الفصل الخامس عشر

الشعر الجاهلي مرآة لنفوس قائليه وعقولهم

يدل الشعر الجاهلي في جملته على نفوس ناظميه وحياتهم، ولو أتيح لهذا الديوان المجيد ناقد مثل سانت بيف لأمكنه الوقوف على حقيقة شعراء الجاهلية من قصائدهم. وسنحاول في بعض مواطن هذا البحث سلوك طريقته وتطبيق نظريته على شعراء الجاهلية لنثبت صواب هذا الرأي، وليتبين القارئ انفراد كل شاعر منهم بخواص خلقية وعقلية تبرز شخصيته، فلا يوجد ثمة مانع والحالة هذه من الاستدلال بهذا الشعر على حالة الاجتماع التي كانت محيطة بالشعراء الجاهليين؛ لأنه على الرغم مما يبدو للوهلة الأولى من أنَّ الشعر الجاهلي محصور في النوع الوجداني الشخصي (ليريك)، فإنه في الحقيقة شامل لجميع الأنواع الوصفية والتاريخية والاجتماعية والقصصية، وأنَّ الشعر القصصي هو الذي امتازت به الشعوب الآرية التي وصفها علماء الشعوب «بالهندية الأوروبية»، وكان نصيب الشعوب السامية — ومنهم العرب — قليلًا من الشعر القصصي لأسباب واعتبارات كثيرة بعضها صحيح وبعضها مبالغ فيه.

قال نفر من المستشرقين إنَّ العرب بحكم أصلهم السامي — نسبة إلى سام — لا ينظمون الشعر القصصي الطويل كالإلياذة والأوديسة؛ لأن فطرتهم الأصلية تدعوهم إلى الإيجاز في القول، فيقصد قائلهم إلى الحكمة، فيصوغها في لفظ أو لفظين، وإلى الفكرة الجليلة فيخرجها في بيت أو بيتين، ومعظم الحكم والأمثال وكثير من الأشعار السامية جمل قصار زواجر جوازم، كأنها صلصلة منبه عند الصباح قد حل وقته، وكأن طبيعة السامي أملت عليه أنَّ جمال الشعر يحتم كمال المعنى في بيت، كأن الشعر صورة منظومة من الحكم والأمثال، بل كأن الشعر هو الصورة الموسيقية للحكمة السامية، وما الحكمة والمثل إلا سلاسل من ذهب الشعر المذاب. وقد قال أحد أئمة التاريخ والأدب العربي في باب صناعة الشعر ما نصه: «وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام مستقل عما قبله وبعده، وإذا أُفرِد كان تامًّا في بابه، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر كلامًا آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فنٍّ إلى فنٍّ ومن مقصودٍ إلى مقصودٍ.»

نقول: وليست هذه صفة الشعر القصصي الذي يمتاز بأن المحاكاة فيه لا تكون للأفعال المنسوبة للأشخاص، وإنما تكون للأزمان الواقعة فيها تلك الأفعال، وذلك أنه إنما يحاكي في هذه كيف كانت أحوال المتقدمين مع أحوال المتأخرين، وكيف تُنْقَل الدول والممالك والأيام، ومحاكاة هذا النوع من الوجود قليل في الشعر الجاهلي، ولكن قلَّته دليل وجوده وأفضل من عدمه؛ لأنها دليل على المساواة في المواهب الطبيعية التي تثمر النوع، وأن امتياز الآري بالكمية، وعند ابن رشد في تلخيصه كتاب أرسطو في الشعر أنَّ قلة النوع القصصي في الشعر العربي راجعة لإحدى علتين؛ إما لأن ذلك السبب الذي ذكره أرسطو — من بواعث الشعر القصصي — غير مشترك للأكثر من الأمم، وإما أنه عرض للعرب في هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع وهو أبين، ومن جيد هذا النوع القصصي للعرب قول الأسود بن يعفر:

ماذا أؤمل بعد آل محرَّقٍ
تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق
والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقرةٍ يسيل عليهِمُ
ماء الفرات يجيء من أطواد
جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنهم كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يُلهَى به
يومًا يصير إلى بِلًى ونفاد

