الرسالة الرابعة والثلاثون

وكتبت رسالة تحت عنوان «يا سلام يا أبو المحاسن»، وهي رسالة ضافية الذيل، ودرجت في سبعة أعداد من فرصة الأوقات، ابتداءً من العدد الثامن الصادر بتاريخ ١٥ رمضان سنة ١٣١٠ إلى العدد الرابع عشر الصادر في أول محرم سنة ١٣١١؛ وذلك ردًّا على حضرة حسين أفندي فوزي، وها هي كما جاءت في الجريدة تحت هذا العنوان:

يا سلام يا أبو المحاسن

قد أخذتك الحدة والغضب الشديد يا صاحب المحاسن، حتى جعلتك لا تقدر على رد جماح القلم إلا بعد الرجاء الشديد، وقد أوجبتك العظمة أن تخرج عن شروط المناظرة إلى الشتم والسب الشخصي، وظننتَ أيها العالم الشهير — أيدك الله — أن المغالبة بالمشاتمة هي بعض أبواب فن المناظرة، وأن الانتصار حق لأشتم المتناظرين، وغَرُبَ عن فهمك أنك لو شتمت أحد الملوك — مثلًا — لا ينقص شتمك من شرفه شيئًا، بل ترجع السفاهة على الشاتم فقط. نعم، فبهذا الشتم ظهر لي أن فيلسوف العصر، ونخبة الدهر الغابر والحاضر، وقد شهد لك كل من اطلع على فرصة الأوقات بالفضل والعلم، وحُقَّ لهم أن يشهدوا؛ «أوَلستَ أبو المحاسن؟!»

أولست أسطا ليس إن
ذُكر الفلاسفة الأكابر
وأبو حنيفة ساقط
في الرأي حين تكون حاضر
وكذاك إن ذُكر الخليـ
ـلُ فأنتَ نحْوي وشاعر
من هرمسٍ من سيبويـ
ـهِ من ابن فورك إن تناظر

نعم، كل هذه السجايا التي تشهد لك بكل ذكاء وفطنة يحق لك أن تفاخر بالشتم والسب أكثر فأكثر، حتى تبلغ الدرجة القصوى من الافتخار لأنك رجل ذو عقل ذكي.

قد ذكَّرتني بقول الشافعي حيث قال ما معناه: «ما ناظرني عالم إلا وغلبته، ولا جاهل إلا وغالبني.» ولا غرو إذا أردت أن تغلبني بكل هذه المقدمة التي قدمتها في العدد السابع من الفرصة؛ لأن الذي يكون على الحق يأنف من التلفيق.

