مرآة الحياة الأوروبية قديمًا وحديثًا تلتمس في شعرها
وإليك مثلًا على صحة قولنا بأن الشعر يمثل حياة الأمة، وهو الملحمة العظمى التي وضعها الشاعر مليسجينيس الملقب بهوميروس على أسلوب بسيط، وبناها على موضوع واحد وهو «غيظ آشيل»، ونهج بها نهجًا متناسقًا قص في أثنائه حوادث متسلسلة لا تتشعب وقائعها بتعدد الأشخاص مهما كثروا أو كثرت.
وقد انقطع العالم الفرنسوي ميشيل بريال (١٨٣٢–١٩١٥) اللغوي المحقق لكشف تاريخ القصائد الهوميرية، وله تحقيقات جليلة في أصول اللغات وفي علم الأساطير اليونانية أعانته في مباحثه. وقد مضى على نظم الإلياذة ثلاثة آلاف عام، وهي لا تزال في المقام الأول بين نتائج القرائح، ولا بدَّ من أن تكون ثمة أسباب ثابتة اقتضت هذا الخلود، فإن هوميروس إنما نقر أوتار الأفئدة فأثارها، ونفخ في بوق الأرواح فأطارها، وسبر أعماق النفس في سذاجتها، وتحرى الفطرة في بساطتها، وهاج العواطف والشعائر، وتكلم بجلاء لا تشوبه مسحة التكلف، ومثل تمثيلًا ناطقًا، وفصَّل تفصيلًا صادقًا، وإذا أضفنا إلى ذلك بلاغة الشعر، وتناسق النظم، ودقة السبك، ورقة المعنى والسهولة والانسجام، ذهبت عنك غرابة ذلك الخلود الذي صحب الإلياذة وهوميروس، كما صحب المعلقات وأصحابها على الرغم من مؤلف الشعر الجاهلي. قال العالم الشهير جيزو في كتابه «درس في التاريخ الحديث» في الفصل السابع، مجلد أول ص٢٨٥: «وأنَّ ما يرى في شعر هوميروس من مزج الخير بالشر والضعف بالقوة واتحاد الأفكار والمشاعر بمظاهر مختلفة وتنويع الأفكار والأقوال وبسط أحوال الطبيعة والأقدار على أنماط متباينة، كل ذلك يبث الميول الشعرية بما لا يماثله مثيل؛ لأن فيه أس كل أساس وحقيقة الإنسان والعالم.» وقد ترجم الإلياذة إلى العربية نظمًا الطيب الذكر العلامة سليمان أفندي البستاني، ولها مزية تاريخية كبرى، ولقد كان لكل أمة في كل جيل وعهد شعراء فُتنت بهم ومجدتهم؛ لأنهم صوَّروا حياتها وخلَّدوا ذكرها ونطقوا بلسانها، وهذا دانتي اليغيري أكبر شعراء الطليان (١٢٦٥–١٣٢١)، وله دواوين ومنظومات جمة أشهرها «الكوميديا الربانية»، جمع فيها المعارف والمذاهب التي كانت في عصره، فهل يستبيح مؤلف إيطالي في أي وقت أن يدعي بأن شعر دانتي لا يمثل حياة قومه في زمانه؟ وهذا لوكريس شاعر اللاتين الشهير وصاحب ديوان «أمور الطبيعة»، فهل ينكر عالم أو ناقد أنَّ تلك الكتب الستة التي يتألف منها ديوان لوكريس هي صورة قوية واضحة للحياة العقلية والدينية في وقته (٩٨ق.م–٥٨ق.م)، فقد كان الشاعر المذكور من دعاة الفلسفة المادية، فبث هذا المشرب بفصاحة خارقة للعادة، وقد استبان النقاد من ديوانه أنه كان يعتقد بالصانع، وبأنه قوة مستورة لا يدرك كنهها العقل، وقد حمل على الوثنية والخرافات والتعصب حملة شديدة، وذهب بعضهم إلى أنه جاحد منكر لوجود الواجب الوجود. ألا يمثل هذا الاختلاف في الرأي بين العلماء والنقاد في عقيدة الشاعر لوكريس حقيقة الشكوك الدينية التي كانت تحيط بأذهان الرومان في أواخر دولتهم، وقبيل ظهور شريعة سيدنا يسوع المسيح؟
