حرف النون

نادر عارف المنياوي

وُلِد ونشأ في الدرب الأحمر، الابن الوحيد لحبيبة عمرو والشيخ عارف المنياوي لم يترك أبوه في وعيه أيةَ ذكرى فترعرع في بُحيرة ثرية بحنان أمِّه وجدته لأبيه، ورحلت الجدة وهو ابن ستةٍ فوجد في قلوب عمرو وراضية وبقية الأسرة ما أنساه يُتمه ووحدته. وربما كان من حُسن حظِّه أن يعشق التفوُّق ويهيم في الطموح من صغره ولكنه لم يُقدِّر التضحية الجنونية التي ضحَّتها أمُّه من أجله برفضها فرصةً حسنة للزواج، وبقائها أرملة طيلة العمر عقب حياةٍ زوجية لم تستمر سوى عامَين. وشبَّ نادر ذا رونق وفحولة، ولم تخلُ فترة من حياته من مغامرةٍ عاطفية في نطاق ميزانيته المحدودة. وحصل على بكالوريوس التجارة في أثناء الحرب العُظمى وأُلحِق بوظيفةٍ في وزارة المالية. ودأب على كُره فقره والتطلُّع الدائم إلى أفقٍ سامق، ومن أجل ذلك التحق بمعهدٍ لتعليم اللغة الإنجليزية، وأتقن الكتابة على الآلة الكاتبة، ثم قدَّم لامتحان أعلنت عنه شركة إنجليزية للمعادن فنجح، واستقال من الحكومة ليشغل وظيفةً في قسم الحسابات بالشركة. وأرعبت مُغامرته أخواله وأقاربه وأُمَّه، ولكنه قال بثقةٍ لا عهد للأسرة بها: لا مستقبل للحكومة.

وتحسَّنت أحواله، ولكن طموحه لم يُشبَع. ولما قامت ثورة يوليو لم يأنس إلى أسلوبها كشابٍّ طموح يحلم بالثراء، وتحقَّقت مخاوفه عقب الاعتداء الثلاثي ومصادرة الشركات البريطانية، عندما وجد نفسه مرةً أخرى موظفًا في الحكومة على غير إرادته. وعند ذاك درس حال أُسرته وفروعها على ضوء الوضع الثوري الجديد، فرأى في آل عطا المراكيبي وآل سميرة خالته بعض المُمثِّلين للثورة مثل عبده عطا وماهر عطا وابن خالته حكيم. وقرَّر فيما بينه وبين نفسه أن يتزوَّج من نادرة شقيقة عبده وماهر أو من هنومة شقيقة حكيم. وشاور أُمَّه في الأمر فقالت: هنومة أقرب لنا، وهي الأجمل.

وبإيعازٍ منه خطبتها له؛ وهي مذيعة في الراديو وذات مبادئ وخلق كأخيها سليم، وكانت قد رفضت يد ابن خالتها عقل، ولكنها وافقت على الزواج من نادر، وتمَّ الزفاف في شقةٍ بشارع حسن صبري بالزمالك، وألحَّ نادر على أُمِّه أن تعيش معه ولكنها أبت أن تُغادر الدرب الأحمر أو تبتعِد عن بركات الحي العتيق، حيث تُقيم أيضًا أمها المحبوبة وكثرة من أخواتها وبنات عمها. ونعمت الأسرة الجديدة بالسعادة وأنجبت له هنومة ثلاث بنات؛ سميرة وراضية وصفاء. وتوثقت العلاقة بين نادر وحكيم، وبفضل حكيم رُقِّي نادر رئيسًا للحسابات، وكبُر مرتَّبه فوق ما يحلم أيٌّ من أقاربه الموظفين، ولكنه كان ذا طموحٍ لا يعرف الحدود. ولما حصلت التأميمات تعيَّن رئيسًا لمجلس إدارة الشركة دون شبَعٍ من ناحيته حتى سألته هنومة: ماذا تريد؟

فقال بغموض: إني أحتقر المُرتبات الثابتة.

فقالت هنومة بوضوح: وأنا لا أكره الثراء شريطة أن يقترِن بالنقاء!

فتوجَّس خيفة من نظرة عينَيها، وقال بعجلة: طبعًا.

