أين تُلتَمس مرآة الحياة الجاهلية؟
لما شرعت سَبْرَ غَوْر هذا الكتاب رأيت الفصل الثالث منه قد أدركه ضعف التأليف وخطأ الوضع، ولا أحسب أنَّ ذلك حيلة مصطنعة من المؤلف يرمي بها إلى غاية خفية، فإن مدار هذا الفصل على أنَّ مرآة الحياة الجاهلية لا تُلتَمس في الشعر الجاهلي، وبعبارة أقل إبهامًا من عبارة المؤلف: إنَّ الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب الذين نطقوا به، وهذه فكرة لعمرك عجيبة لا ترتكز على علم عميق ولا عقل منطقي، إنما هي أثر من حب المخالفة العزيز على قلب المؤلف.
وغني عن البيان أنَّ المؤلف كان فيما سلف من الكتاب أنكر الشعر الجاهلي بتاتًا، وقال إنه ليس من الجاهلية في شيء، وإنه منتحل مختلق بعد ظهور الإسلام، فقوله الآن إنَّ الشعر الجاهلي لا يمثل حياة الجاهلية دليل على التناقض وعدم النظر في العواقب؛ لأن في ذلك القول السلبي تسليمًا بوجود الشعر الجاهلي، ولو أنه سار على سنن العلم الصحيح في التصنيف والتبويب لدعَّم هذه النظرية الجديدة بما يؤيدها من الأدلة والشواهد التاريخية واللغوية والعلمية؛ لأن إنكار الشعر الجاهلي في ذاته فرض تاريخي يجب إظهاره بالعلم والمنطق، حتى يبرز من حيز الفروض إلى حظيرة الحقائق، ولا يجمل مطلقًا بالمؤلف الذي اصطنع منهجًا علميًّا أن يتبع فرضًا خطيرًا في منطوقه بفرض آخر لا يقل عنه خطورة، لا سيما وأنه ترك الفرض الأول عريان لا يستر عيبه دليل ولا برهان غير قول المؤلف نفسه أنَّ هذا معتقده، وكان جديرًا بالمؤلف عُقيب القول بانتحال الشعر الجاهلي واختلاقه أن يرفع الستار عن أسباب اقتناعه ووسائل تدليله؛ ليذلل لنا — نحن القراء الأبرياء — عقبة الانتقال من العقيدة القديمة في الشعر الجاهلي إلى العلم الجديد الذي يريد المؤلف كشفه لنا، أنت تقول إنَّ الشعر الجاهلي عدم لا وجود له، ثم تعقب هذا القول بأن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الجاهلية، ولم تقم على إحدى النظريتين دليلًا مقنعًا، فكيف تريد بنا أن نصدقك ونتبعك. إننا — أيها المؤلف — لا نقدر أن نتغذى بالوهم، ونفضل أن نبقى طول عمرنا جائعين، وقد مضى الزمان الذي كان الناس يعيشون فيه في مصر بدون عقل منطقي، ولا نظر في حقائق الأمور. قال المؤلف في ص١٥: «إني لا أنكر الحياة الجاهلية، وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي، فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية، فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير؛ لأني لا أثق بما يُنسب إليهم.» فالحمد لله كثيرًا على أنَّ المؤلف لم ينكر الحياة الجاهلية كما أنكر الشعر الجاهلي، وكان — لا ريب — يستطيع ذلك؛ لأن مثله قدير وجدير أن يسقط الأمة العربية من حساب الزمان! ويمحو آية وجودها من سجل الدهور بقطرة من يراعه الفياض! وحسبك أنه يشك فيما كان الناس يرونه يقينًا، وقد يجحد ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه! فهذا المؤلف يرفض الاعتقاد بالشعر الجاهلي، ثم يعود فيستمد منه رأيًا خارقًا. وعند رفض الاعتقاد بالشعر الجاهلي ترك نظرية الإنكار بغير برهان؛ لأنه لم يكن تخفى عليه صعوبة الإثبات، فأقوال المؤلف لا تخرج عن تبدل الخيال بالخيال، بل هي مجموع افتراضات، والافتراضات في رأي رينان تتجدد دائمًا، ولو وقع هذا الكتاب لأحد المستشرقين لرأى فيه صورة من صور جهالتنا، فليس لهذا الكتاب ثمرة سوى إعطائنا نظارات مكبرة، يتسع بها نظرنا إلى سعة الجهل الهائل المخيم على أذهان الشرق الأدنى، ولم يجلب علينا هذا سوى كون المؤلف من طبعه محبًّا للمعارضة.
هل أنا مفتقر إلى القول بأن النظرية التي قذف بها المؤلف فألفيناها منبوذة بالعراء مهملة مقمحة منظرة، وهو لا يبالي بها، إنما هي نظرية فاسدة لأنها تخالف جميع قواعد المعلوم والمفهوم، فحياة الأمم يجب — بلا تردد — أن تُلتَمس في شر شعرائها؛ لأن الشعر أصدق مرآة للحياة، ولأن الشعراء يمثلون بمنظومهم حياة شعوبهم، وينبغي الاعتماد على الشعر في استخراج الصورة الاجتماعية والأدبية والمدنية للأمة، ولأن الشعر وحده يدل على حياة الأمة التي قيل فيها وصدر عنها، ويصف لنا أخلاقها وآدابها وقوميتها، وهو أهم الوسائل التي نستطيع بها أن نتصور حياة الأمم تصورًا واضحًا قويًّا، وهو يمثل الحياة العقلية والدينية والوجدانية، ولم نعهد أفصح من الشعر مقالًا ولا أفسح مجالًا ولا أوفر ديوانًا، ولا أوضح بيانًا. والشعر العربي هو الذي يظهر الواقع بجميع محاسنه ومكارهه؛ لأن مزية اللغة العربية بعد السهولة والإبانة أنها أثمرت أحسن شماريخها في العصر الجاهلي، وكانت يومئذ أوفر مواد وأكثر أنواعًا في التعبير وأسلس قيادًا تحت اقتضاء تفنن الموضوعات.