هذا ولا يعجبن أحد لضرب الأمثال بالشعر اليوناني واللاتيني، فإن مؤلف الشعر الجاهلي تكلَّم عن اللغتين الدورية واليونية وشعرهما، وعن اليونان والرومان واللاتين وهوميروس وتيتوس ليفوس وغيرهما في الصحف ٣٦ و٤٥ و٤٦ من كتابه، ويصح لنا — بل يجب علينا — أن نضربَ الأمثال من الشعر القديم والحديث، فإن غوته أكبر شاعر ألماني ومن أعظم شعراء الدنيا (١٧٤٩–١٨٣٢) تدفق بحر قريحته حوالي الخامسة والعشرين من عمره، فأخرج أبدع ما كتبه ألماني — أو أوروبي — من نَظْم ونثر، فدوى ذكره في كل البلاد، وتناقلت كتبه الناشئة من قاصٍ ودانٍ، ولما وضع قصة ورتر بلغ من تأثيره في شبان عصره أنَّ منهم من انتحر بسببها، وكان غوته يراقب مجرى الحركة الفكرية في عصره، ويجتهد في ترقية الأدب الألماني ببث روح النقد والتحقيق، ونشر محاسن آداب الأمم الأخرى بين الألمان، وقد قضى حياته وهو مُجدٌّ في زيادة الاطلاع واستيراء أنوار الحقائق، واستقصاء أحوال البشر والتأليف بينهم وبين طبائع الوجود، وقد أودع مؤلفاته المنظومة والمنثورة صورة صادقة لحياة قومه والأقوام المعاصرة المجاور منها وغير المجاور، فوضع الكتب الآتية: «جوبتز، ورتر فوست، ميستر، ديوان الشرق والغرب»، قال إيمرسون في كتاب «الرجال الذين يمثلون شعوبهم» تأييدًا لرأينا: «إنَّ غوته قد كشف لنا عن الواقع من شئون هذه الدنيا، غير أنه لم يظهر لنا المثل الأعلى»، فرد عليه كارليل في بحثه عن غوته «بأنَّ الواقع إذا حسنت طريقة النظر إليه والإمعان فيه، فهو المثل الأعلى بعينه. إنَّ الواقع — وهو الأمر الموجود صدقًا وحقًّا — لا يقتصر على الحاضر وحده، بل يشمل الماضي والمستقبل أيضًا.» ص٢٨٤، موسوعات نوتال الإنجليزية. وهذا الشاعر العظيم بمؤلفاته المجيدة الجليلة، وشغفه بجمال الطبيعة والتاريخ الطبيعي والتشريح، وفهمه الثورة الفرنسوية وما حدث بها من الانقلاب في أوروبا؛ قد مَثَّل لنا حياة العالم في عصره تمثيلًا صحيحًا، وها نحن قد ضربنا الأمثال لمؤلف الشعر الجاهلي، واستقينا العلم من منابعه، وشبهنا الشعر الجاهلي بالإلياذة التي قال عنها رينان ذلك الفيلسوف الذي يخضع المؤلف لحكمه: «إذا مر على عهدنا ألف عام، وانقرضت جميع التآليف التي بين أيدينا، لم يبقَ منها إلا كتاب واحد وهو ديوان هوميروس.» وقال شيلر الشاعر الثاني في المقام بالنسبة لغوته: «دعوا الأساتذة يُكثروا من تلقين شعر هوميروس، فإنَّ الأمة التي يرسخ في ذهنها وصف صبا الأمم على ما يبسطه هوميروس لا يسارع إليها الهرم.»
فهل يجوز لمؤلف الشعر الجاهلي أو غير الجاهلي أن يدَّعي أنَّ الحياة القومية لا تُلتَمس في الشعر القومي، وأنَّ آثار شكسبير ليس فيها سيما حياة بلاده وتاريخها وماضيها وحاضرها لوقته بل ومستقبلها، وهو في شعره أحد فتوح إنجلترا العظيمة، وقد تمتع الإنجليز بفصاحته كما تمتعوا بممالكهم التي لا تغرب عنها الشمس، حتى قال أحد أدبائهم إنَّ شكسبير أعز علينا من الهند؛ لأنه فاز على الأولين والآخرين من قومه في الإحاطة بجميع أهواء النفوس، فأسلست له قيادها، ووطأت له مهادها، ولم يدع معنى من المعاني المتخلجة في الرءوس، ولا شهوة من الشهوات المتبذبذة في النفوس إلا أوسعها إبانةً ووصفًا، وبلغ منها الأمد وأوفى من غزل وحماسة ورقة وجزالة ولطف وسخط وطرب وحزن وجد وهزل وحكمة وسخف ونفور وعطف، فكان في كل ذلك «البحر الذي لا ينزح والغاية التي لا تدرك»، كما وصفه الأمير شكيب أرسلان، فلماذا يريد مؤلف الشعر الجاهلي أن يحرمنا من ذلك الميراث الذي خلفه لنا أجدادنا وتلك الأم العربية البرة؟