وشعر بأن شريكة حياته ليست شريكة في طموحه. وكان يؤمن في أعماقه بأن الفارق الوحيد بين أهل السجون وأهل الخارج هو الحظُّ لا الخلق أو المبادئ، وأن العالَم مجموعة من الأوغاد لا ينجو منها إلا القوي الشاطر. واعتبر زوجته امتدادًا للرأي العام الأحمق الذي عليه أن يُداريه طالما أصر على تحقيق طموحه. ومضى يوثق علاقاته ببعض الضباط وآخرين من رجال القطاع الخاص، حتى كانت هزيمة ٥ يونيو، وانكشف أمره فيما انكشف المستور من أمورهم، واكتُفِي بإحالته إلى المعاش بفضل حكيم أيضًا، ولكن هنومة ثارت عليه ثورةً لم يفلح في مُهادنتها إلَّا بالطلاق. وقالت سميرة لهنومة بهدوئها المعهود: أنت مسئولة عن نفسك فقط.

فقالت الفتاة بشدَّة: لا أستطيع أن أُغمض عينيَّ وأهدم بنيان حياتي كله.

واحتفظت هنومة بالشقة والبنات، وراح هو يتنقَّل بين الفنادق والدرب الأحمر، وفسَّر لأُمِّه الساذجة الطلاق على أنه خلاف ممَّا يفسد الحياة الزوجية. ولما تغيَّر الحال وهلَّت طلائع الانفتاح تنفَّس من جديد، واستمدَّ من الجو الطارئ حياةً لم يحلم بها من قبل. واشتغل بكل همَّةٍ في الاستيراد، وحقَّق لنفسه أخيرًا الحلم الذي راوَدَه من الصغر، وانفسح المجال أمامه ما بين الخارج والداخل. وفي إحدى رحلاته تعرَّف بأرملةٍ أسترالية فتزوج منها، وأقام معها في فيلَّا في المعادي. وكثيرًا ما يقول ضاحكًا: إنها قسمة عادلة، فالثراء للأقوياء والأخلاق للضعفاء.

نادرة محمود عطا المراكيبي

هي الرابعة في ذُرية محمود بك عطا، وُلدت ونشأت في سراي ميدان خيرت، في الجو المُعبق بالعز والرفاهية، وكانت على قدْرٍ من الوسامة وإن تكن دون إخوتها الذكور، وعلى مِثال أُختها الكبرى شكيرة في الخُلق والمبادئ والتديُّن مع شيءٍ كثير من المرونة والدماثة. وكانت حادة الذكاء مُحبة للتعليم فلم يُعارض أبوها في استمرارها فيه بعد أن غزاه الزمن بمفاهيمه الجديدة. وقد توَّجَت سعادة صباها بالحبِّ الذي ربط بينها وبين مازن ابن عمِّها. استوى فارسًا لأحلامها منذ مُراهقتها وحتى آخر يومٍ في حياته، بل لعلَّه ظلَّ كذلك طيلة عمرها، أحبَّته كما لم تُحب شيئًا في الوجود، وناطت به أحلامها وسعادتها وأمانيها. وشدَّ ما جزعت للخصام الذي مزَّق أُسرتها، وشدَّ ما خافته على سعادتها وآمالها، وقالت لأُمها: بابا جاوز غضبه الحد.

ولم تنقطع الصِّلة بينها وبينه طوال أعوام الخصومة … وفي أثناء ذلك حصلت على البكالوريا والتحقت بكلية الطب، ثم كانت الكارثة التي هلك فيها مازن وتلاشى من وجودها، كادت تُجَنُّ من الحزن، بل والغضب، وقضت عامًا في السراي أسيرةً للكآبة، ثم واصلت دراستها وقد تحجَّر قلبها وصمَّم على الزهد في الدنيا. خرجت من حياتها في تلك الأيام بتجربتَين مرتَين؛ وفاة حبيبها، وخيبة أمل شقيقتها في حياتها الزوجية. ونزعت بكل قواها لتكريس حياتها للعمل والوحدة والقراءة الدينية. وعرضَتْ لها فُرَص زواج طيبة، ولكنها كانت قد تطبَّعت بسوء الظن بالنوايا، وكرهت فكرة الحياة الزوجية، وتخصَّصت في طب الولادة، وحصلت على الدكتوراه، وأحرزت نجاحًا مرموقًا تزايد يومًا بعد يوم. ولم تحفل بنصائح إخوتها لها بإعادة النظر في الزواج، وثابرَت على عملها ووحدتها وتديُّنها حتى فاتها القطار دون أسفٍ مسجلةً في عالَم الأحزان ظاهرةً فريدة لا تتكرَّر. وجمعت السراي بين شكيرة وعبده ونادرة وماهر في الكبر كما جمعت بينهم في مَطلع الحياة، أمثلة حية للنجاح والفشل معًا.