وأما الآن فقد أوجبت لي أن أُظهر لك أنك مخطئ، ولا مؤاخذة أيها الفيلسوف الشرعي أني لم أخرج عن الموضوع من العجز كما زعمت، لا وأبيك، بل لما رأيتك امتثلت من أول رد، ووجدتُ كلامك مناقضًا بعضه لبعض؛ وذلك لما قلته في الجزء الخامس من فرصة الأوقات، وقد نوهتُ لك عنه، وهو بعد مقالتي الأولى، وقد نسبت لي العجلة، ولكن لو لم أسارع بالعجلة لم تكن تقع في الارتباك وتجمع بين الضدين في آنٍ واحد، وها أنا سأرد على كل لفظ لأُرِيَك أني غير عاجزة على الرد لضعفي — كما زعمت أيها الأستاذ الشهير — بل أرد عليك من عين كلامك المناقض بعضه بعضًا، ولْنبدأ بمقالتك الأولى التي أوجبتني أن أناضل عن حقوق النساء لما وجدت فيها من الإجحاف، واستنادك على الخرافات، وإنكارك الحق الظاهر للعِيان، وأُظهر لك أن حجتك التي اتخذتها غير كافية لأنْ تُثبت أفضلية الرجل على المرأة يا حضرة الأستاذ؛ فإنك قلت في العدد الثالث: «إن الرجل قوَّام على المرأة، فأمر الله — عز وجل — إسرافيل فقبض … إلخ.» وهي العبارة المعلومة لدى كل إنسان إلى أن قلت: «أن تكون أفضلية الرجل على المرأة؛ وذلك لكونه أصلًا والمرأة فرعًا.» فهذا — أيها النحرير — لا يُثبت أفضلية الرجل، وإنما أضرب لك مثلًا صغيرًا، وهو أمام كل إنسان معقول غير منقول «هل إذا نظرت إلى شجرة النخل، تُفضِّل الثمرة على أصل الشجرة وهو الخشب، وأنه لولا ذلك الخشب لم يكن الثمر؟» فهل يجوز تفضيله بمجرد كونه أصلًا لذلك الثمر أم لا؟ وأيضًا، فإن آذار والد إبراهيم هو الأصل في الوجود، هل بذلك يفضل عنه أم لا؟ فلماذا لم تفضله عنه يا أخا المحاسن؟ وأما قولك: «إن ذلك النوع وُجد لإيناس ذلك الأصل.» فهذا الذي يُثبت الأفضلية للمرأة على الرجل شأن المحسن البار؛ لأنها أزالت عنه الوحشة وآنَسَته، وحبَّبَت إليه الحياة؛ فلذلك هو مدين لها. وأما قولك: «من تغلب على شيء وقهره وكان أقوى منه مدركةً وذكاءً كان أفضل منه.» إلى أن قلت: «وكذلك الرجل قد تغلب قديمًا.» إلى آخره، لا يا حضرة الأستاذ، ليس الأمر كما تظن، ولو كان كما زعمت لكان الأسد أفضل من الإنسان؛ لأنه أقوى منه، ولو أنك طالعت تواريخ الأمم لاكتفيت بهم، ووجدت لك أعظم شاهد لما تعلم أن أكثر الأنبياء — عليهم السلام — قد قُتلوا من يدي الكفار، فإذنْ لو كان كما زعمت لكان القاتل أفضل من المقتول لأنه أقوى منه! ولماذا لم تَرضَ عن يزيد بن معاوية حيث قتل ابن الزهراء إذا كان كذلك؟! وأما الإدراك والذكاء فقد شهدتَ لها بهما — أيها الأديب — بقولك في أول مقدمة سراجك: «وأدار محور الأمور بدائرة أعمالهن، فهن لصلاح الأخلاق خُلقن.» وهل يتيسر لأحد أن يدير محور هذه الأمور التي ذكرتها بدون إدراك أو بغير ذكاء؟! أم تريد أن تصلح الأخلاق الفاسدة بشيء غير صالح؟! يا سبحان الله! «يا عشتنا على علمك يا أبو المحاسن!» وهل المصلح أفضل أم المصلوح؟! ولعلك نسيت هذه العبارة حتى إنك كتبت ضدها، ولكن لا لوم؛ فالحدة تفعل أكثر من ذلك. وأما قولك عن أغلبية الرجل بأعماله الشاقة إلى أن قلت: «حتى وكل إليه سياسة سلطنته الخارجية، وإدارة حركة منزله.» وقلت: «وناهيك قصة آدم؛ فإنه لما هبط من الجنة مع أُمِّنا حواء، وكان ما كان من ضرب البقرة وغيبوبته عن حرث الأرض، فقامت حواء لتمام الحرث فما استطاعت إتمامه، فبكت وأشفقت من هذا العذاب.» والحاصل إلى أن «نزل عليها جبرائيل وبشَّرها بالراحة، والذي حرثته كان شعيرًا، والذي حرثه آدم كان بُرًّا نقيًّا.» إلى آخر ما ذكر.

فأصغِ إلى قولي أيها الفيلسوف، أما الأعمال الشاقة التي ميَّزت بها الرجل عن المرأة فقد كذَّبها ما قلتَه يا حضرة السيد في الجزء الخامس: «المرأة تفوق عن الرجال في أمور شتى.» إلى قولك بعدما أوردت الحديث الشريف: «فشعر بزيادة اعتبار الأم وأفضليتها، وما ذلك إلا لكونها كُلفت بالمشاق كالحمل والفصال وغير ذلك.» إلى آخر ما عددت من أتعاب المرأة. فإني أرى أن هذه الجملة قد كذَّبت الأولى، وبشارة سيدنا جبرائيل أيضًا التي بشرها لحواء بالراحة، فأين الراحة إذا كانت على الحالة الذي ذكرها حضرة الفيلسوف؟! وأريد أن تفيدني في بحر علمك — أيها الشرعي — عن مسألة البُرِّ والشَّعير التي أثبتَّ بها أفضلية الرجل، في أية سورة من القرآن نزلت حتى أتبعها وأقر على قولك بدون مراجعة؟ أفدني أفادك الله أيها الفاضل، وأما مسألة السلطنة التي وُكلت للرجال، فإنها لم تخرج إلا من سلطنتها الداخلية، وقد شهدتَ بها أنتَ يا حضرة الفاضل؛ إذ قلت قائمة بأمور حسنة كشئون المنزل، وهي الأمور الداخلية، فإنها إدارة على حدتها تديرها بسامي فكرها وعقلها إلى آخر القول، فإذا كانت هي البادئة في الْتِئام سياسة العالم الإنساني، فلماذا يفتخر عليها الرجل بسياسته الخارجية مع أنها لا تخلو من الاشتراك معه فيها؟! وهذه الملكة فيكتوريا قد ساست أعظم الممالك أحسن سياسة؛ إذ لم أذكر لك غيرها من ملكات التاريخ؛ حيث إني لم أتعرض للمنقول، بل يكفينا المعقول والمعايَن، وهو أثبت حجة؛ لأننا في عالم كالعالم الذي تنقل لي عنه، بل الحوادث والعجائب تزيد عن ذلك الزمان. وأما قولك: «يا هذه وقاكِ الله من أقلام الرجال.» فقد أضحكتني كثيرًا وشعرتُ بالحالة التي كنتَ فيها عندما كتبتَ هذه الجملة تبين لي ما تفعله أقلام النساء في أجسام الرجال، وتذكَّرتُ ما قيل لعمرو بن العاص بعدما فرَّ من أمام سيدنا علي في حرب صفين بطل … ولا أذكر ذلك لئلا يعمل في جسمك تأثيرًا عظيمًا، فتشحن المجلة بالشتم والسب، وتضيع المزية بالفصل المضحك يا أخا المحاسن، وتبدل قولك فيها:

وتزينت صفحاتها ببدائع
قد نظمت كالدر من حسن البنا

وتهدم بعد ذلك ما بنيت.

