نقلة اجتماعية

لم يكن بين الرافعي وقرائه صلة ما قبل أن يبدأ عمله في الرسالة، ولم تكن أصوات القراء تصل إليه من قريب أو من بعيد، إلا طائفة تربطه بهم صلات خاصة كان يكتب إليهم ويكتبون إليه، فلما اتصلت أسبابه بالرسالة، أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة، حتى بلغ ما يصل إليه منها في اليوم ثلاثين رسالة أو تزيد، وأستطيع أن أقول غير مبالِغٍ: إن الرافعي قد عرف من هذه الرسائل عالَمًا لم يكن له به عهد، وانتقل بها نقلة اجتماعية كان لها أثر بليغ في حياته وتفكيره وأدبه، وإذا كان مؤرخو الأدب قد اصطلحوا على وجوب دراسة البيئة التي يعيش فيها الأديب والتطورات الاجتماعية التي أثرتْ فيه، فإن مما لا شك فيه أن الحقبة التي كان الرافعي يكتب فيها للرسالة كانتْ تطوُّرًا جديدًا في حياته الاجتماعية نقله إلى عالَم فيه جديد من الصور وألوان من الفنِّ تبعث على التأمل وتوقظ الفكر وتجدد الحياة، وقد عاش الرافعي حياته بعيدًا عن الناس لا يعرف عنهم ولا يعرفون عنه إلا ما ينشر عليهم من رسائله ومؤلفاته، فكان منهم كالذي يتكلم في المذياع، يسمعون عنه ولا يسمع منهم، وليس له ما يستمد منه الوحي والإلهام إلا ما تجيش به نفسه ويختلج في وجدانه، غير متأثر في عواطفه الإنسانية بمؤثر خارج عن هذه الدائرة المغلقة عليه.

وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علته سبب يباعد بينه وبينهم، فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويُحصِّل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم …

ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفتْه طائفة لم تكن تعرفه، وتذوَّق أدبه مَن لم يكن يسيغه، وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئًا يعبر عن شيء في نفوسهم، فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فانفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطَّلع على خفِيَّات من شئون الناس كان له منها علم جديد … فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران، لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فانتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة …

هي نقلة اجتماعية لا سبيل إلى إنكار أثرها في الرافعي وأدبه، وإن لم يُفارق بيئته ومنزله وأهله.

والآن وقد وصلتُ إلى جِلاء هذا المعنى كما شاهدتُه وعاينتُ أثره، فإني أتحدث عن ضرب من هذه الرسائل التي كانت ترد إلى الرافعي من قرائه، ليعرف الباحث إلى أي حد تأثر الرافعي بها، وأي المعاني ألهمتْه وقدحتْ زناد فكره، وإذا كانت بعض «الظروف الخاصة» قد حالتْ بيني وبين الاطلاع على كل هذه الرسائل التي خلَّفها لتتم لي بها دراسة التاريخ، فحسبي ما أقرأني الرافعي منها في أيام صحبته وما اطلعتُ عليه بنفسي من بعد …

•••

نستطيع أن نرد الرسائل التي كانت ترد على الرافعي إلى أنواع ثلاثة:
  • (١)

    رسائل الإعجاب والثناء.

  • (٢)

    رسائل النقد والملاحظة.

  • (٣)

    رسائل الاقتراح والاستفتاء والشكوى.

أما النوعان الأولان فليس يعنينا منهما شيء كثير، وحسبي الإشارة إليهما، على أنه ليس يفوتني هنا أن أشير إلى أن أكثر ما ورد إلى الرافعي من رسائل الإعجاب كان عن مقالاته في الزواج، وكان أكثر هذه الرسائل من الشبان والفتيات، وقلما كانت تخلو رسالة من هؤلاء وأولئك، من شكوى صاحبها أو صاحبتها وتفصيل حاله، وأطرف هذه الوسائل هي رسالة من آنسة أديبة كتبتْ إلى الرافعي تسأله أن يكتب رسالة خاصة إلى أبيها — وقد سمَّتْه في رسالتها — يعيب عليه أن يعضل ابنته ويرد الخُطَّاب عن بابه حرصًا على التقاليد …

