الرسالة التاسعة والأربعون

وكتبت حضرتها رسالة في العدد ١٣٤٧ من جريدة المؤيد الصادرة بتاريخ ٧ صفر سنة ١٣١٢، تخص بها الجامعة الإسلامية على إغاثة المصابين بالزلازل في الأستانة، وها هي كما قالت:

مصاب عظيم الصدع في النفس هائل

مصاب عظيم وكرب جسيم بدَّد الأفراح، وجدد الأتراح، وهيج الأشجان، وولَّد في النفوس الأحزان. لقد كنا بالأمس نندب مصاب إخواننا الجزائريين، ونأسف على نكبة اليونانيين، فكيف بنا الآن، وقد برحت الصدمة القوية في قلب جسم العالم الإسلامي بسبب هذا الحادث المهول الذي وقع في دار الخلافة العظمى، وفتكت به أيدي الزلازل في تلك النوادي الفاخرة والضواحي الناضرة، منبع فخار العالم الشرقي عمومًا، والإسلامي خصوصًا، ولو كان هذا الخطب فعَله عدو من البشر لتزاحمت إلى تنكيله الجامعة الشرقية — فضلًا عن العالم الإسلامي — مضحية بالنفائس تحت أقدام مليكها الأعظم وخقانها الأفخم، مفضلة على البقاء شرب كأس الحتوف، ولكنه قضاء الله المبرم الذي لا راد له إلا بأمره، وقد فرض علينا معاضدة بعضنا بعضًا بقدر ما نستطيع، وعلى موجب الإمكان.

فهبوا يا رجال الشرق وبناته وإلى المصريين أنادي، فتدرعوا بدرع النخوة الشرقية، وتسربلوا بالشهامة العربية؛ فقد أخذتني واللهِ الغَيرة الإسلامية حينما علمت بما فعلته رجال ونساء أوروبا من إغاثة إخوانكم، ونجدة دار عزكم وحديقة فخركم، وأريد بذلك أن أذكركم بما فرضه الله عليكم من هذه الإعانة التي كان الواجب عليكم أن لا يسبقكم إليها أحد، ولكن سبق السيف العذل فيها، وبادروا إلى أداء ما فُرض عليكم من قِبل الله والإنسانية، واسترجعوا ما سبق، واستدركوا ما فات.

وأنتن يا نساء الشرق عمومًا، والمصريات خصوصًا، تقدَّمن إلى هذا الفضل، لا أقول تصدَّقن بل أقول بادرن إلى عمل ما يجب عليكن من تأليف الجمعيات، وجمع المال، وبذل النفائس لإنقاذ تلك النفوس وإقامة هاتيكة المعالم العالية، فلا يأخذكن التواني والكسل في ذلك الفضل العظيم والفرض الواجب.

وانظرن من خلال ضباب الحجاب إلى سناء ما فعله أهل باريس يوم خيَّم المصاب على دار الخلافة العظمى.

ليت شعري ماذا ينفعكن، بل ماذا ينفعكم كنز الدنيا، وقد ابتلعت الأرض ما كان لإخوانكم وأخواتكم من أموال وذخائر ونفائس وحلي وجواهر كريمة ثمينة، وأنفس عزيزة! فماذا كنتم تفعلون أيها المتغافلون لو كان — لا قدر الله ذلك — حدث فيكم هذا الأمر؟! ألم تكن الأستانة العلية أول من يسعى إلى انتشالكم من مخالب المنون؟! ألم يكن مولانا الخليفة الأعظم هو أول مغيث لكم كالأب الشفوق الحنون؟! فكم أغاث من أمم! وكم فعل من خير! وكم أنفق من ماله الخاص على عمارة البلاد ومنافع العباد! فاقتبسوا يا رجال الشرق من نور مكارم أخلاق مليككم العظيم، واعملوا على مرضاته بإغاثة بعضكم بعضًا كالوالد البر الرحيم الذي يرى من أولاده البر، والشفقة على بعضهم، فينظر إليهم مبتسمًا مفتخرًا مباهيًا بها العالم أجمع.