وأما مسألة الحمل التي ردَّدتها وزعمتَ أنك فضلتني بها، فإن الله قد فضلني بها عليك؛ لأنك ما تكوَّنت إلا في جوف المرأة، وتكملت من دمها، وربيت وتغذيت من لبنها؛ فلذلك لها فيك القسم الأكبر، وأما لو بقيت على عزمك الأصلي في عدم الرد عليَّ لكان أحسن لك؛ حيث إني سأدحض حجتك بالحق لا بالشتم وتلفيق الخرافات شأن القوي يا حضرة العالم، والله لا أدري من منا العاجز، وأما قولك: «إن النساء لو كانت قادرات على رد حقوق أنفسهن لفعلن، بل إنهن ضعيفات.» وهذه الجملة قد أظهرت لي ما عندك من العلم؛ إذ إنها تكررت مرات عديدة، وقد سبق الرد عليها فلا لزوم لإعادته، وأما الفضل الذي ذكرته في رد حقوقنا أنه عائد للرجال، نعم، وإن كنتُ أقرُّ للمتمدِّنين منهم إلا أنه في الأصل ليس الفضل للعموم، ولا لذلك البعض إلا في الإنصاف فقط؛ لأن الذي سلب شيئًا ظلمًا وعدوانًا ثم رده لأهله، فلا فضل له إلا لكونه أنصف في رد حقه فقط، وذلك بخلاف ما إذا كان منحه إياه من عنده، وأما إذا كان حقه وأرجعه له فلا فضل له فيه، فتفكَّر.

وإن لسان المرء ما لم يكن له
حصاة على عوراته لدليل
وكأن ترى من لوذعي مخضرم
وليس له عند العزيمة حول

وأما قولك: «إن السيوطي استنبط من الكتاب العزيز نقصان عقل المرأة بقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ قال: تضل بمعنى تنسى الشهادة لنقص عقلهن، فإن كثرة النسيان لا ينشأ إلا عن نقصٍ في العقل.» أما هذه حجتك يا فارس السباق، وأنا أقول: إنك أخطأت المرمى؛ فإن النسيان لا ينشأ إلا عن صعوبة المركز، وكثرة الاشتغال، وهذا يؤيد قولي في صعوبة مركز المرأة، وعظيم جهادها الطبيعي الذي هو أعظم من اشتغال الرجال؛ إذ إن القوة الحافظة والقوة الذاكرة متضادتان، فكلما قويت إحداهما بكثرة الاستعمال ضعفت الأخرى، فالنسيان إنما ينشأ من كثرة الاشتغال كما قرره جمهور العلماء، ومع ذلك فإن الرجل أعظم نسيانًا من المرأة، فإذا كان منشغلًا في شيء من الأشغال لا يفتكر في سواه ولو كان من أعظم الفلاسفة، وما سُمِّيَ الإنسان إنسانًا إلا من النسيان؛ وذلك لقوله تعالى: نَسِيَا حُوتَهُمَا، وقال: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ، ولم يذكر النسيان من النساء بل أكابر الرجال «وكان أول ناس أول الناس»، فتجد المحرر مثلًا إذا اشتغل بالتحرير نسي كل شيء، وقد اطلعت في إحدى الجرائد أن أحد فلاسفة السياسة الطايري الصيت قدم إليه زائرٌ من أصدقائه فجلس للحديث، وفيما هما كذلك وإذا بالفيلسوف تغيَّر بغتة وقال: لقد حق قول الطبيب الذي أنذرني به منذ عشر سنوات. فقال الزائر: وما هو ذلك الإنذار؟ قال: قال لي إنه سيصيبني شلل، وها هو قد حصل؛ لأني منذ برهة وأنا أضغط على فخذي فلم أجد حسًّا. قال له: خفِّض عنك يا صاح؛ لأن الذي تضغط عليه هو فخذي لا فخذك. وقام الرجل وتركه وانصرف؛ فانظر إلى هذا الفيلسوف، هل تجد النسيان طارقًا عليه لنقص عقله أم لكثرة أشغاله بالعلوم التي جعلته ينسى نفسه لا الشهادة فقط يا حكيم مصر.

وكيف يكون بالمرأة نقصان وقد أخرجت الكامل من الرجال؟! وما أظن أن الكامل يخرج من ناقص، فدع عنك الاستشهاد بالآيات للراسخين يا صاحب المحاسن؛ لأنهم يعلمون أين يضعونها.