… ثم رسالة من «مأذون شرعي» يحصي فيها للرافعي بعض ما مرَّ عليه من أسباب الطلاق في الأسر المصرية، ويردها كلها إلى سوء فهم الناس لمعنى الزواج وحرصهم على تقاليد بالية ليست من الدين ولا من المدنية، وفي هذه «الإحصائية» الطريفة قصص خليقة بأن تُنشر لو وجدتْ من يحكيها على أسلوب فني يُكسبها معنى القصة.

وأعجب ما قرأت من رسائل النوع الثاني، رسالة جاءتْه بعقب نشره مقالة «الأجنبية» عليها خاتم بريد «شطانوف»، فلما فضَّ غلافها لم يجد فيها إلا صفحات ممزقة من عدد «الرسالة» الذي نُشرت فيه القصة ومعها ورقة فيها هذه الأسطر:

سيدي الأستاذ

إن كان لا بد من ردٍّ فهذا هو خير رد، وإن كان لا بد من كلمة فكلمتنا إليك هي تلك الكلمة التي ختمت بها هذا الكلام المردود إليك.

مصري
ومن النوع الثالث من هذه الرسائل، كان استمداد الرافعي ووحيه ودنياه الجديدة، وإلى القراء نماذج مختلفة من هذه الرسائل:
  • (١)
    هذه رسالة فتًى في العشرين، يكتب إلى الرافعي من الإسكندرية، يقول:

    أستاذي الكبير

    ليس لي الآن إلا ربي وأنت يا أستاذي، وإن من حقك عليَّ أن أسألك حقي عليك، وقد هداني الله إليك … قرأتُ وتدارستُ ما كتبتَه عن الانتحار، فماذا تقول في امرئ عَلِم عمَّن الجنة تحت أقدامها أنها فسقتْ وزلَّتْ، فهو يتحيَّن الفرصة ليقتلها، إني أبكي يا أستاذي إذ أعيد هذا القول، أبكي دمًا، لي إخوة وأنا أكبرهم، ولا أخاف إلا أن لي أختًا، وأبي — غفر الله له — ليس له ما يكون للرجل من معاني الرجولة ليضمن ألَّا يكون في بيته شيء مما قد كان …

    الشك يُساورني منذ أكثر من عامين، واليوم فار التنور؛ إذ سمعتُ أنها حُبْلَى، ووقع في يدي ما ملأني يقينًا بتصديق إثمها، ولقد هممتُ أن أفعل ما لا يُفعل، وأنا أخشى ألا يتداركني حكمك … ماذا تقول يا أستاذي؟ أنا الصابر أبدًا كاد الصبر يتلاشى من نفسي، أنا المطمئن أبدًا كاد أمري يضيع من يدي، أنا كالمجنون لا يُبقيني شبه عاقل إلا أنت، فماذا تقول يا أستاذي وبماذا تحكم؟ يكتبها الله لك فتداركني برأيك …

    ولك مني شكر مَن يسأل الله ويسعى إلى أن يكون بنفسه وحياته من حسنات تربيتك، وأن يكون في اليوم الآخر كلمة من سطر من كتابك القيِّم …

    ومعذرة لي من لدنك إن أغفلتُ الآن اسمي.

    في ١٤ / ٥ / ١٩٣٥
  • (٢)
    وهذه معلمة في إحدى مدارس الحكومة، حامتْ حولها ريبة فوقفتْها وزارة المعارف حتى تحقق أمرها، فكتبتْ إلى الرافعي تسأله أن يعينها بجاهه حتى تعود إلى عملها الذي تعول منه أبويها، فيشفق عليها الرافعي ويسعى سعيه لبراءتها … وعادتْ إلى عملها، وحفظتِ الجميل للرافعي، فكانت تكتب إليه كل أسبوع رسالة تبثُّه خواطرها وتصف له من أحوالها وما تعمل؛ وتكثر رسائلها إلى الرافعي حتى يزول الحجاب بينهما، فتُصرح له بما لا تُصرح فتاة، ويئول أمرها في النهاية أن تكتب إلى الرافعي بأنها عاشقة … وأن معشوقها الصغير — التلميذ في إحدى المدارس الصناعية بالقاهرة — لا يعلم ما تكنُّ له! هي تلقاه وتماشيه، وتخلو به خلوات «بريئة»! ولكنها لم تكشف له عن ذات نفسها، وتأكلها النار في صمت …! وتقول في رسالتها إلى الرافعي:

