَّاء العربية وإن كان في مكتباتهم؛ لأن القارئ الذي يلذُّه أوراق الورد ما زال يتعلم في المدرسة كيف يقرأ ليستفيد ويضمَّ فكرًا إلى فكره لا ليتسلَّى ويهرب من فكره؛ لأن العربية ليس لها قرَّاء …!

ليت شعري أفي العربية كلها شاعر يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من أوراق الورد أو يجمع معانيها في قصيدة؟ ابحثوا عن جمهور هذا الشاعر وقرائه يوم تسمعون قصيده …

أرأيت إلى المنْجم الذي يمتدُّ في الأرض ويتغلغل بعروق الذهب؟ إنه كنز، ولكن مَنْ ذا يصبر على المعاناة في استخراجه والبلوغ إليه إلا أن يكون صاحب أيدٍ وقوَّة؟ إنه كنز يطلبه الجميع، ولكنك لن تجد في الجميع مَن يقدر على استخلاصه من بين الصخور المتراكبة عليه وحواليه من طبقات الأرض إلا الرجلَ الواحد المحظوظ الذي يكون معه الصبر.

إن أوراق الورد مَنْجم من المعاني الذهبية، لو عرفه المتأدِّبون من شبابنا لوضعوا يدهم على أثمن كنز في العربية في معاني الحب والجمال يكون لهم غذاء ومادة في الشعر والبيان.

وكان الرافعي — رحمه الله — يعتز بأوراق الورد اعتزازه بأنفس ما أنتج في أدب الإنشاء، ويُباهي ويفتخر، وما أحسبه تعزَّى عن صاحبته بقليل إذ تعزَّى بما لقي من النجاح والتوفيق في إنشاء أوراق الورد، وكما تجد الأم سلوتها في ولدها العزيز عن الزوج الحبيب الذي طواه الموت، وجد الرافعي العزاء في أطفال معانيه عن مطلَّقته العنيدة … لقد فارقها ولكنه احتواها في كتاب!

إن الأم لا تنسى زوجها الحبيب إذا فارقها وخلَّف بين يديها بَضْعة منه، ولكنها تجد العزاء عنه بشيء منه، وإن قلبها ليخفق بذكراه في عينَيْ هذا الحبيب الصغير، وكذلك لم ينس الرافعي، ولكنه وجد السلوان … لقد أفلتتْ من يده، ولكنها خلفتْ ذكراها معه، ذكرى حيةً ناطقة تتمثل معانيَ وكلمات في كتاب يقرؤه كلما لجَّ به الحنين فكأنه منها بمسمع ومشهد قريب!

يرحمه الله! لقد مات، ولكن قلبه ما يزال ينبض يتحدَّث عن آلامه وأشواقه في قلب كل محب يقرأ كتابه فيجد فيه صورة من قلبه وعواطفه وآماله …

يرحمه الله!

١  رسائل الأحزان.
٢  كذلك كان يرسم اسمها ولا يُصرح به، فإذا أبدل القارئ حرفًا بحرف فقد عرف مَن «هي»، وقد ماتت «هي» عذراء في سنة ١٩٤١، بعد موته بأربع سنين وبضعة أشهر، وكانت خاتمتها مأساة!
٣  أحسب سنها في ذلك الوقت كانت بضعًا وعشرين سنة.
٤  يزعم الرافعي أن «مصيف» هي تصغير «مصطفى» على قاعدة الترخيم، وصوابه صُفَيٌّ (بضم ففتح فتضعيف)، والرافعي على علمه بخطأ هذا التصغير كان حريصًا على استعماله؛ لأنها هي رضيتْه وكانت تتحبَّب به إليه … فلا كان سيبويه وأبو علي وأبو حيان إنْ رضيتْ هي.
٥  رسائل الأحزان.
٦  انظر الفصل الذي عقدناه بعدُ بعنوان «من شئونه الاجتماعية»، فقد أشرنا هنالك إلى بعض وسائله ليستدرجها إلى الرضا به زوجًا، على أنها وقد كانت مسيحية لبنانية الأصل، وهو المسلم السلفي المتحرج، كانت أبعد عنه في عرف الحياة مما يأمل!
٧  هو المرحوم إسماعيل صبري.
٨  كانت مدعوة لتخطب في المهرجان السنوي لجمعية الإحسان السورية في طنطا، فالتقيا على المسرح، ولكن لم يتحدث أحد منهما إلى صاحبه حديثًا إلا أن يكون لحظ الأعين، على أن الرافعي لم يُطِقِ البقاء طويلًا بعد، وخذلتْه أعصابه فآثر الفرار قبل انتهاء الحفل، بل أحسبه آثر الفرار قبل الابتداء!
٩  كذلك نسميها «فلانة» منذ الآن؛ ضنًّا بسرها الذي لم تأذن في نشره.
١٠  مستشفى العصفورية.
١١  جاءه هذا الكتاب قبل موته ببضعة وعشرين يومًا، وأحسبه آخر ما جاء من أنباء صاحبته.
١٢  كتب هذا الفصل في سنة ١٩٣٧، حين كانت فلانة في الشام تستشفي، وقد نشرتْه مجلة «الرسالة» وقتئذٍ، ثم نشر في الطبعة الأولى من هذا الكتاب وكانت لم تزل في الشام تستشفي!
١٣  رسائل الأحزان.
١٤  ما بين القوسين «» من عبارتها في بعض رسائلها، وقد ضمنتُها بعض ما يتداوله القراء من كتبها، ونشرها الرافعي في بعض فصول كتابه «أوراق الورد».
١٥  من الرسالة التي أشرنا إليها في الصفحة السابقة.
١٦  نشرنا هذه الفصول في مجلة «الرسالة» قبل أن نذيعها على القراء في كتاب، وقد تناولها بعض القراء بكثير من الشك وغير قليل من الدهشة، وكتب أدباء في مصر والشام وبغداد يحاولون التشكيك في بعض ما أذعتُ من الحقائق أو يحاولون التعليل لها، وتحدث إليَّ آخرون معقبين أو مستفسرين، فلهؤلاء وأولئك جميعًا كتبت هذا التعقيب.
١٧  أوراق الورد [فصل: في النقد]، تقرأ فقرات منها في هذا الكتاب قد أشرنا فيه إلى موضعها، [فصل: الرافعي العاشق – هي وهو].
١٨  [فصل: الرافعي العاشق – هو وهي] من هذا الكتاب.
١٩  اقرأ: [فصل: الرافعي العاشق – شعر وفلسفة، وحب وكبرياء].
٢٠  انظر [فصل: الرافعي العاشق – هو وهي] من هذا الكتاب.
٢١  كتاب «وحي بغداد» للدكتور زكي مبارك.
٢٢  هذا الفصل في السحاب الأحمر بعنوان «الربيطة» كتبه الرافعي عن صديق من خريجي جامعات أوربا، هو الدكتور حسين الهراوي، وكان في صدر شبابه — كأكثر واردات أوربا — زيفًا في الدين، وزيفًا في الخُلُق، وزيفًا في الرجولة، على أنه الآن من أكثر المسلمين حمية لدينه وحفاظًا على تراث قومه، وله مقالات في الإسلام وفي الرد على جهال المستشرقين تشفع له يوم الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