وهذه الأبيات رواها ابن رشد نفسه في صلب تلخيصه لكتاب «أرسطو» ص٢٩٤ مقالات علم الأدب لمشاهير العرب ج٢، وقد تكون الصبغة الوجدانية في الشعر الجاهلي غالبة على سواها لما اتصف به العربي من حب الحرية والنزوع إليها والاستقلال بذاته عمن عداه. وقد تدعوه هذه الصفات إلى توجيه معظم همته إلى المبالغة في وصف عواطفه، وتحليل حواسه وشعوره، والتغني بأحوال نفسه وصب أخباره ووقائعه الذاتية في قالب الشعر، فقد كان الشاعر الجاهلي باقيًا بقوة الصراع لا يرى غير نفسه، ولكن هذا لا ينفي أنَّ الشعر الجاهلي أشد ما يكون اتصالًا بحياة القوم وتاريخهم، وأكثر ما يكون تمثيلًا ووصفًا لبيئتهم، بل إنه أصدق مثال لحياة العرب أنفسهم، فأثر تلك البيئة الطبيعية والمحيط الاجتماعي ظاهر في شعورهم بجانب بلاغتهم النادرة، فإنه لم يكن أحد ليطمع في طُرز أبدع من طرز الشعر الجاهلي في دوره، ولا في لغة أنقى من لغته، ولا في ديباجة أطلى وأنفس من ديباجته، وإنَّ هذا الشعر هو الذي حفظ اللغة كما حفظ صورة الحياة وحرس بستانها، ولولاه لتنكرت معالمها وتكدرت مناهلها، ففيه نقاء اللغة وتعديل الأقسام وطلاوة النسج وتوزيع القسط بين المعاني والمباني، وإنه مثل الفصاحة الأعلى لهذه اللغة في زمنه وقبل ظهور الكتاب المنزل على أفصح العرب، ولو لم يكن الشعر الجاهلي صورة للحياة الجاهلية، ما لبث سامعوه مبهوتين مأخوذين بسحره؛ لأن خيال الشاعر الجاهلي امتلأ بما حوله، ولم تتعد أفكاره الجو الذي كان يعيش فيه، فكان إذا وصف أو شبَّه انتحل التشبيه والاستعارة مما يسمع ويرى، وذكره في شعره على سذاجته لانطباعه في الشعر على الإلهام والوحي الفطري، وهذه السذاجة البريئة ظاهرة في نثرهم وشعرهم، وقد عابها رينان في مواطن من كتابه «تاريخ اللغات السامية ومعارضتها»؛ لأن الحقائق المجردة كحسناء البادية لا يعجب بها كل إنسان، ولا تروج في كل سوق، ولا تذوق محاسنها سائر النفوس، لا سيما خلاصة الشعوب الفانية في الحضارة التي تعد أعقاب المدنيات الأوروبية المندثرة. فإن الفن في عرف صانع دقيق وعالم بأسرار الجمال المجلوب مثل رينان يقضي أن يعاني الشاعر أو الناثر في إظهار المعاني المقصودة معاناة جمة، تصحبها الحيرة في سبيل الوصول إلى غرضه، فتحمله تلك الحيرة على التنقيب والتقليب، حتى يبلغ حدَّ الإتقان وغايةَ الإبداع القريب من الكمال.

وهذا الرأي في الفنون لا ينازع فيه رينان، ولكن تطبيقه بأمته في عهده أحرى وأخلق، فقد أطلق الفرنسيس على أنفسهم في أخريات القرن التاسع عشر من حيث الآداب والفنون وصف الزوال والهبوط (ديكادانس) وكفى بشارل بودلير وبول فيرلين دليلًا، قلنا إنَّ تلك السذاجة البريئة أو الحقيقة المكشوفة هي عيب الشعر الجاهلي في نظر بعض النقاد، ولكنها أيضًا مظهر جماله؛ لأن السذاجة الفطرية التي تتجلى فيها طبيعة الإنسان لها حسنها الخاص بها، حسن البساطة والصراحة، وإنَّ لهذا الحسن قيمته وقدره، وهذا الجمال الساذج في الشعر الجاهلي أثر من آثار الوسط والبيئة والجو، وهذا الجمال المستمد من عيشة الصحراء هو روح الشعر الجاهلي روح العذوبة والرشاقة، وهو سر بقاء هذا الشعر وآية خلوده، فكيف ينكر ناقد أو باحث أنَّ الشعر الجاهلي صورة صحيحة للحياة الجاهلية، وسوف نستشهد بأشعار جاهلية صحيحة لا ريب في صدق نسبتها إلى قائليها على النمط الذي ارتضاه مؤلف الشعر الجاهلي، تدل على أنَّ الشاعر نظم في نفسه وفي عيشته، وانتقل من وصف الأفراد إلى وصف الجمهرة والجماعة، ومثَّل ضروب الحياة القومية وحركة العقول، وضرب على كل وتر من أوتار النفس، ولا عجب ولا غرابة، فقد حُصرت بلاغة الجاهلية في شعرها، فكان مظهرًا للبهاء الفطري والفصاحة الرائعة والبيان الساحر والبلاغة الجزلة، ذلك كله إلى جانب الرقة في الإحساس والدقة في التعبير، فقد سُمِّي شاعر العرب شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به سواه، وهذا أصل التسمية على ما رواه ابن رشيق في العمدة ج١ ص٧٤؛ لأن العبقرية ليست العقل وحده، بل هي بخاصة رقة الإحساس (أناتول فرانس)، فصدق من قال إنَّ الشعر ديوان العرب به أخلاقهم وأنسابهم وحروبهم؛ لأنه كان بمثابة السمر في المجالس، والفزعة لدى الطوارئ، والأنَّة عند الألم، والنصح الحسن بين يدي الحيرة، فالشاعر ينطق بالحماسة لاستنهاض الهمم ولم الشعث إذا شنت الغارة وحمي وطيس الحرب. وللعربي سيفه ورمحه وجواده وناقته يسعى بها في طلب الرزق، ويدفع بها عن نفسه، ويذود عن حوضه، وإذا خلا له الجو وصَفَتْ أيامه من الأكدار، أعار جانبًا من نفسه لامرأته وأهله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