الفصل السادس عشر

حياة العربي في الجاهلية وشعره

كان العربي في الجاهلية يعيش في بحبوحة الجهل والخوف، تساوره بدون انقطاع ألوف من الأخطار، وتنتابه ألوف من الشرور، وهو مجهز للموت منذ ولادته، وميت بأمله قبل أن يموت بجسمه، وما تاريخ العرب في الجاهلية سوى تاريخ قبائل وجماعات قائم بعضهم في وجه بعض، يتناهشون ويتهارشون عائشين بثمن الدموع والدماء.

وكان بعض العرب يرتاحون إلى التقشف وقهر النفس، وبعضهم ألحت بهم الآلام، وأطرحتهم الأرض وجفتهم المسرات، وكانت تلك العواطف والمخاوف الصاحبة الأمينة للحرب؛ لأنه لا توجد أمة غير محاربة إلا الأمة الساكنة الغافلة، فإذا بدأت الأمة تهتف بالحركة والحياة لم تلبث أن تتناول السلاح؛ لذا كان شعر الجاهلية مرآة الوصف لعيشتها في سرورها وحزنها، وأداة التعبير عن عواطف الشاعر الجاهلي في حبه وبغضه، فقد أتقن رمي السهام ونصب الخيام وصوغ الكلام، فإن كان لليونان هوميروس أو أمرش — كما يسميه العرب — الذي نظم الإلياذة ووصف فيها غيظ آشيل وحرب طروادة، فإنَّ لكل شاعر عربي إلياذته الصغرى، وصف فيها حياته وأخلاقه وعشقه وأفراحه وأتراحه وسلمه وحربه وكرمه ووفاءه وحلمه وغضبه. فالشعر الجاهلي لم يخرج عن حدود هذه الحياة الفطرية الجميلة في بساطتها وسذاجتها بما فيها من مكارم الأخلاق وغرائز البداوة، وكان عرب الجاهلية أعظم الشعوب عناية بالشعر؛ لأنه عنصر من عناصر حياتهم، يدلك على ذلك أنَّ العربي كان إذا تحركت نفسه لدقيق أو جليل من الأمور انطلق لسانه باللفظ البليغ والمعنى الجميل دون تكليف أو عناء، فإنَّ حياة ذات إيقاع واحد في أحضان طبيعة جافة جافية لا تتنوع ولا تتلون ألهمت هذا الشعب بنوع من الجمال واحد يصدر عنه دائمًا على وتيرة واحدة، وهو جمال اللفظ لدى النطق بما يساوره ويجول في خاطره، ولم يكن لدى العرب فن آخر من الفنون، فلم يعرفوا التصوير بالألوان ولا صنع التماثيل، فانحصرت مواهبهم الفنية في الفصاحة اللفظية.

نفس صافية وقريحة وقَّادة ولسان فصيح وغريزة مشتعلة وهمة متحفزة، كلها في مظهر واحد وهو البلاغة في القول، فكان من تلك البلاغة الوصف والغزل والحكمة والاستنجاد والاستنهاض والثناء والرثاء، وكما أنَّ الشاعر الإيطالي أو الفرنسي أو الألماني يستمد تصوره من مشاهد وطنه وحياته وعواطفه ومعقولاته بنسبة معينة، تنقص أو تزيد بحسب غزارة مواهبه وسعة إدراكه، كذلك كان الشاعر الجاهلي يستمد الشعر من تلك المصادر على القدر المستطاع، وقد يمتاز الشاعر الجاهلي بشدة استعداده؛ لأن أمته كانت أكثر الأمم تمثيلًا بالشعر، وقد لا نرى أمة أخرى أنتجت ما أنتجته قرائح هذه الأمة، ولعلها أغنى الأمم بشعرائها؛ لأن الشعر كان سجية من سجاياها، وقد وجدت تلك السجية منبتًا خصيبًا في الطبيعة النقية والفطرة السليمة، وما لبثت تلك الزهرة النامية أن أينعت في وسط تلك الحياة التي تحتِّم الدفاع عن النفس والعرض والمال، والتفاخر بالمجد والأحساب وجميل الخصال، والتنافر في الأسحار والأصائل للطعن والضرب والحرب والقتال، على أنَّ عرب الجاهلية لم يخرجوا في حياتهم عن الدائرة التي اختارتها لهم الطبيعة، فلم تقع أعينهم على شيء سوى الصحراء الواسعة، وما تبعثه إلى نفوسهم من العظمة والمهابة والغموض الذي تضل في إدراك كُنهِه العقول، وقد رأى العربي أمامه كل شيء موجبًا للحيرة جالبًا للتأمل، وهو عاجز عن أن يرجح بين هذه الحوادث والرغائب والأهواء التي تعرضها الطبيعة في هذا العالم غير المتناهي. وهذه الحالة بذاتها هي التي أدَّت في زعم رينان بالساميين وفي مقدمتهم العرب إلى أن يعبدوا إلهًا واحدًا.

أما اليونان — وهم أوسع فهمًا في زعمه للألوهية بتصورها في جميع مظاهرها — فقد جعلوا رمزًا للريح التي تهُب، ورمزًا للطير التي تغرد، ورمزًا للسماء المزينة بالكواكب، وآخر للحكمة، ورمزًا للحرب، وآخر للبحر، وهلم جرًّا، وكل شيء ذهلت له عقولهم تصوروا له مثالًا حيًّا وعبدوه. أما العرب خاصة والساميون عامة فلم يتهتكوا في العبادة إلى هذا الحد، بل دعتهم فطرتهم إلى النظر في الأشياء على حقيقتها، وذكرها بأسمائها، ووصفها على طبيعتها، ولهم في عبادة الأصنام حكم آخر سنأتي عليه لدى الكلام على الحياة الدينية في الجاهلية. وعندنا أنَّ رينان لم يُلهَم الصواب في تعليل التوحيد عند الساميين بأنه نتيجة وحدة المناظر في الصحاري والفيافي المتشابهة؛ لأن تلك الوحدة في المناظر كان إلى جانبها غريزة قوية ساعدت على ظهور تلك العقيدة، والدليل على ذلك أنَّ التوحيد لم يظهر في صحراء العرب دون سواها، بل ظهر في بلاد أخرى ليس فيها مناظر واحدة وصحاري قاحلة وفيافٍ مترامية الأطراف، كما أنَّ اختلاف المناظر ثابت لكثير من مساكن الأمم السامية، وإذا صح أنَّ تعدد الآلهة عند اليونان ناشئ عن اختلاف المناظر التي وقعت عليها أبصارهم من برٍّ وبحر وجُزُرٍ وخُلُجٍ مما لا يُحْصَى ولا يُعَدُّ، فإنَّ تعدد الآلهة وُجِدَ في الشرق، وعرفته بعض الشعوب السامية، وإذا كنا قد ذكرنا جميع الدوافع التي أنطقت العربي الجاهلي بالشعر فكانت منه صورة الحياة، فلا ننسى الحب وجمال المرأة، فإنَّ شعراء الجاهلية أدركوا بفطرتهم وفطنتهم، وأحسوا بشوقهم وعشقهم أنَّ سر الكون هو الحب، فهو أساس الفنون والآداب، ولأجله وُجدت الحروب ونيل المجد، وهو الذي زين العالم وجمَّله، فإنَّ الطبيعة في ذاتها لا حسنة ولا قبيحة، وإنما حواس البشر هي التي تخلع عليها الحسن والقبح، وإنَّ المرأة بيدها زمام التصرف في القلوب، وإنَّ الطبيعة قد جعلت لهم الجمال إقطاعًا، ومكنتهم من أن يحلموا ويعشقوا ويهيموا! فنطق شعراؤهم بالغزل والنسيب، وتعجل بعض شعراء الجاهلية أزمانًا سوف تأتي بعد زمانهم، وأسسوا المدرسة الرومانتيك في الشعر، فبسط بعضهم قبل روسو بألف سنة أمامنا عيوبه الشخصية، وطفق يحدثنا بنفسه عن نفسه وعن أسرار حياته وعشقه، ويفضي إلينا بعجره وبجره، وهذا طرفة بن العبد الذي يؤمن مؤلف الشعر الجاهلي بوجوده وصحة نسبة شعره، يقول في معلقته الشهيرة:

وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأُفرِدت إفراد البعير المُعبَّد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
ولا أهل هذاك الطِّراف الممدد
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي؟
فإن كنتَ لا تسطِيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربَةٍ
كُميتٍ متى ما تُعلَ بالماء تُزبِدِ
وكَرِّي إذا نادى المضاف مُحنَّبًا
كسِيدِ الغضا نبَّهته المتورد
وتقصير يوم الدَّجن والدَّجنُ مُعجِبٌ
ببهكَنَةٍ تحت الخِبَاء المُعمَّدِ

وقد قال مؤلف الشعر الجاهلي تعليقًا على هذه الأبيات صحيفة ١٧٧ ما نصه: «في الشعر شخصية بارزة قوية، لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة، وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بينة الحزن والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال (!) هذه الشخصية تمثل رجلًا فكَّر والتمس الخير والهدى، فلم يصل إلى شيء، وهو صادق في يأسه، صادق في حزنه، صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها، إنَّ هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا انتحال، فنحس حين نقرؤه أنَّا نقرأ شعرًا حقًّا فيه قوة وحياة وروح.» هذا ما أملاه مؤلف الشعر الجاهلي، وهو إقرار صريح بالشعر الجاهلي واستطاعة الملتمس رؤية الحياة الجاهلية في مرآته الوضيئة، وفي هذا الاختيار وهذا التعليق بفعل المؤلف نفسه ما ينقض أقواله المكررة المؤكدة بإنكار الشعر الجاهلي وإنكار تدليله على حياة القوم الذين نطقوا به، وكفى بالمؤلف على نفسه شهيدًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