    … فدبرني يا سيدي في أمري، قلبي يحس أنه يحبني، لقد قالتْها لي عيناه، ولكنه لم يتحدث إليَّ، ولستُ أجد في نفسي القدرة على التصريح له …

    وتتوالى رسائلها إلى الرافعي تصف له ما تلاقي من الوجد بحبيبها الذي تكبره بسنوات، ويقرأ الرافعي رسائلها فيبتسم، ويتناول قلمه الأزرق فيثوِّر فيها علامات يشير بها إلى مواضع وفِقَر تلهمه معاني جديد وفكرًا جديدًا، ويشتط الحب بالمعلمة العاشقة حتى تنظم الشعر، فتبعث إلى الرافعي بقصائدها ليرى رأيه فيها …

    بين يديَّ الساعة آخر رسالة من رسائلها إلى الرافعي. بعثت بها إليه قبل منعاه بقليل، ليت شعري! كيف انتهت قصة هذا الحب؟

  • (٣)
    وهذه رسالة من «حلب» يدهش كاتبها أن يرى صورة «الشيخ» مصطفى صادق الرافعي مطربشًا حليق اللحية أنيق الثياب، فيكتب إليه:

    … لقد رأيتُ رسمك يا مولاي فتأملتُه … فوجدتُه من أناقة الجلباب ومظهر الشباب على حظ، فهل لك يا مولاي في مجاراة المدنية ومماشاة الحضارة رأيٌ دعاك إلى هذا المظهر الأنيق …؟

  • (٤)
    وتلك رسالة من «دمشق» وقَع كاتبها في هوى مغنية مشهورة، يحسن بها الظن إحسانًا يمثلها لعينيه مَلَكًا أنثى! لا يترك مجلسًا من مجالس غنائها، ولا يُفكر في خلوته إلا فيها … ثم يأتيه النبأ أنها قد سُمِّيتْ على رجل من ذوي اليسار والنعمة، وأنها موشكة أن تصير له زوجة، فيطير به هذا النبأ ويؤلمه أيَّما إيلام، فيكتب إلى الرافعي يقول:

    … إن خطيبها على غناه رجل فاسد الخلق، متقلب القلب، دنس الذيل، وأنا على يقين أنها ستشقى به وقد خفيتْ عنها حقيقته، وأنا أحبها وأشفق عليها وأتمنى لها السعادة …

    هل يجب عليَّ أن أقف وقفة المحذِّر بإقناعها بالعدول عن هذا الزواج الذي لا أتوقع له إلا نهاية واحدة قريبة، أو ألزم الصمت وأدع الأمور تجري في مجاريها وأقطع علائقي معها فأردَّ لها صُوَرها ورسائلها احترامًا لهذا الزواح من الناحية الشرعية وأدفن ذلك الحب لها في ركن من أركان قلبي؟

  • (٥)

    وذلك طالب في الجامعة، له دِين وخُلق ومروءة، بلغ مبلغ الرجال، وفار دم الشباب في عروقه، فتسلطتْ عليه غرائزُه، تُغالِبه شهواته فلا يكاد يغلبها، ولا يجد له سلطانًا على نفسه أو وسيلة لقمع شهواته إلا أن يحبس نفسه أيامًا في غرفته الموحشة، ومع ذلك لا تزال «المرأة» تتخايل له بزينتها في خلوته وفي جماعته، فليس له فكر إلا في المرأة، وإنه ليخشى الله، وما به قدرة على الزواج، ولقد جرب الصوم فما أجدى عليه، وقد أوشك أن يفقد نفسه بين شهوات تتجاذبه ودين يأبى عليه … فماذا يفعل؟

