نسبه ومولده

الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن، فأسرته من «طرابلس الشام»، يعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه، ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجدُّه والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن، وهو في وطنيته «مسلم»، لا يعرف له أرضًا من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: وطني؛ فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم، فأنت لم تكن تسمعه يقول: «الوطنية المصرية …» أو «الوطنية السورية …» أو «الوطنية العراقية …» إلا كما تسمع أحدًا يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتًا من البلاد والمدائن، وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم: هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية، وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، ينتظمها جميعًا كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديدًا من البلاد.

وكثيرًا ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر،١ فما يجدون مغمزًا ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته، وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظًا حينًا وساخرًا حينًا آخر، ثم يقول: أفتُراهم يتهمونني في مصريتي؛ لأني في زعمهم غير مصري، وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدِّي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟ … وإلا فمَن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مَقدَمُه؟ ومتى استوطن هذا الوطن …؟

ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة ١٢٣٠ﻫ بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين — رضي الله عنه — في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين.

وأول وافدٍ إلى مصر من هذه الأسرة هو المرحوم الشيخ محمد الطاهر الرافعي، قدمها في سنة ١٢٤٣ﻫ (قريب من سنة ١٨٢٧م)؛ ليتولى قضاء الحنفية في مصر بأمر من السلطان العثماني في الأستانة، وأحسب أن مقدمه كان أول التاريخ لمذهب الإمام أبي حنفية في القضاء الشرعي بمصر، ولم يُعْقب الشيخ محمد الطاهر غير فتاة وغلام، انتهى بموتهما نسبه، فليس في مصر أحد من ولده، ولكنه كان كرائد الطريق لهذه الأسرة،٢ فتوافد إخوته وأبناء عمومته إلى مصر يتولون القضاء ويعلِّمون مذهب أبي حنيفة، حتى آل الأمر من بعدُ أن اجتمع منهم في وقت ما أربعون قاضيًا في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكتْ وظائف القضاء والفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي، وقد تنبَّه اللورد كرومر إلى هذه الملاحظة فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية.

وقد تخرَّج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثرُ علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر، ومن تلاميذهما الأدنَيْنَ المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق.

ولما تُوفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذٍ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلًا زاهدًا ورعًا فيه تحرُّج وخشية، فلم يجد في نفسه هوًى إلى قبول هذا المنصب؛ تحرُّجًا من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس … فلما بلغتْه دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه همٌّ، وهو يدعو الله ألَّا يئول إليه هذا الأمر ضنًّا بدينه ومروءته … وتمتْ مراسيم التولية وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة «مفتي الدولة»، ثم نزل إلى عربته فركبها عائدًا إلى داره وهو يتمتم ويدعو، فلما بلغ الدار نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد … واستجاب الله دعاءه …!

وأبو الأستاذ الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرازق الرافعي، كان رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وهو واحد من أحد عشر أخًا اشتغلوا كلهم بالقضاء من ولد المرحوم الشيخ سعيد الرافعي، وكان آخر أمر الشيخ عبد الرازق رئيسًا لمحكمة طنطا الشرعية، وفي طنطا كانت إقامته إلى آخر أيامه، وفيها مات ودفن، وفيها أقام المترجم وإخوته من بعدُ في بيت أبيهم، فاتخذوا طنطا وطنًا ومقامًا، لا يعرفون لهم وطنًا غيرها، ولا يبغون عنها حِوَلًا، ولقد حاولتْ وزارة العدل (الحقانية) أكثر من مرة أن تنقله إلى غير طنطا، فكان يسعى سعيه لإلغاء هذا النقل؛ حتى لا يُفارق البلد الذي فيه رفات أبيه وأمه، وفيه مسجد السيد البدوي.٣

وكان الشيخ عبد الرازق رجلًا ورعًا له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما معاصروه من شيوخ طنطا.