وأما قولك: «من جهة الدين فهذا الحديث يؤيد نقص دينهن، وهو: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها فقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء».» وقد حكمت أيها المحدِّث أن من كان أكثر دخولًا في النار كان أكثرهم معصية وأقلهم دينًا … إلخ، فمن أنبأك أن النساء أكثر الناس معصية؟! وما أدراك أن الحديث غير موضوع لأنه مناقض لما كان عليه رسول الله : «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجُعلتْ قرة عيني في الصلاة.» ومن كان أول شيء أحبه الرسول وقدَّمه على غيره فلا ينبغي أن يشهد له بالنار، وبمَ تستدل على أن النساء أكثر من الرجال معصية ولم تَرَ عصابة تألفت من النساء لقطع الطرق وسلب الأموال والأرواح؟! أم رأيت أن الرجال أقل من النساء في ارتكاب المنكرات، وتتبُّع الشهوات، وشرب الخمور، وفعل الفواحش؟! هذا لعمري أعجب من العجب! وأيضًا إذا حكمت يا حضرة المرشد أن المعصية نقصان في الدين، فحينئذٍ يكون قد اضمحل منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولم يبقَ في قلب أحد مثقال ذرة من الإيمان مِن فِعل الجنسين من رجال ونساء، أم تريد أن تنسب لهن اتباع الشهوات بدون أن يكون للرجال فيها اشتراك، فإذا كانت المرأة ارتكبت المعصية لنقص في عقلها أو دينها، فما بال الرجل وهو كامل العقل والدين يشاركها فيها إن لم أقل يجبرها على ارتكابها، ويُحسِّن ذلك لها! وهل وجدت امرأة أرغبت رجلًا على فعل المنكرات، وإلا تُرِدْ أن تستشهد بامرأة العزيز من مضي الألوف من السنين كما استشهدت بالشعير وغيره، ونترك ما هو ظاهر لنا عيانًا.

وإني أعجب لك — يا صاحب العقل الكامل — كيف أنك كتبت بدون فكر وتأمُّل في الكائنات ومجراها، حتى إنك كتبت هذه الجملة اتباعًا للوهم فقط: «والنقص الذي عرض لهن من تتبع هوى النفس أكثر من الرجال.» إلى أن قلت: «وهذا لا تنكره الفاضلة.» كيف لا أنكره أنا وكل عاقل لبيب؟! نوَّر الله عقلك يا أخي، انظر إلى الحقيقة بعينك النقَّادة؛ حيث ترى أن الواحدة من النساء لو أنها نظرت إلى رجل، فأعجبها كيف يمنعها الحياء من مكالمته الصريحة فضلًا عن أشياء أخرى، ونقدر على رد جماح النفس بما تقتضيه من العفة والناموس، ولو فرضنا أنها اتبعت هواء نفسها فتجد لها من ضميرها معنفًا، وما أظن أن العقلاء من الرجال ينكرون أن للرجال خلاف هذه المزايا؛ لأن الرجل لو نظر إلى امرأة فأعجبته اقتحم لأجلها الأهوال دون مداراة ولا محافظة من الانتقاد أو غيره، ولا يُرجعه شيء عن غايته؛ وإذنْ لأنه لائم قال أنا رجل لا يعيبني شيءٌ ما، وربما افتخر بفعل المنكرات! وما فُتحت الحانات و«محلات اللهو» إلا للرجال، ولو أنه لا يخلو من وجود بعض النساء في محلات الملاهي كالبراريات وغيرهن، إلا أنك لا تجدهن لا للرجال إذ ترى الواحدة منهن تسقي الألف من الرجال وهي واحدة! ألم يكن فيهم عقل يوازي عقلها حين يمنعهم عن مشاركتها في ذلك العصيان وردع النفس عن غيها إلا أنهم من أرباب الشرف وكاملي العقل والدين.

وقد ذكرت لك ذلك لأن النساء ليس لهن ذنوب إلا باشتراك بعضهن مع الرجال في الأمر غير المشروع، وفي الجنسين الطيب والخبيث. وأما قولك عن السيدة عائشة: «فهذا نادر والنادر لا حكم له شرعًا ولا يعتد به.» يا سبحان الله يا سيدي أبو المحاسن! كيف لك حكمت بالنادر حيث رجحت صبر الرجل على صبر المرأة واستشهدت بصبر أيوب! أليس هو نادر في الرجال، ولكن لا تثريب عليك؛ لأنك كنت زعلان لأجل أن القلم لم يطاوعك، ويرجع عن مناضلة ذات الخدر يا أكبر فحول العلماء.

