أنصار القديم والمجددون
لفت نظري منذ أيام بعض الأصدقاء من العلماء والمتأدبين إلى كتاب «في الشعر الجاهلي»، تأليف «الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية»، وسبق أن قرأت نُبَذًا مما نشرته الصحف ردًّا ونقدًا على هذا الكتاب، فحسبت من تلك القراءة أنَّ محور البحث ديني محض؛ ولذا قامت قيامة المشايخ الفضلاء الذين يسمونهم أنصار القديم، ونحن لا نكره القديم إطلاقًا ولا نحب الجديد إطلاقًا، إنما نحب منهما ما يُحَب ويُمدَح، ونبغض ما يُبغَض ويُذَم. أما في العلم والأدب خاصة فلا نرجع إلى أقوال القدماء إلا من حيث أنها مراجع، تقوم لدينا الأدلة على صحة إسنادها إليهم، ولا نأخذ بالجديد إلا إذا كان موافقًا للعقل والعلم الصحيح والمنفعة العامة. فلما وقعت لي نسخة من كتاب «في الشعر الجاهلي»، استكشفت أنَّ أصحاب الردود والانتقاد جعلوني أظن البحث دينيًّا محضًا فانصرفت عنه، ثم وجدت هذا الكتاب شاملًا مباحث تاريخية وأدبية وعلمية، وأنَّ المسائل الدينية وردت في هذا الكتاب عَرَضًا. ولما كان البحث في مشتملات الكتاب نافعًا لذيذًا اكترثت له، وجعلت له الشأن الذي يستحقه، وعلقت عليه في أثناء مطالعته بحواشٍ ومراجعات في نطاق البحث العلمي، وأعتقد أنَّ المؤلف أول المحبذين للمناقشة العلمية البريئة.
وما نحن إلا من أتباع الفكر الحر في «الأبحاث العلمية» وأنصاره؛ لأن ما يصفه العلماء اليوم بالفكر الحر إنما هو البحث القائم على حسن النظر ودقة الاستنتاج، وهو أساس العلوم والفنون في المدنية الحديثة وسر تقدمها، ونحن من القائلين بوجوب حرية الفكر لعلومنا وآدابنا، ومن العاملين على إيجادها وإيقاظ جذوتها على شريطة أن تكون وليدة الصواب والحق، من حيث المعلومات والمباحث والمقدمات والنتائج التي تبدأ بها وتنتهي إليها.
والطريقة التي نريد أن نسلكها في بحث هذا الكتاب انتقادية علمية حديثة، إذ بدونها لا يثمر البحث ثمرًا صالحًا. نُقدِم على هذا البحث بدون فكرة سابقة مقيدة لحرية الرأي والقول؛ لأن العقل إذا كان مقيدًا بتأييد رأي سابق، لا يخطو إلى الأمام خطوة، ولا يخرج للعالم عملًا خالصًا من شوائب التعصب. نقصد بهذا البحث النقدي إلى درس الكتاب وعناصره المكونة له والمصادر التي استقى المؤلف منها درسًا مبنيًّا على العلم والأدب واللغة، ثم نحكم حكمًا مدعمًا بالأدلة والحجج أقرب ما يكون إلى الصواب والعدل.
وإنَّ الذي دعانا إلى التقدم إلى هذا العمل الشاق على الرغم من ضيق الوقت وكثرة المشاغل وانصراف النفس وضجرها، إنما هو خدمة العلم والعمل على مشاركة المؤلفين في جهودهم بما لهذه الأمة من الحقوق في عنقنا، سيما أنَّ المؤلف ينتمي إلى فكرة إصلاح عظيمة ننتمي إليها أيضًا، وهي الاستنارة والاسترشاد بآراء المغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وحكمته، فقد كان مَعينًا لا ينضب للأبحاث النافعة الجديدة، بل كان المحرك الأول لتيار التجديد النافع وعلماء الشرق يعلمون أنَّ ميراث الأستاذ الإمام عظيم جليل، وأنَّ لكلٍّ من أتباعه وتلاميذه نصيبًا، وأنَّ المحافظة على ذلك الميراث المبارك واجبة حتى يصل إلى أيدي أبنائنا وأحفادنا سليمًا غير عليل، كاملًا غير منقوص، جميلًا غير مشوَّه، طاهرًا غير ملوث. وقد كان — رحمه الله — على رأس كل جديد ما دام قرين الصحة والنفع للأمة والوطن. وكذلك كان يرد سهم كل كائد للمدنية الشرقية إلى نحره، وكان لدى البحث العلمي حر الفكر في اعتدال محبًّا للإصلاح في صدق نظر وكياسة، وكان في مبادئه التي سمعناها من فمه وفيما دونه بقلمه البليغ الرشيق لا يتمسك إلا بما يعلم أنه حق وفيه نفع وتهذيب للسامع والقارئ، فما ذم الأسلاف لمجرد كونهم أسلافًا، ولا امتدح الأخلاف لكونهم أخلافًا.
وكان يزن الآراء والأشياء والرجال بميزان الحكمة والاعتدال، ويقدر ما يزنه حق قدره بدون تعصب، وكان مثال التسامح والعفة والكرامة سليم القلب طاهر اليد شريف القول لا يغضب من لومه ملوم، ولا ينكر فضله ألد الخصوم.
ومما يشرح صدرنا ويسر نفسنا في هذا المقام أنَّ صاحب الفضيلة الأستاذ مصطفى عبد الرازق شمَّر عن ساعد الجد، فتناول رسالة التوحيد فنقلها من العربية إلى الفرنسوية لينشر آراء المغفور له الأستاذ الإمام ويذيع فضله، وحبذا لو حذا كل عالم وأديب حذو هذا التلميذ البار بذكرى أستاذه العامل على إذاعة فضله والإشادة بذكره!
وعلى هذه المبادئ الطيبة التي تلقيناها عن ذلك المصلح العظيم نبدأ بحثنا في كتاب الشعر الجاهلي، ونرجو أن يكون لدى الأنصار والأضداد من روح التسامح والتجرد عن الهوى والتمسك بالحق ما يجعل لهذا المبحث ثمرة نافعة، فيمسي هذا الضعيف جديرًا بشرف الانتساب إلى ذلك الأستاذ العظيم. وقد اتبعنا شروط علم الانتقاد الحق، فأقصينا ذاتنا على قدر الطاقة عن ميولنا وأهوائنا لدى قراءة الشعر الجاهلي والكتابة عنه فتفهمناه فهمًا صحيحًا، بل حاولنا في جملة مواضع أن نشعر بالعطف نحو صاحبه، بعد أن تخلينا عن الشغف بما نحب، والنفور مما نبغض، ولم نُسلِّم قياد نفسنا لذوقنا الخاص؛ لمنافاة ذلك لمبدأ النقد العلمي الصحيح، وتجردنا أيضًا عن المؤثرات المحيطة بهذا البحث، وما يهيج من العواطف الموروثة والمكتسبة، ولم نستشر إلا عاطفة الإخلاص في العمل والصدق في القول مهتدين بروح التسامح والاعتدال.