  • (٦)

    وهذه فتاة متعلمة، تعيش بين أبيها وزوج أبيها في همٍّ لا يُطاق، كل سلوتها في حياتها أن تقرأ، وهي لا تُحسن عملًا ولا تجد لذَّة في عمل غير القراءة، ولكنها تنكر موضعها بين أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينتها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعاتها عبث ولهو وسوء خُلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة! وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة، ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقِذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعدُ، ولو أنه طرق بابها لأشاحتْ عنه معرضة في وَجَل؛ لأنها تسيء الظن بكل الرجال، فماذا تفعل؟

  • (٧)

    وهذا فتًى مثالي يُحسن الظن بالأيام، ولكن الأيام تخلفه موعده، أحب فتاة من أهله وأحبتْه وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوَّجوها من غيره، والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكنه وجدها غُلًّا في عنقه وكمامة على فمه، وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدرًا بوفاء، وكلما غرس زهرة هبَّتْ عليها أعاصير الحياة فاقتلعتْها وألقتْها في مواطئ النعال وبرِم بالحياة وضاقتْ به الدنيا وما يزال في باكر الشباب … فماذا يصنع؟

  • (٨)

    وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين، يخاف الله ويخشى عذابه، أحب فتاة من جيرته حبًّا «عُذريًّا» وأحبتْه، وبرَّح بهما الحب حتى ما يطيقان أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيتْه ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة! ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما … ووقعتِ الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له …

    … ولما فاءتْ إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي! وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقًا في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تُطِق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث، ولم تطق أن تراه بعد، وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتتْ محترقة …

    وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعًا سبب موتها … ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته، ومضتْ سنتان منذ وقعتِ الفاجعة، ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته:

    … إنني أنا الذي قتلتُها، إن دمها على رأسي، لقد ماتت ولم يعلم بسرها أحد غيري وهذا أشد ما يؤلمني، ولقد احتملتُ بصبر وثبات كل ما نالني في هاتين السنتين من تأنيب الضمير وعذاب القلب، ولكني اليوم أحس بأن صبري قد انتهى ولم يبقَ لي قوة على الاحتمال أكثر مما احتملتُ … فماذا أفعل …؟

    ألوان وصور، ملائكة وشياطين، نفوس تتعذب، قلوب تحترق، أنات وابتسامات، دنيا لم يكن للرافعي بها عهد، ولم تكن تخطر له على بال.

وثمة لون آخر من الرسائل: … المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم … شاب له خلق ودين، وفيه اعتزاز بالعربية والإسلام، فهو من ذلك يحب الرافعي وينتصر له، ويتتبع بشوق وشغف كل ما ينشر من كتب ومقالات، ولكنه مع ذلك يحب العقاد وينتصر له، ويراه صاحب مذهب في الشعر ورأي في الأدب جديرًا بأن يتأثر خطاه ويسير على نهجه، وليس عجيبًا — فيما أظن — أن يجتمع الرأي لأديب من الأدباء على محبة الرافعي والعقاد في وقت معًا، كما أنه ليس عجيبًا أن يتعادى الرافعي والعقاد أو يتصافيا ما دام لكل منهما في الأدب طريق ومذهب، ولن يمنع ما بينهما من الخلاف، أو من الوفاق، أن يكون لكل منهما قراؤه المعجبون به، أو يكون لهما قراء مشتركون يعجبون بما ينشئ كل منهما في فنون الأدب، وإنما العجيب أن يبلغ إعجاب القارئ بالكاتب الذي يؤثره درجة التعصب، فلا يعتبر سواه ولا يعترف لغيره بأن يكون له مكان بين أهل الأدب.