وأما قولك: «وفي هذا الحديث إشارة تُشعر بالمرغوب، وهو قوله — عليه السلام — خذوا نصف دينكم لا دينكم بحذف النصف، وهذا حديث يزيد الرجل رفعة … إلخ.» فمن هذه العبارة ظهر لي أنك كامل العلم، ورائق الأفكار؛ لأنك فسَّرت الحديث كأنك في ضمير المراد، أم تخيل لك أنها لكونها امرأة قسم لها نصف الدين وذلك لنقص دينها، وجعل للرجل دين كامل! يا لك من نحرير! فإذا كان ذلك فقد صرتم أفضل منا بمراحل؛ لأنكم صار لكم دين ونصف؛ فمنا النصف ومنكم دين كامل، فلكم الحق في ذلك، ولكن اسمع يا عالم الشريعة هو أن المراد بأخذ نصف الدين عن عائشة، والنصف الآخر يؤخذ عن باقي الأمة؛ لأنها حفظت من الأحاديث ما يوازي نصف الدين الإسلامي؛ فلذلك قال — عليه السلام — في حقها هذا الحديث. وأما قولك: «إنها أم الحروب والفتن.» فهذا يدل على كمال عقلها — رضي الله عنها — ولو لم يكن ذلك لَمَا انقاد لطوعها صناديد الرجال وأولي العقول الكاملة. وأما قولك في حديث عمر — رضي الله عنه: «كمَّل الله به الدين وعزَّ به المسلمين، ومن كان الدين كمل به فمن باب أولى أن يكون كامل الدين، ونأخذ ديننا عنه.» صدِّقني أني ما أتيت على هذه الجملة إلا وأنا لا أكاد أملك نفسي من الضحك والاستغراب، ولمت نفسي على الرد الذي رددته على هذا العالم الشهير، وتذكرت هذه العبارة، وهو أن أعرابيًّا مرَّ على أحد القراء وهو يقرأ القرآن، فوقف يسمع إلى أن انتهى القارئ إلى قوله تعالى: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي، قال الرجل: ليس لي أخ اسمه هارون، بل أخي اسمه أحمد، فلو كانت الآية على هذا الوزن: واجعل لي وزيرًا من أهلي أحمد أخي، لكنت حفظتها، فليحفظها من كان له أخ بهذا الاسم، فلا لزوم لها عندي. وولى مدبرًا؛ فانظر لنفسك يا أبو المحاسن فإن لم ترضَ بأخذ النصف عن عائشة، وإلَّا فَوَلِّ مدبرًا؛ لأنه لم يأمرك بأخذ الدين الكامل عن عمر، وإنما قال هذا من قِبل النصر والإعزاز؛ لأن عمر كان تمام الأربعين، وكان إذ ذاك الإسلام مضطهدًا، وكان عمر شديد البطش لقومه؛ فلذلك قال كمل الدين؛ أي كمل النصر للدين الإسلامي؛ إذ إن الدين كان تمامه بتمام نصره، وهو بخلاف الحديث المختص بعائشة؛ لأن هذا من قَبل التشريع والتفقُّه في الدين والاستمساك بقواعد الشريعة، كما لا يخفى على أولي العلم.

وأما قولك: «وما رأينا من النساء من كمل بها الدين أو عز بها المسلمون، بل رأيناها أم الحروب والفتن من عهد قابيل.» الله يهديك يا أبو المحاسن؛ فقد كذبت نفسك بنفسك، وذلك بقولك في العدد الثالث من الفرصة صحيفة ٤٦ «فلما كان من تمام دين المرء أن يتزوج، ويعصم نفسه من كل نزعة شيطانية.» فعلى ذلك تكون كل امرأة منا قد جعلها الله لتمام دين الرجل، فبأي شيء تفتخر علينا برجل واحد، ونحن خلقنا الله كلنا لتمام دينكم؟! ولها الإعزاز فقد سبق لك أن قلت: «خلقن لكثرة النسل الذي تفاخر به الأمم بعضها بعضًا، ينتج من تلك المحصنات رجال يسبحون الله ويحمدونه.» وأي إعزاز تريد بعد هذا يا أيها اللبيب؟! فليحكم بيننا أولو النهى بالعدل. وأما كونها أم الحروب، فهذا لا ينقص من عقلها ولا من دينها شيئًا، بل يزيدها رفعة؛ لأن الرجال هم الذين يقتل بعضهم بعضًا لأجلها، فما الذي ينقص من قدرها إذا كان الأمر كذلك، أم فما ذنبها فيه؟!

وأما قولك: «جُعل حظ الرجل كحظ الأنثيين.» هذا — يا صاحب الذوق السليم — لا يخل بناموس منزلها؛ لأنه — سبحانه — عوَّضها عنه من جهة أخرى؛ لأنه كلف الرجل بالصرف عليها، وسد جميع احتياجاتها؛ فهنا تقع المساواة بينهما لأنها هي يتكفل بها رجل آخر، وشقيقها الذي ناله ضعف ما نالها يتكفل بامرأة أخرى؛ فيصير الميراث معادلًا بعضه فلا غرو، وإذا كنت تُخرج أسرار الشريعة وتناضل بها، فإنك أبو المحاسن يا بطل، وأما إسقاط الجزية عن المرأة الذمية فهذا افتخار لها بخروجها عن حكم الصَّغار الذي اشتُرط على من يؤدي الجزية بيدٍ وهم صاغرون، وقد فات حضرة الفاضل أن الجزية مرفوعة عن أهل التعبُّد والزهد من الذين يؤدونها.