نعمة عطا المراكيبي

ابنة عطا المراكيبي وسكينة جلعاد المغاوري، وُلدت ونشأت ببيت الغورية، وورثت عن أُمِّها عينَيها النجلاوَين وشعرها الأسود الغزير بالإضافة إلى صحةٍ جيدة لم تحظَ بها الأم. ولما عزم يزيد المصري على تزويج ابنه عزيز وجد فيها الشروط المُزكية؛ فهي ابنة جاره وصديقه عطا المراكيبي، وهي مصونة وجميلة، وزُفَّت نعمة إلى عزيز مُنتقلةً من دور إلى دور في نفس البيت بالغورية. وكانت مثالًا طيبًا للزوجة العاقلة المُدبرة المُطيعة، وأنجبت لعزيز رشوانة وعمرو وسرور، وتلقَّت من زواج أبيها بالأرملة الغنية صدمة، ثم تابعت ارتفاع أبيها إلى طبقةٍ جديدة بذهول، وزارت السراي الجديدة بميدان خيرت، وسراي العزبة ببني سويف فانبهرت بما رأت أي انبهارٍ ولم تُصدِّق عينَيها. وتوقَّعت أن تنهال عليها دفقات من الخير، ولكن خاب رجاؤها، وفيما عدا هدايا المناسبات فقد قبض الرجل يدَه عنها كأنها ليست بِكريَّته، وليست الأخت الكبرى لمحمود وأحمد. وقال لها عزيز: إنه شحيح وممَّن يحبسون النعمة.

ولكنها رغم حنقِها دافعت عن أبيها قائلة: بل يخاف أن تتَّهِمه المرأة بتبديد ثروتها!

ورغم تقواها حلمت بأن تسبق الأرملة أباها إلى الآخرة فيرِثها، وبالتالي ترِث هي حظًّا من الثروة يدعم رشوانة وعمرو وسرور في حياتهم، ولكن الرجل رحل قبل زوجته بقليل، مُخيِّبًا رجاءها بموته كما خيَّبه بحياته. والحقُّ أن مُخالطة أخويها — محمود وأحمد — لها ولأولادها وبِرَّهما بهم أنساها أحزانها فبادلتهما حبًّا بحبٍّ حتى آخر عهدها بالحياة. وامتدَّ بها العمر حتى قرَّت عينًا بأحفادها، ورحلت عن الدُّنيا بعد عزيز بعامَين.

نهاد حمادة القناوي

بِكرية صدرية وحمادة القناوي، وُلِدت ونشأت في خان جعفر، ومرحت في طفولتها في بيت القاضي، وحظِيَت بمنزلةٍ طيبة لدى عمرو وراضية بوصفها طليعة الأحفاد. وكانت على جمالٍ مقبول، وتعليمٍ قليل سرعان ما تلاشى. ولمَّا قاربت الخامسة عشرة خطبها عمدة متوسط العمر من أقارب أبيها، فرحَّب به حمادة أيما ترحيب، وأدركت صدرية بأسًى عميق أن ابنتها تنفصل عنها إلى الأبد، وأنها لن تراها إلَّا في المناسبات، وأنها ستنتمي من الآن فصاعدًا إلى الصعيد. وتأقلمت نهاد مع البيئة الجديدة؛ فتطبَّعت بسجايا جديدة، واكتسبت لهجةً جديدة، وأنجبت للعمدة عشرًا، نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وكلما زارت القاهرة كوافدةٍ غريبة تطلَّعت إليها الأبصار بغرابة، وهي تشهد حرم العمدة بجسمها المُترامي، وحُليِّها الذهبية التي تُغطِّي الساعِدَين والعنق، ولَكْنتها الغريبة المُثيرة للضحك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