على أن شأن صاحبنا المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم مع الرافعي والعقاد يبعث على أشد العجب وأبلغ الدهشة … إنه يحب الرافعي ويؤثره، ويعجب به إعجابًا يبلغ درجة التعصب، وإنه يحب العقاد كذلك، ويعجب به، ويتعصب له … لكل منهما في نفسه مكان لا يتسع إلا له، ولا يزاحمه فيه خصمه، ولكنهما يحبهما معًا، ويتعصب لهما معًا!

رأيان يتواثبان، وشخصيتان تتناحران، وإسراف في التعصب لكل منهما على صاحبه، فأين يجد نفسه بين صاحبيه اللذين يؤثر كلًّا منهما بالحب والإعجاب والأستاذية؟

صورة طريفة وقعتُ عليها فيما وقعتُ بين رسائل الرافعي!

وهذه رسالة منه إلى الرافعي يقول فيها:١

سيدي، إنني أحبك، وأعجب بك، وأتعصب لك، ولكن موقفك من العقاد يا سيدي! … ليت شعري! لماذا تتخاصمان؟ … لقد كنتَ على حق … ولكن العقاد على حق! … هل تأذن لي أن أكون رسول السلام بينكما؟

ثم لا تمضي أيام حتى يعود فيكتب إلى الرافعي رسالته الثانية: «معذرة، إنك لتتجنى على العقاد تجنيًا ظالمًا، فما لك وجه من الحق في عدائه والحملة عليه، لقد عقمتِ العربية فلم تنجب غير العقاد … وإنك أنت … إنك كبير في نفسي، كبير جدًّا، وإني لأقلِّب تاريخ العربية بين يديَّ فلا أجد غير الرافعي … أنت … والعقاد … أين ترى يكون اللقاء؟»

وعلى هذا المثال قرأتُ لصاحبنا المحامي الشاعر بضع رسائل بين ما خلف الرافعي من أوراق تملأ النفس عجبًا ودهشة، وآخر ما وصل إلى الرافعي من رسائله، رسالتان؛ كتب إحداهما في المساء، وكتب الثانية في صباح اليوم التالي، ولولا خط الكاتب، ونوع الورق، وخاتم البريد، لما حسبتُهما إلا رسالتين من شخصين لو أنهما التقيا في الطريق لتضاربا بالأكفِّ …!

على أن الرافعي مع ذلك كان يرد على رسائله! وددت لو ينشر صاحبنا بعض رسائل الرافعي إليه!٢

•••

والآنسة الأديبة «ف. ز.» معلمة في إحدى مدارس الحكومة، كان أبوها زميلًا للرافعي في محكمة طنطا، وكان بينهما صلة من الود، فلما مات لم تنسَ ابنته صديقَ أبيها، فكانت تستعينه في بعض شئونها، ومن ثمة نشأتْ بينهما مودة، فكانت تراسله ويراسلها، ومن رسائلها إليه كان له علم جديد في شئون وشئون.

صحبتُه إلى زيارتها مرة في ليلة من ليالي الشتاء مع الصديقين كامل حبيب وسعيد الرافعي، فلقيناها مع بعض صديقاتها، وكانت جلسة طالتْ ساعات، أعتقد أن الرافعي قد أفاد منها بعض معانيه في قصة «القلب المسكين!»

•••

… وقد أنشأتْ هذه الرسائل بين بعض قرائه وبينه صلات عجيبة من الود، فهو منهم أب وصديق ومعلم ومشير، وجلس على «كرسي الاعتراف» فترة غير قصيرة من حياته تفتحت فيها عيناه على كثير من حقائق الحياة لا يبلغ أن يصل إليها مَن رحل وطوَّف، وكان له في كل دار أُذن وعلى كل باب رقيب عتيد! ولست بمستطيع أن أفسر سر هذه الثقة العجيبة التي ظفر بها الرافعي من قرائه، ولكني أستطيع أن أجزم بأنه كان أهلًا لهذه الثقة، فما أعرف أنه باح بسرِّ أحد فسماه أو عرَّف به، وما أطلع على رسائل قرائه أحدًا غيري، إلا قليلًا من الرسائل كان لا يرى بأسًا من إطلاع نفر قليل من أصحابه عليها لغرض مما يستجرُّه إليه بعض الحديث في موضوعها، بل إن كثيرًا من هذه الرسائل قد أخفاه عني — وما كان بيني وبينه حجاب أو سرٌّ — فما عرفت خبرها إلا بعد موته، ويستطيع أصحاب هذه الرسائل أن يطمئنوا إليَّ، فستظل أسرارهم — في يدي — مصونة عن عيون الفضوليين، فلن أتناول الحديث عنها إلا من حيث يدعوني الواجب لجلاء بعض الحقائق في هذا التاريخ.