وأما بطلان ائتمام الرجل بالمرأة، فلذلك يبطل اعتقادك في أن المرأة لا تقدر على رد جماح هوى نفسها؛ فالله أعلم بعفتها من غيره؛ فلذلك جعلتها تؤم الرجال، ولا تطلبه نفسها، ولو أمَّها لطلبتها نفسه فيخرج من الصلاة، وللشريعة أسرار خفية فافهم معناها ثم ناضل يا حضرة الفاضل. وقد عجبتَ من قولي: «وكفاك ما عليه نساء الغرب.» فلله درك يا أبو المحاسن! ما أقوى حجتك إذ قلت: «فعليها إقامة الدليل بعد عشرين امرأة أو ثلاثين أن واحدة فاق عملها عمل رجل آخر، وأنها أتت بشيء لم يأتِ به رجل فضلًا عن إمكاننا عد الألوف من الرجال … إلخ.» فنحن في محاورتنا كمحاورة الأطفال، لكن لا مانع من أن أبسط لك شيئًا من هذا الخصوص؛ اعلم يا أخا الحسن أنه من المعلوم أن كل أمة لم يتم نموها وارتقاؤها إلا بعد أن تتقدم نساؤها، وتدرس العلوم كما تدرس الرجال، وحيث إن الرجال هم المتقدمون لدرس العلم وماسكون زمام الصنائع، سارت فيهم مَلَكة، وصار دأبهم الاهتمام بما انقطعوا إليه؛ فكثر فيهم الارتقاء، وأخروا النساء عن العلم فقلَّ منهن ذلك النجاح، إلى أن تمدنت أوروبا فتفتقت نساؤها آثار العلوم، فنبغن وتقدمن تقدمًا كليًّا، وكثرت منهن الاختراعات، ونمت بينهن الصنائع فمِن هذه الأشياء يُفهم أن كل تأخر المرأة غير طبيعي، بل إهمال لا غير. ولولا خوف الإطالة لعددت لك جملة اختراعات خرجت من أفكار النساء، ولكن عليك بمطالعة الجرائد؛ فهي تخبرك بما فعله النساء في معرض شيكاغو، فإنها أمام الرأي لم يفت عليها الآلاف من السنين، ولم تختلف فيها الرواة، وكذلك الرجال، فالذي تعلم منهم شيئًا انتفع به، والذي رُبِّي على الهمجية كان من الخاسرين، وتراه والمرأة الجاهلة متساويين؛ فلذلك نجد الأمم الشرقية رغمًا عن اجتهاد أفاضلها في كبح جيوش الجهل وردع الهمجية من أنحائها، لا تكاد تنمحي مع أنهم يقتلعون الجهل من أذهان أفرادها كقلع الصخور، فلو كانت نساؤها متنورة كانت رجالها النابغون أكثر من الألوف كما قلت؛ لأن أطفالها ترضع لبن الحقائق من حين الصغر.

وكما أن الرجال الأفاضل قليلون، كذلك النساء الفاضلات، وهذا ليس كذلك شرط أفضلية الرجل من عدمه التي نحن بصددها، فهل ظهر لك أن كل الرجال حازوا الأفضلية وساوَوْا بعضهم بالفضل، فلو كان كذلك لضاع الفضل وذهب التميز، وقد أنكرتَ عليَّ قولي: «وكلف الله النساء لِيَكُنَّ السبب في وجود العالم.» وقد أخذ منك الغضب كل مأخذ حتى جعلك تظن أني أنكرت المادة التي يتكون منها الطفل في جوف المرأة، ولكن سل والدك ووالدتك كيف وضعك، فتجد والدك وضعك من ماء مهين، وأخرجك بطريق لا يكرهه أحد، وأما والدتك فقد أخرجتك كرهًا بعد أن تكوَّنت، وصرت بشرًا ذا روح مع ما كابدتْه من ثقل الحمل فضلًا عن التربية. أما مسألة الولد فهو مشترك بين الوالدين، كما أجمع عليه محققو العلماء الفاحصين، وخصوصًا الباحثين عن الأنسجة الصغرى المكروسكوبية وغيرها، فليطالع أبو المحاسن بعض كتب التشريح وما يتعلق بالمسألة من طرقها العلمية، وكيف تريد أن تبطل قولي: إن الله خلق عيسى بدون أب. وقلت: إن حواء خلقت بدون أم. وظهر لي أنه بهذه العبارة قد حزت قصب السبق، أو صرت من فرحك تكاد أن تبلغ عنان السماء لأني لم أعلم حقيقة أمي، ولا كيف خلقت «يا سلام خالص»، ولكني أقول على سبيل البساطة إن خلق حواء ليس كخلق عيسى «يا موسيو»؛ لأنها خُلقت من ضلعه الأيسر بدون أن يشعر بألم، بل قام من نومه فوجدها إلى جانبه، ولم يجد ثقل الحمل ولا ألم الوضع، بخلاف مريم؛ فإنها وجدت ثقل الحمل وألم الوضع، واختارت الموت على البقاء إلى غير ذلك؛ فبأي وجه تجد لك حجة تحتج بها، وأما شتمتك لي على أثر هذه العبارة فهو شيء يفرحني كثيرًا لعلمي بالتأثير الذي حصل لك في تلك البرهة التي كتبت فيها هذه الجملة، ولولا أن ضربات القلم قوية لما كانت أظهرت حدتك بعد أن اشترطت عليك حفظ آداب المناظرة ليكون عليك حجة دامغة.