حدثني نسيب قال: «كنت غلامًا حدثًا، وكان الشيخ عبد الرازق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الأجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحيانًا في متجر جاره وصديقه المرحوم حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودربُ الأثر يومئذٍ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية، ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرازق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمرَّ به رجل ينفث الدخان من فمه وبين أصبعه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرازق، حتى اندفع إليه، فانقضَّ عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى «القسم»؛ لينال الحدَّ على إفطاره في رمضان في شارع عام، وما أجدى رجاءُ الرجل ولا شفاعة الشفعاء، فسيق الرجل إلى القسم في «زفة» من الصبيان، ليتولى الشيخ حدَّه بنفسه على إفطاره، وما كان القانون يأمر بذلك، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام.»

وحوادث الشيخ عبد الرازق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!

واسم «الرافعي» معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون، وأحسب أن هناك صلةً ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي، وقد سألت الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول ما عُرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله؛ فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيهًا له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.

والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتدُّ به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.

وأمُّ الرافعي كأبيه سورية الأصل، وكان أبوها الشيخ الطوخي تاجرًا تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام، وأصله من حلب، وأحسب أن أسرة الطوخي ما تزال معروفة هناك، على أنه كان قد اتخذ مصر وطنًا له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي، وكانت إقامته في بهتيم من قرى مديرية القليوبية، وكان له فيها ضيعة، وفيها وُلد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في يناير من سنة ١٨٨٠م؛٤ إذ آثرتْ أُمُّه أن تكون ولادتها في دار أبيها.

وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائمًا يحب أن يُسنِد إليها الفضل فيما آل إليه أمره، وقد تُوفيتْ في أسيوط ودُفنتْ بها، ثم نُقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا.

١  هو الكاتب سلامة موسى.
٢  العجيب أن يكون أول قادم إلى مصر من هذه الأسرة ليس في مصر أحد من ولده، ومع ذلك تستطيع أن تحصي من آل الرافعي في مصر الآن ما يزيد على ستمائة، وأسرة الرافعي كثيرة الولد فما منهم إلا مَن له ثمانية أولاد أو عشرة أو اثنا عشر أو أكثر من ذلك، وحسبك أن تعلم أن أولاد وأحفاد الشيخ عبد الرازق الرافعي (والد المترجم) يبلغون الآن واحدًا وسبعين ولدًا وبنتًا، وقد مات المترجم وعمره سبع وخمسون سنة ولم يتزوج إلا واحدة، وُلد له منها أحد عشر ولدًا وفتاة، افترط منهم واحدة في سنتها الأولى وخلف عشرة!
٣  كان للرافعي صلة روحية بالسيد البدوي ترتفع عن الجدل والمناقشة، وله فيه مدائح وتوسلات شعرية كثيرة، وكان الرافعي إذا أمَّ مسجد السيد البدوي للصلاة اتخذ مجلسه تحت «القبة» فلا يمل الجلوس ساعات يقرأ ويدعو وعيناه مسبلتان، فإذا فرغ من دعائه وتلاوته رفع رأسه ومسح بيده على صدره، ثم يمضي وما تزال شفتاه تتحركان بكلام … وكان بيت آل الرافعي القديم في طنطا قريبًا من مسجد السيد البدوي، في حارة سيدي سالم، وهي حارة قديمة ضيقة ملتوية يُقال: إن السيد البدوي أوى إليها أول ما هبط إلى طنطا منذ بضع مئات من السنين، وكانت إلى عهد قريب هي مجمع دور الأعيان والسروات من أحباب السيد البدوي واللائذين به.
٤  لا نعرف للرافعي «شهادة ميلاد» تُحدد يوم مولده بالضبط، وشهادة الميلاد التي بملف خدمته في وزارة العدل (الحقانية) هي لأخيه المرحوم محمد كامل الرافعي، وقد كنت أحسب مولده في سنة ١٨٨١ أو ١٨٨٢، ثم وقعتْ لي بين أوراقه الخاصة ورقة مكتوبة بخطه يذكر فيها أن تاريخ ميلاده في يناير سنة ١٨٨٠ فبها أخذت هنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