الرسالة الثانية والعشرون

صورة الجواب الذي كتبه صاحب السعادة حسن حسني بك صاحب جريدة النيل على سؤال «درة المشرق»، وقد أدرج في العدد ٢٨٠ من جريدة النيل بتاريخ ٢٢ جمادى الأولى سنة ١٣١٠، وها هو كما جاء في الجريدة:

جواب سؤال درة الشرق

أوردنا سؤال حضرة البارعة الأديبة الست درة المشرق في عدد يوم الخميس، ونحن اليوم نُجيب ولو على غير رأي أبي العتاهية إذ يقول:

وقال رجال لو نعتَّ لنا الهوى
ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
إذا زاد ما بي كان أعظمَ حيلتي
له وضعُ كفي فوق خديَ أسكت

لأن البحث فلسفي، والغاية الوقوف على شيء من الحقيقة، وخلاصة السؤال أن العوارض التي تطرأ على صحة الإنسان ثلاثة: المرض والجوع والحب، وقد اعتنى البشر بالأمرين الأوَّلين دون الثالث، وأن المصاب بهما مرحوم، وبالثالث ملوم.

والحق يقال، إن هذه النقطة نقطة اختراق الأفكار ذات الأشعة المستمرة من شموس فلك المعقولات.

والذي يظهر لي، وما أدرى المصيب أو المخطئ، أن البشر لم يهمل الرحمة على المصاب مهما كانت درجته من القوة إلا لبواعث وقياسات، أصاب في بعضها وأخطأ في البعض، شأنه في كل عاداته وأعماله.

ولما كان المرض وامتناع الغذاء الذي هو الجوع والعطش يخالفان الحب في أحوال جوهرية في الأغلب؛ استدعيا الرحمة من كل الوجوه؛ الأول: أنهما لا يَحدثان إلا عن اضطرار لا اختيار فيه، الثاني: أنهما يُنتجان العجز والضعف الظاهر، الثالث: أن ضررهما بمصابهما مادي محسوس، الرابع: أنهما لا يَقبلان شبهة الاحتيال، الخامس: أن دفع ذلك مقدور عليه بدون أن يتعلق بحقوق شخص آخر. أما الحب فهو مفارق لكل هذه الأحوال:
  • أولًا: لأنه غير اضطراري لوسائل على الأصح، وإن كان هنالك بحوث تطول شروحها، فإنه لا ينشأ إلا بعد رؤية أو سماع، وكلاهما تعرُّض لحق الغير من جهة الرجال، وخروج عن واجبات العصمة، والتمنع من جهة النساء؛ فنشأته اختيارية خارجة عن الشِّرعة التي تقتضي الشفقة في الأغلب بمقتضى العادات التي نما عليها النوع، وقوانين الشدة واللين في معاملة ذلك المصاب تابعة لقوانين العادة والمألوف.
  • ثانيًا: أن أفعال الحب في الجسم لا تظهر إلا بمظهر الأمراض الجسمية، فلم يعتد البشر على تقدير الضرر الحاصل منه إلا العالِم أو المُجرِّب؛ فهو على ريب من موافقته ما يرى في غيره لما جرى بذاته، وأما العالم فهو مسلِّم بنوع الضرر مرتاب في صحة الدعوى، وعلى كلٍّ فاتفاق الكل على عدم استحسان جناية النشأة واتهام الغاية يمنعهم من الرحمة.
  • ثالثًا: أن ضرره بالمصاب مشعور بصور الاتهام والأسباب كما تقدم؛ فلذلك قلَّ أن يعطف عليه أو يرحمه راحم.
  • رابعًا: أن الارتياب فيه يغلب على الحقيقة، والريبة متعلقة بحقوق الغير من الأعراض التي اتَّفق البشر على حمايتها.
  • خامسًا: أن علاجه غير مقدور عليه من كل الوجوه؛ إذ تَحُول المراسم دون الغاية ولو كانت منزهة شريفة.

ولا يصح إنكار أن الحب قد يكون على شِرعة نزاهة وطهارة وعفة، ولكن ذلك مشرب بتزاحم الظنون لكثرة المتسترين على مفاسدهم بهذه الدعوى، وصعوبة التفريق بين المصلح والمفسد، ولله دَرُّ أبي الطيب إذ يقول:

وقد يتزيَّى بالهوى غيرُ أهله
وقد يصحب الإنسان من لا يلائمه

ولولا هذه العلل وتغلُّب الشبه والظنون، وشدة خفاء الفرق العظيم بين الحب والشهوات الباطلة، ما خِلت أن العالم الإنساني يقابل هذا المصاب المدهش بأشد أعمال القسوة.

وكيف كان يسوغ له أن يجتمع على صرامة العمل لولا هذه العلل! على أن الحب والبغض هما أساسا هذا النظام العام، ولولاهما ما صح شيء من التعامل بين فردين من البشر.

فالحب أساس الارتباط الوجودي وأكبر مؤثرات العالم الحيوي، به قامت المنازل ونما النوع، وتأصلت العائلات وارتبطت الأمم، وعُمِّرت المجتمعات وترقت الأقوام، وعليه دار مدار هذا العمران، وهو كذلك إلى انقضاء الزمان.

ولو ساعد المقام على إطالة المقال لاستطردنا البحث، ولكن سنغتنم بحول الله فرصة لتفصيلات مهمة في هذا الباب، والله الموفِّق للحكمة وفصل الخطاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