وأما قولك: «تريد تفضيل جنسها.» لست أنا أريد ذلك فقط، بل الله فضل جنسي، وأَثبت ذلك أولو الفضل من الرجال العلماء والفلاسفة، ولا نبالي بالجهال وأولي الغايات إن فضلوا أم لا.

وأما قولك: «إنها خلقت من ضلع أعوج.» فهذا لا يعنينا إن خُلقنا من ضلع أعوج أو قويم، بل الذي نعلمه أننا وُجدنا في هذه الحياة ذوات عقول كاملة، وأفكار وإدراك وإحساس كما للرجال، لا تنقص عنهم شيئًا كما يزعم ذوو الغايات — رحمهم الله.

وأما قولك: «وتفرغ النسل منها بسبب الرجل.» فهذا شيء لا يُنكر يا أديب، ولكنك قدرت أنه بمثابة الغيث على الأرض، ولو فرضنا أن ماء الغيث نزل على صخرة أو فوق ماء البحر — مثلًا — أكان ينتج منه نبات كما ينتج من الأرض الصالحة لذلك؟! وليس مرادي أن أتكلم في هذا الموضوع؛ لأني تكلمت عنه في الأعداد السابقة.

وأما قولك: «فأين هذا الصبر من صبر الرجال وناهيك صبر أيوب.» وذلك على أثر قولي: «وقد صبرت المرأة على البلاء المستمر كصبر الأنبياء على الجهاد، والقصد بذلك الحمل والوضع.» «الله يهديك يا أبو المحاسن»، ما أحسنَ تشبيهَك للأشياء وأقربَها للعقل! لأنك شبهت تشبيهًا كافيًا لأن يدحض حجتي ويعجزني الرد على هذه البلاغة المقامة على أساس من ملح، أو منساب عليها جدول الحقيقة، أثبت أنك جعلت النادر لا حكم له، فما لي أراك كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر حال من القلق تتكلم بالضدين في آنٍ واحد، وكيف تنسب التعب الدائم المستمر على الجنس كله، وتقيسه بصبر واحد من الأنبياء مضى عليه الآلاف من السنين؟! ولو أردت أن أعد لك من نساء التاريخ من صبرن على هذا البلاء لزِدْنَ على الحصر، وأيضًا صبر أيوب — عليه السلام — كان على بلاء الخالق، وهن قد صبرن على بلاء المخلوق، وبلاء أيوب كان على ما قيل مدة سبع سنوات يعاني فيها المرض، وهذه امرأة مصابة في جوارنا بداء الفالج منذ واحد وعشرين سنة لا تقدر على القيام البتة، وليس لها من يقوم بخدمتها سوى ابنة ابنها، وهي التي متكلفة بسد احتياجاتها، وها هي صابرة على هذا البلاء الذي لو ابتُلي به رجل لشرب السُّمَّ وارتاح من هذه الحياة المُرة. وأيضًا قد أجمعت الرواة أن صبر أيوب كان مقرونًا بصبر زوجته التي حملته في مرضه، وجازاها بالجلد لولا أن الله — سبحانه — قد نهاه عن ذلك الفعل، وجازاها من فضله وكرمه على صبرها كما هو معلوم.

وأما قولك واستشهادك بالآية الشريفة: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ، وقلت: «فكان مقتضى الكلام فتشقيا؛ أي: آدم وحواء، ولكن اقتصر على شقاء الرجل أنه أجلد منها لكونه يسعى على زوجته، ويتعلم الحرث والزرع والحصد وغيره مما لا تصبر له المرأة.» وقد فضلت الرجل بهذه الأسباب ومعاناة المشاق، أليس كذلك؟ وكم استحسنتُ قولك وتشبيهاتك المحكمة المصاغة من معدن الحكمة، ومفروغة في قالب الحقيقة حتى فرغ مني الاستحسان.

وإلا فأقول: إن الذي قدر على تفضيل الرجال بسبب زرع النبات وجمع الأرزاق يقدر أن يميز بفكرته الثاقبة، ويفضل النساء بزرع النوع الإنساني والسعي في استدراك نموه، ولكن فلْنَدَعِ الحكم في ذلك لأولي الألباب؛ لأنهم يعلمون أن الرجل لم يحصد هذا الزرع بانفصال كل عضو من أعضائه كما أن المرأة تفعل ذلك بالبيت.