فبذلك تطيب لهم الحياة بما ينالون من حسن رضائه، وتعطُّفاته الأبوية، فما لي أراكم الآن عن هذه النعمة غافلين، وفي غاية الخمول ترتعون، وتناسيتم هذا الخطب الجلل، وأنتم تسمعون ضجيج الغرب، وصفقاته تأسفًا وحزنًا على مصابكم، وما لي أراكم صم الآذان عن سماع صياح المخدرات وعويل الأطفال وأنين الشيوخ وندب الشبان، وقد كنت أسمع أن في بلادنا جمعيات خيرية، فليت شعري ما فعل الدهر بها، وأين هي الآن، وكم جمعت وأرسلت إلى دار السعادة؟! فإني لم أرَ على وجنات الصحف ما بيض وجوهها من أعمال جمعياتنا وهمم رجالنا وشفقات نسائنا الفاضلات ذوات الشفقة والحُنُوِّ، لعمري ماذا يضركن أيتها السيدات المصونات لو خففتن من الأزياء، وقلَّلتن من أصراف التبرج مدة يسيرة من الزمان، وعملتن على مساعدة أخواتكن وإخوانكن الذين أصيبوا بمصاب تصدَّع منه قلب العالم الغربي عمومًا! فعجبي منكن كيف تجدن لذة الحياة من غير أن تعملن عملًا يمدحكن عليه الزمان والمكان، ويخلد لكن الذكر الجميل على مر الأزمان، فهبوا من رقادكم أيها النائمون لتأخذكم على أبناء دينكم الغَيرة الوطنية، والحمية الجنسية، والنهضة الأدبية حتى يكون لكم ما كان لآبائكم من المجد، وتخلدوا لكم الذكر الجميل والسيرة الحسنة في تاريخ حياتكم.

وكتبت إلى بعض محرري الجرائد منتقدة على رأي أبداه في جريدته، وأرسلته تحت إمضاء «درة المشرق» وهو: حضرة الأديب الفاضل صاحب جريدة الغراء، قد ذكرتم في العدد السابع من جريدتكم الغراء تحت عنوان باب العلم والتاريخ أنه تواردت عليكم رسائل من أفاضل العلماء، فوجدتم بعضها غير موافق مشرب الجريدة، والبعض الآخر مطول، والبعض مبتور؛ ولذلك شرطتم الشروط الآتية:
  • أولًا: أنكم لا تدرجون إلا ما يوافق مشروب الجريدة.
  • ثانيًا: أنكم تفضلون ما قلَّ ودلَّ.
  • ثالثًا: إذا كان الموضوع يستدعي للتطويل يرسل مرة واحدة.

فأقول في الأولى: إنه يجب على الجريدة أن توافق مشرب الأمة؛ لأن محررها شخص واحد، وفكرة واحدة، والآراء والأفكار تختلف باختلاف الطبائع؛ فيلزم اختلاف المواضيع أيضًا حتى تحلوَ للجاني من أثمارها الشهية، ولا يمل المطَّلع عليها من موضوع واحد.

وأما الثانية فلكم فيها الحق، ولكن قلَّ من يوجد بهذه الصفة؛ لأن الكُتَّاب على ثلاثة أنواع؛ النوع الأول منها وهو أن الكاتب إذا قبض على عنان القلم تدافقت عليه جداول البلاغة حتى يأتيَ بما يملأ معه حدائق الطروس؛ فيطول الكلام، ويستوجب تأخيره إلى جملة أعداد من الجريدة، وذلك لو شق لنفوس القراء، إذ ينتظرون ورود ذاك المنهل العذب.

ومنهم من إذا أراد أن يكتب جملة غلب على ظنه أن القراء لا يفهمون ما كتب؛ فيريد أن يجعل للقارئ زيادة إيضاح، فيحصل التكرار، وتطول العبارة أو تقل المزية بهذا السبب، وهذه لكم الحق في رفضها لئلا تشغل قسمًا من الجريدة بدون طائل. ومنهم من لو عزم على كتابة شيء جمع الموضوع في فكرة، واقتطف منه ثمار المعنى، وأخرج منه الخلاصة، واستعمل الإيجاز في العبارة فيأتي كسلاسل الذهب، أو الدر المنتظم تتلألأ من خلال الأسطر ضياء در معانيها، فتأتي بما يقل ويدل كما ذكرتم، ولكن فضل ذلك لا يعود على الجريدة بشيء سوى لذة القارئ بما نقلته من وجيز العبارة، والفضل كله للكاتب فقط، كما أن الركاكة في الكتابة لا يتصل عارها إلا بالكاتب ما دامت تحت اسمه، والاستبداد بالرأي ينفِّر القلوب كما أن الامتثال يجلب المودة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