قصص الرافعي

أراني وقد بلغت هذا الحد، مسئولًا أن أتحدث عن قصص الرافعي، وكيف كان يؤلفها، وأول ما عالج منها، وطريقته فيها.

لم يعالج الرافعي القصة — فيما أعلم — قبل قصة سعيد بن المسيب إلا مرتين، أما أولاهما ففي سنة ١٩٠٥، وكانت مجلة المقتطف قد سبَّقتْ بين الأدباء جائزة لمن ينشئ أحسن قصة مصرية، فأنشأ الرافعي قصته الأولى وكان عنوانها «الدرس الأول في علبة كبريت» ولم يحصل بها على جائزة، وقد أعاد نشرها بعد ذلك بثلاثين سنة بعنوان «السطر الأخير من القصة»١ وسأتحدث عنها في موضعها.
أما القصة الثانية: فأنشأها في سنة ١٩٢٥ بعنوان «عاصفة القدر» ونشرتها المقتطف أيضًا،٢ ثم كانت قصة سعيد بن المسيب في سنة ١٩٣٤.

على أن ثمة فرقًا بين هذه القصة والقصتين الأوليين؛ ذلك أن هاتين القصتين هو أنشأهما إنشاء، فلم يعتمد فيهما على حادثة في التاريخ أو حديث في كتاب، أما قصة سعيد بن المسيب فلها أصل معتمد في التاريخ فلم يكن له في إنشائها إلا بيان الأديب وفن القاص، وكانت نواةً فمهد لها واستنبتها فنمت وازدهرت.

وفي الأدب القديم نويات كثيرة من مثل هذه النواة لم يتنبَّه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبَّهوا لها لوجدوا معينًا لا ينضب كان حريًّا بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فنًّا جديدًا من غير أن يقطعوا الصلةَ بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي، وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين، لا إلى الاستعارة والاستجداء من أدب الغرب والجري في غبار كُتَّابه وشعرائه.

… أقول: إن الرافعي لم يكن يعرف عن فن القصة شيئًا يحمله على معالجتها ويغريه على العناية بها، وقد قدمتُ القول بأنه كان يسخر ممن يقصر جهده من الأدباء على معالجة القصة ولا يراه أهلًا لأن يكون من أصحاب الامتياز في الأدب؛ إذ لم تكن القصة عنده إلا ضربًا من العبث ولونًا من ألوان الأدب الرخيص لا ينبغي أن تكون هي كل أدب الأديب وفن الكاتب، وقد كان يعيب عليَّ لأول عهدي بالكتابة أنني لا أكاد أكتب في غير القصة، وأنني أجعل بعض همي في دراسة الأدب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أقرأ عن فن القصة وأسلوبها وطرائقها ومذاهب الكُتَّاب فيها، وكان يرى ذلك مني تخلُّفًا وعجزًا ونزولًا بنفسي غير منزلتها بين أهل الأدب!

على أنه إلى ذلك كان يجد لذة في قراءة القصة على أنها لون من ألوان الرياضة العقلية لا باب من الأدب، كما يشاهد رواية في السيما أو يقرأ حادثة في جريدة، وأحسب أنه كان يعتقد — على أنه كان لا يعرف التواضع في الأدب — بأنه لا يحسن أن ينشئ قصة ولا ينبغي له، وأحسبه أيضًا حين أنشأ قصة سعيدٍ بن المسيب لم يكن يقصد إلى أن تكون قصة، ولكنها هكذا جاءت على غير إرادته فكأنما اكتشف بها نفسه …

والحقيقة أن الرافعي كان يملك طبيعة فنية خصبة في القصة، يعرفها من يعرفه في أحاديثه الخاصة بينه وبين أصحابه حين كان يعتمد العبث والتسلية، فيطوي من الحديث وينشر، ويكتم ويوري، ويورد الخبر غير مورده، ويهزل ولا يقول إلا الجد، ويطوي النادرة إلى آخر الحديث، ويقول في آخر المقال ما كان ينبغي أن يكون في أوله.

وكان له إلى ذلك تعبير رشيق وفكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع، وإن له في هذه الفكاهة لمذاهب عقلية بديعة تحس فيها روحه الشاعرة وحكمته المتزنة وسخريته اللاذعة، ويكاد كثير من مقالاته يكون برهانًا على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة.

… وهذه هي كل أدوات القاص الموفق، فما ينقصه إلا أن يدرس فن القصة ومذاهبها ليكون فيها من السابقين المبرزين، ولكن الرافعي كان يجهل طبيعة نفسه، وكان له في كُتَّاب القصة ما قدمت من الرأي، فكان تخلُّفه من هذين!

وحتى فيما أنشأ من القصص بعد ذلك، لم يكن له مذهب فني خاص يحتذيه ويسير على نهجه، ولكنه كان يقص كما تلهمه فطرته غير ملقٍ باله إلى ما رسم أهل الفن من حدود القصة وقواعدها، فإننا بذلك لنستطيع أن ندرس طبيعته وطريقته القصصية خالصةً له وحده، غير متأثر فيها بمذهب من مذاهب المتقدمين أو المتأخرين من كُتَّاب القصص، على ما قد يكون فيها من نقص وتخلُّف، أو ابتكار وتجديد.

وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القُصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالات في أسلوب جديد، فهو لا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي ثم تأتي الحادثة من بعد، فكان إذا همَّ أن ينشئ قصة من القصص، جعل همه الأول أن يفكر في الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ — على طريقته في إنشاء المقالات — فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، كان بذلك قد انتهى إلى موضوعه فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء، وسواء عليه بعد ذلك أن يؤدي موضوعه على طريقة المقالة أو على طريقة القصة، فكلاهما ينتهيان به إلى هدف واحد، فإذا اختار أن تكون قصة تناول كتابًا من كتب التراجم الكثيرة بين يديه فيقرأ منها ما يتفق، حتى يعثر باسم من أعلام التاريخ، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه، ومجالسه، ثم يصطنع من ذلك قصة صغيرة يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعدَّه من قبل، وإنه ليُلهَم أحيانًا ويوفق في ذلك توفيقًا عجيبًا، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ، وما للتاريخ فيها إلا نادرة يرويها في سطور، أو إلا أسماء الرجال …

على أن البديع في ذلك هو قدرة الرافعي — يرحمه الله — على أن يعيش بخياله في كل عصر من عصور التاريخ، فيحس إحساسه، ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك كثير ممن يقرأ قصة من قصص الرافعي في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء.

وأحسب أن الرافعي لم يتخذ هذه الطريقة في تأليف القصص عن عمد واختيار، فلم يكن ثمة ما يدفعه إلى معالجة القصة واختيار طريقة فيها — ورأيه في القصة رأيه — ولكنه مذهب اتفق له اتفاقًا بلا قصد ولا معاناة، وإنما تأتَّى له ذلك من طريقته التي أشرتُ إليها في الحديث عنه عند ما يهم بالكتابة، فقد أسلفت القول أنه كان يحرص على أن يعيش وقتًا ما قبل الكتابة في جو عربي، فيتناول كتابًا من كتب الأدب القديم يقرأ منه فصلًا ما قبل أن يشرع في إملاء مقاله، فمن هنا كان أول الطريق إلى مذهبه في القصة، ولكل شيء سبب، وأحسبه لما همَّ أن يكتب عن «المعجزة المالية» في تقاليد الزوج وعن فلسفة المهر، وقد اجتمعتْ له الفكرة في ذلك، تناول — كعادته — كتابًا من كتب العربية يقرأ فيه ما تيسر، فاتفق له في مطالعته أن يقرأ قصة سعيد بن المسيب والوليد بن عبد الملك وأبي وداعة، فرآها أشبه بموضوعه وفيها تمامه، فبدا له أن يؤدي موضوعه هذا الأداء فكانت قصة، وأذكر أنه لما دعاني ليملي عليَّ هذه القصة قال لي في لهجة الظافر: «… لقد وقعت على نادرة مدهشة من التاريخ تتحدث عن فلسفة المهر حديثًا لا أعرف أبلغ منه في موضوعه …»

فمن ذلك أعتقد أن أول هذا المذهب في القصة كان اتفاقًا غير مقصود صادف طبيعة خصبة ونفسًا شاعرة فكان فنًّا جديدًا.

وأكثر قصص الرافعي من بعدُ على هذا المذهب، على أن لكل قصة من هذه القصص — أو لأكثرها — أصلًا يستند إليه من رواية في التاريخ أو خبر مهمل في زاوية لا يتنبه له إلا من كان له مثل طبيعة الرافعي الفنية وإحساسه ويقظته، على أن أهمَّ ما أعانه على ذلك هو عندي صلتُه الروحية بهذا الماضي، وشعوره بالحياة فيه كأنه من أهله ومن ناسه، فإن له بجانب كل حادثة وكل خبر من أخبار ذلك الماضي قلبًا ينبض كأن له فيه ذكرى حيةً من ذكرياته تصل بين ماضيه وحاضره، فما يقرؤه تاريخًا كان وانطوت أيامه، ولكنه يقرأ صفحة من ماضيه ما يزال يحس فيها إحساس الحيِّ بين أهله، فما أهون عليه بعدُ أن يترجمها من لغة التاريخ إلى لغة الأحياء!

وقد كنت على أن أردَّ كل قصة من قصص الرافعي إلى أصلها من التاريخ وأنسبها إلى راويها الأول؛ ليكون النموذج واضحًا لمن يريد أن يحتذي الرافعي ليتمم ما بدأ على مذهبه في تجديد الأدب العربي، ولكني وجدت ذلك أشبه بأن يكون فصلًا من الأدب، ليس موضعه في هذا الكتاب.

١  الرسالة: العدد ٧٨ سنة ١٩٣٤.
٢  المقتطف: ديسمبر سنة ١٩٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