وكان له مراسلون دائمون … يجدون الكتابة إليه جزءًا من نظام حياتهم، فلا تنقطع رسائلهم عنه، ولا يخفى عليه شيء من تطورات حياتهم، وقد أكسبهم طول العهد بالكتابة إليه شيئًا من الأنس به والاطمئنان إليه كما يطمئنون إلى صديق عرفوه وجرَّبوه وعايشوه طائفةً من حياتهم، وإن القارئ ليلمح في هذا النوع من الرسائل الدورية التي كان يبعث بها إليه هؤلاء الأصدقاء الغرباء، مقدار ما أثَّر الرافعي في حياتهم منذ بدأتْ صلتهم به، فتطورتْ بهم الحياة تطورات عجيبة، وأدَّى الرافعي إليهم دَينه وأثر فيهم بمقدار ما كان لهم من الأثر في أدبه وفي حياته الاجتماعية، وإني لأضرب مثلًا لواحدة من هؤلاء الأصدقاء.

هي فتاة من أسرة كريمة في دمشق، نشأتْ في بيت عزٍّ وغنًى وجاه، وهي كبرى ثلاثٍ نشأن نشأة يفاخرن بها الأتراب، ثم تقلبتْ بهن الحياة فإذا هنَّ بعد الغنى والجاه ناسٌ من الناس، واضطرتِ الكبرى أن تخرج إلى الميدان عاملة ناصبة لتعول أسرتها، وكان لها من ثقافتها وتربيتها مُعينٌ ساعدها دون أختيها في ميدان الجهاد، وعلى أنها كانت أجملَ الثلاث وأَوْلاهنَّ بالاسقرار في بيت الزوج الكريم، فقد سبقتْها أختاها إلى الرفاء والبنين والبنات وظلَّتْ هي … وما كان ذلك لعيب فيها، ولكنه سرٌّ لم يلبث أن انكشف لعينيها، لقد كانتْ هي وحدها — من دون أختيها — التي تستطيع أن تعول أسرتها لأنها عاملة … وتألمتْ حين عرفت السرَّ، ولكنها كتمت آلامها وظلت «صابرة»، ومضت الأيام متتابعة والأماني تخلف موعدها، وتحركت فيها غريزة الأمومة، ولكنها قمعتها بإرادة وعنف، ومضت تصارع الطبيعة وتتحدى القدر بعزيمة لا تلين، ولكنها لم تلبث أن أحسَّت بوادر الهزيمة بعد طول الكفاح، فشرعت قلمها وكتبت رسالتها الأولى إلى الرافعي بإمضاء «الصابرة».

وقرأ الرافعي رسالتها، ثم قص عليَّ خبرها وتندَّت عيناه بالدمع وهو يقول: يا لها من فتاة باسلة!

