أمثلة من الشعراء المحدثين في الغرب
أثبتنا في الفصل السابق أنَّ حياة الأمم تلتمس صورتها في شعر شعرائها، بضرب الأمثال من الأمم الغربية القديمة والحديثة، ولا يفوتنا أن نُذكِّر المؤلف ببعض الشعراء الذين تركوا شعرهم وفيه صورة زمانهم ووصف قومهم غير المفلقين الذين ذكرناهم، فمن هؤلاء سكارون الفرنسي، وكان شاعرًا ثائرًا خفيف الروح، غلبت عليه النكتة وذكر المثالب، وقضى حياته عليلًا يشكو الدهر، وأوصى أن يُكْتَب على قبره بعد موته «إنه ذاق الموت ألف مرة قبل أن مات، وإنَّ ليلة وفاته هي الأولى التي عرف فيها طعم المنام.» وأندريه شينيه وفي شعره الباقي وصف الثورة الفرنسوية؛ لأنه انضم في الثورة إلى رجال الانقلاب، فلما تجاوزوا الحد في أعمالهم انقلب عليهم فقتلوه شابًّا، كما مات طرفة بن العبد في مقتبل العمر، وكانت له أخت كأخت طرفة ولكنها لم ترثِهِ. ولامارتين أحد أفذاذ شعراء فرنسا، شاهدة قصائده «جوسلين» و«البحيرة» و«تأملاته الشعرية» بأنها مرآة لحياة قومه في عهده. ورونسار الشهير الذي نظم القصائد الطنانة، وبقي مهجورًا ثلاثة قرون إلى أن جاء سانت بيف وأعاد له حرمته ومكانته، وكان شعره المتين حافلًا بأحوال الحياة في عصره؛ لأنه نشأ في خدمة البلاط الملكي الفرنسوي، وترقى في المملكة حتى صار سفيرًا وواليًا.
وفرانسوا كوبيه وقد أطلقوا عليه اسم شاعر المساكين؛ لأنه أجاد وصف أحوال الطبقة الدنيا، ووقف مواهبه على الدفاع عن الفقراء ومعونتهم، وشعره حافل بمناظر البؤس والشقاء التي جلبتها حالة المدنية الحديثة على فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، وكان هذا الشاعر لم يذق لماظًا من السرور في حياته، وشبَّ على قول القائلين للفقراء: «إنَّ الألم والحرمان والشظف هي أشياء مستحبة، وإنَّ قهر المرء نفسه وحمله إياها على خشن العيش من أفضل الفضائل.» ورأى من جهة أخرى أنَّ القوة الغاشمة تطمع أن تكون وحدها الناطقة بالصدق بحيث أوشكت الحقيقة أن تفقد حق الوجود، فرأى أنَّ السكوت أصبح إثمًا. ولما اشتد ساعده أيقن أنه لا محيد من إقامة الحواجز في وجه هذه القوة القاسرة بإرهاف الأسنة الشعرية فأرهفها، وأعلن على الأغنياء البخلاء حربًا عوانًا.
وما قول المؤلف في فيكتور هيجو أعظم شعراء الفرنسيس في القرن التاسع عشر، وقد كان جامعًا بين عظمة الصور وإسلاس قياد اللغة، وقد أثرت فصاحته في أبناء عصره بحيث لعب دورًا سياسيًّا كبيرًا، ووقف بيانه الهائل على نصرة الحرية، ألم يكن شعره في نابوليون الصغير وأساطير القرون دليلًا على حياة قومه في زمنه؟ بل ما قوله في ديوان «الجزاء» من نظمه، وهو قصائد تاريخية وسياسية وخلقية أبياتها من لهب؟ وألفرد ديفيني شاعر الفضائل والصبر والثبات وعزائم الأمور، ألم يصور لنا بقلمه كما يصور النقاش بريشته حياة النبلاء والجنود في زمنه؟ وهلا قرأ مؤلف الشعر الجاهلي قصيدة «موت الذئب»؟ وجان لافونتين الشاعر الفرنسوي نسيج وحده في نظم القصص المولدة والحكايات الموضوعة على ألسن الحيوان والطير، وفي قصص ما لا ينطبق أحيانًا على المبادئ الأدبية، ولكنها غاية الغايات في بعد الغور ومعظمها أمثال من حوادث أيامه، وهي في مجموعها تمثل حالة الاجتماع في فرنسا في القرن السابع عشر، لا سيما إذا أضفنا إليها كتاب الأخلاق وضع لابرويير وبرانجيه أشهر شعراء فرنسا في الأزجال والأغاني، وقد سارت أهازيجه ومقطوعاته سير أعلى طبقة من الشعر المرقص لموافقتها لأخلاق الشعب ومطابقة محاكاتها للعادات والرسوم والطبيعة، فحدثت للجمهور منها لذة المشاهدة في مرآتها الصقيلة، كما هو حادث في عهدنا هذا للشعب الإنجليزي من مطالعة شعر روديارد كبلنغ وإنشاده والتمثل به لحب الاستعمار وتمجيد السيادة العالية، لا سيما قصيدته التي مطلعها:
وبوالو من أشهر شعراء فرنسا، امتاز بالنقد وهجو البُلداء والثقلاء والمدعين بما ليس فيهم، وشدد الوقيعة بكل مخالف للطبيعة منابذ للعقل القويم والذوق السليم. وهريديا، وتيوفيل جوتيه، وأدمون روستان، وشارل بودلير ناظم «أزهار الشرور»، وبول فيرلين، وأرتور رامبو، وألفرد دي موسيه وديوانه عبارة عن تاريخ فرنسا في زمنه، حتى العواطف لم يهمل جانبها، بل أسهب فيه وأطنب، وترك لنا صورة لوقائع العشق وتطبيق علم النفس على الغرام، وجان ريشبان وهو شاعر ملحد ثائر ومن أوائل مؤسسي «بارناس الجديدة»، والكونتيس دي نوايل، وفرنسيس جام، وفي إيطاليا كاردوتشي، ودانونزيو، وباسكولي. وكل من ذكرنا من هؤلاء الشعراء يمثلون بشعرهم حياة أمتهم في وقتهم، وقد اخترناهم بالتخصيص لما نعهده في دواوينهم متعلقًا بهذا الموضوع.