وأما قولك: «ولو لم يكن كذلك لما عادت المرأة طوعًا إلى هذا البلاء بعدما قاست أهواله، ولكن هيهات هيهات.» وقد جعلتها موضع التعجب «يا سلام قوي قوي أتابيك يا أخي تعرف تتكلم بالألغاز، ولا حدش زيك أبدًا» «ما فيش كدا أبدًا»، فهذا الكلام اللطيف لا ينطق به إلا كل عالم حنَّكه العلم، وهذَّبه الأدب، فقد غرب عن ذهنك أنك شهدت للمرأة بالصبر الجميل على البلاء الدايم، وأنت غير عالم وبدون قصد منك، ولولا رجوعها إلى هذا البلاء لانقرض النوع الإنساني يا فطين، وهذا شاهد قولي: إنها هي أساس العالم بهذا التحمُّل الشديد؛ وذلك لإيجاد جرثومة الإنسان لا كما ظننت بما التقطته من كلام جهلاء العامة من أن رجوعها لرغبتها في البهيمية، كلا فلا تعجب، والشاهد على ذلك هو أن المرأة لو حصل لها تأخير عن الحمل بذلت كل جهدها للاستحصال عليه مع أن الأمر الذي ظننته غير ممنوع عنها يا عاقل، فمن هذا السبب يظهر لك الحقيقة، وهو أن الرأفة والحُنُوَّ اللذين وضعهما الله — تعالى — في قلبها يجبرانها على التحمل؛ وذلك لأجل عمار الكون الذي كلفها الله بتأسيسه.

وأما قولك: «وإما أن تكون المرأة أفضل من الرجل مطلقًا، وإما أن يكون الرجل أفضل من المرأة مطلقًا.» فبهذه العبارة قد ذكَّرتني عبارة أخرى، وهي أن رجلًا سأل عن عدد الأنبياء، فبدأ بعدهم فقال: سيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا هارون وسيدنا فرعون. فقيل له: إن فرعون ليس بنبي، وإنما هو رجل كافر. فقال: أكان هو راضيًا بالنبوة ولو رضي بها لم يمانعه أحد، وإنما كان مرتقيًا عرش الألوهية. وكذلك أنت يا أبو المحاسن، هل أنت راضٍ بالمساواة بين المرأة والرجل، حتى إنك ترضى بأفضليتها، وها نحن نطلب من عظمتك المساواة فلم نقدر على الاستحصال؛ لأنك قلت: «وإما أن تكون بعض أفراد المرأة والرجل أفضل من بعض، فأما الأول — يعني بذلك «أفضلية الرجل» — فظاهر الوضوح لما بيَّنَّاه، وأما الثاني فمحال لأنه يقتضي تفضيل عامة النساء على الرجال، ومن الرجال الأنبياء … إلخ.» فأقول: يا أخي — ولا مؤاخذة — إن الذي بيَّنته غير كافٍ لإثبات حجتك، وقد أبديته لك بما كلفتني وألزمتني من الجواب؛ لأنك أثبت ذلك على أساس غير متين كالباني على الهواء، أو الكاتب على صفحات الماء، وأما كون الرجال منهم الأنبياء، نعم هذا شيء معلوم، ولكن أفضل من بعض؛ فقد سبق أن أخبرتك في الأعداد السابقة أن من الجنسين الطيب والخبيث، ولولا ذلك ما عُرف الفضلوَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وليس المقصود من هذه المناظرة بخصوص طائفة من النساء أو الرجال، لا بل عن عموم الجنسين، ولو أردنا التخصيص لاحترنا في التعداد ولملأنا الصحف ولم نبلغ المراد، ولكن يمكن أن يقام الشاهد بأحد أفراد كل الجنسين، فلا مانع كما استشهدت بسيدنا أيوب وعثمان وغيره، وهكذا فيهما من الخبيث، ولكل معدن صدئ من ذاته، وأما من جهة إعطائك الحق لي على تفضيل البعض من الجنسين فهذا بالرغم؛ لأن منا مريم وفاطمة وخديجة وآسية وسارة وهاجر وامرأة فرعون وغيرهن من النساء الفاضلات، وإذا نجب شخص واحد من الجنس، فلا يجوز إسقاطه كما كانت قبائل العرب إذا اشتُهر أحدها بشيء من الفضل انتسبت له كل القبيلة؛ فبَنُو طيئ اشتُهرت بالكرم منذ ظهر فيها حاتم، وبنو وائل اشتُهرت بالفصاحة والخطابة بظهور سحبان، وبنو ثقيف اشتُهرت بالظلم كالحجاج، وهكذا إذا ظهر شاعر في قبيلة قالوا بسبب بني فلان أشهر العرب، ولكن هذه القبائل لا تخلو ممن تكون خصاله مضادة لهذه الشهرة، كما أن قريشًا فضت محمدًا وفيهم أبو جهل وغيره من كفار قريش، فإذا عددنا — ونحن في عصرنا هذا — الطيب والخبيث من الجنسين لوجدناه يعادل بعضه البعض، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا حُرمنا من المساواة، ونحن نصف العالم الإنساني علينا القسم الأكبر من إدارته، أثابك الله يا أبو المحاسن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