وأجابها على رسالتها بتذييل صغير في حاشية إحدى مقالاته في الرسالة … وعادت تكتب وعاد يجيبها، وتوالتْ رسائلها ورسائله وقد كتم اسمها وعنوانها عن كل أحد، وكانت كتبتْه إليه في ورقة منفصلة في إحدى رسائلها ليمزقه وحده إن عناه أن يحتفظ برسائلها، وكان الرافعي لها كما أرادت، أبًا وصديقًا ومرشدًا ومشيرًا، ولم يأبَ عليها في بعض رسائله أن يتبسط في الحديث إليها عن قصة «القلب المسكين» لعلها تجد فيما يكتب إليها من شئونه عزاء وتسلية … وتعزَّت المسكينة عن شيء بشيء، وثاب إليها الاطمئنان والشعور بالرضا، وبدا في رسائلها لون جديد لم يكن في رسالتها الأولى، وأخذت تكتب إليه عن كل شيء تحس به أو تراه حولها، وتستشيره فيما جلَّ وما هان من شئونها، في سفرها، وفي إقامتها، وفي رياضتها، وفي عملها، وفي يقظتها، وفي أحلامها … في كل شيء كانت تكتب إليه، سائلة ومجيبة، ومخبرة ومستشيرة، حتى في صِلاتها مع صديقاتها وأصدقائها، وفي الخُطَّاب الذين يطرقون بابها يطلبون يدها … ولم يكن يضن عليها بشيء من الرأي أو المشورة …

وكان للصابرة جزاء ما صبرت، وتحققتْ أمانيها على أكمل ما تتحقق أماني فتاة، وجاءها العروس الذي لم تكن أحلامها تتطاول إليه في منامها، وبرق في إصبعها خاتم الخطبة، فانبهرتْ منه عيون! … لا أريد أن أذكر من صفات خطيبها حتى لا أُعرِّف بها وبه، فليس من حقي أن أكشف ما تريد هي أن يظلَّ مستورًا، لو قلت: إن خطيبها وزيرٌ من وزراء ذلك البلد لما بعدْتُ!

واستمرت تكتب للرافعي والرافعي يجيبها … حتى رسائل خطيبها إليها كانت تبعث بها إلى الرافعي ليشير عليها كيف تجيب، وحتى برنامجها قبل الزفاف وبعده كان بمشورة الرافعي ورأيه …

وجاءتْه آخر رسالة منها مؤرخة في ٣ / ٤ / ١٩٣٧ — نعي الرافعي في ١٠  / ٥ / ١٩٣٧ — تقول فيها:

الصديق الكريم …

ما أحلى دعوتَك يا صديقي وما كان أشدها تأثيرًا على نفسي! لقد شعرت وأنا أقرؤها بسرور عميق، وتركز في ذهني أن هذه الدعوة مقبولة … ما أسعدني إذا صرت في المستقبل أمًّا!

أعتقد أنك تعرف تمامًا أن حنيني للزواج فيما مضى، وتمردي وثورتي على هذه الحياة، لم تكن إلا لأني رأيته وسيلة للحصول على الطفل، فقد تنبهتْ فيَّ غزيرة الأمومة بشكل هائل، تصور يا أستاذي … صرت أكره الأطفال؛ لأني ليس لي بينهم ولد، وكنت إذ أرى أُمًّا تعانق طفلها وتضمه إلى صدرها أحس بألم مرير يحز بقلبي ويكاد يقطعه، وكثيرًا ما كنت أتشاغل وأشيح بوجهي حتى لا تقع عيني على هذا المنظر، لست حسودة والله، ولكن شدة إحساسي كانت تجعلني بهذا الوضع … أما الآن فأنا مسرورة لأقصى حدود السرور، وأتمنى لو أنثر الخير والسعادة على الجميع …

… والله يعلم أن ليس لي أي غاية مادية من وراء هذا الزواج، وليس قصدي منه إلا الحماية والستر؛ لأني مللت ومرض قلبي من فضول الناس …

وكانت على نية زيارة مصر لتزور الرافعي مع زوجها؛ اعترافًا بحقه عليها، ولكن القدر لم يمهله حتى يحين الموعد، وحان أجله ولم ينظر بعينيه الفتاة التي تبَنَّاها على بُعد الدار وشغلتْه أحزانُها زمانًا، فلما ابتسم لها القدر وتحققت أحلامها، ناداه أجله قبل أن يشاركها في ابتسامة الفرح وتهاني المسرة …!

تقول له في رسالتها المؤرخة ١٥ / ١ / ١٩٣٧:

الصديق الكريم …

… ولماذا أخشى هذه المقابلة يا أستاذ؟ وهل أنت مخيف لهذه الدرجة …! على كل حال إذا وجدت ما يرعبني فسأختبئ وراء «فلان»٣ ولا بد أنه يحسن الدفاع عني. لا، لا، سألبس درعًا متينة تقيني «شرَّ» هذه المغناطيسية القوية، ولكني أخاف يا أستاذي أن يكون الحديد أكثر انجذابًا، وأكون حينئذٍ أسأتُ من حيث أردتُ الإحسان … صحيح أنني معجبة، ولا أزال، وسأبقى دائمًا، ولكن ألا ترى أن الإعجاب و… قد يتفقان أحيانًا وقد يختلفان؟ ثم أليس ﻟ … معاني كثيرة وأساليب عديدة …؟

تريد رأيي في صاحب القلب المسكين؟ أنت تعرفه جيدًا، فلماذا تريد إحراجي …؟

الجمال ليس مدار بحثنا، وليس له أهمية قلَّ أو كثر، ومع ذلك فصاحب القلب المسكين يتمتع بقسط وافر منه، اسمع، سأُبدي رأيي. لا، لا، ما بدِّي أقول، أستحي …!»

وكانتْ تعرف من أمره مع «فلانة» ما قصَّ عليها في رسائله، وفي رسائلها حديث كثير عنها، وقد زارتْها مرة عن أمره لتنبئه بخبرها …

وأعتقد أن في رسائله إليها ما يكشف بعض الغموض في قصة الرافعي و«فلانة» ويكون فيه برهان إلى براهين لدينا، فحبذا أن تتفضل السيدة الكريمة بالنزول عن حقها في هذه الرسائل فتهديها إلينا لتتم لنا بهذه الحلقة المفقودة سلسلة التاريخ!

إنها أديبة وعالمة، وإنها بذلك لتعرف حق التاريخ وحق الأدب عليها في هذه الرسائل، ولها علينا ما تشترط فنُوفيه، فلعل صوتي أن يبلغ إليها في مأمنها، ضمن الله لها سعادتها وحقق لها ما بقي!

هذه قصة فتاة يجد القارئ بين أولها وآخرها أشتاتًا من تاريخ الرافعي، وفيها مثال يبين معنى ما سميته «النقلة الاجتماعية» في حياة الرافعي بما كان بينه وبين قرائه من صلة الرسائل، على أن هذه القصة بخصوصها كان لها من عناية الرافعي حظ أيُّ حظ، وقد كان على أن يكتب — بما اجتمع له من فصول هذه القصة — مقالة بعنوان «الصابرة» جمع لها فيما جمع من نثار الأفكار قدرًا غير قليل، وما أخَّره عن كتابتها — إلى أن وافاه الأجل — إلا انتظارُ الخاتمة فيما أظن، وإلا شدة احتفاله بهذا الموضوع، وهكذا نجد شدة احتفال الرافعي بموضوع ما تكون سببًا في تعويقه عن كتابته أو عن تمامه.

كان يحتفل بكتابه «أسرار الإعجاز» فلم يتم، وبمقالتي «الزبال الفيلسوف» و«الصابرة» فلم يكتبهما، ولكن التاريخ لم ينسَ له.

١  ليست الرسائل تحت يدي في اللحظة التي أكتب فيها هذا الفصل، ولكن ما أحكيه بعد هو ترجمتُها في نفسي كما قرأتُها منذ قريب.
٢  لما نشر هذا الفصل في مجلة الرسالة، بعث إليَّ المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم برسالة، فيها عتب وفيها أدب، وفيها إلى هذين حديث لا أدري أيقصد به أن يثبت هذه الرواية أو ينفيها، ثم يُمنِّيني بنشر رسائل الرافعي إليه، على شرط أن تنشر إلى جانبها رسائله، ولقد كان يسرني أن أعرف بماذا رد الرافعي، ولكن الوفاء بشرطه ليس لي به سلطان، وإنه ليستطيع أن ينشر ما يشاء حيث يشاء!
٣  خطيبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