مصادر وصف الحياة الجاهلية
إنَّ المصادر التي استقى منها المؤرخون وصف الحياة الجاهلية كثيرة، منها مصادر عربية ومنها إفرنجية، فمن الإفرنج كوسان دي برسيفال، فهو أول من أقدم في العصر الحديث على التدوين في تاريخ العرب قبل الإسلام في ١٨٤٨، فألَّف كتابه في ثلاثة أجلاد قصر الأولين على تاريخ الجاهلية، وكان لهذا الكتاب شأن يذكر؛ لأنه باكورة أعمال المستشرقين، وقد عول في كتابه على مصادر العرب واليونان، وأحسن في تنسيق مؤلَّفه، وأتقن تبويبه، وأبدع في تخريج أقوال المؤلفين إبداعًا عظيمًا، وزيَّن هوامشه بحواشٍ نادرة وأبيات من الشعر العربي. ونحن نجل هذا الكتاب ونعتبره تحفة أدبية ثمينة، ولكنه ليس علميًّا بالمعنى الحديث؛ لأنه ظهر قبل اكتشاف الآثار وحلِّ رموزها، فهو سابق للحفريات العربية في جنوب الجزيرة وشمالها.
وإنَّ للعثور على الآثار واستقراء النقوش المحفورة على الأحجار قيمة تاريخية عظمى؛ لأنها تعد في الطبقة الأولى من المستندات، وأول مؤرخ اشتغل بالحفريات في بلاد العرب الجنوبية زتسن الألماني، ثم ولستد الإنجليزي، ثم أرنو الفرنسوي، ثم هاليفي الفرنسوي، ثم إدوارد غلازر الألماني، وأشهر الذين حفروا في شمال بلاد العرب واكتشفوا آثارها وقرءوا نقوشها بوركهارت وجراهام ووتزشتاين وفوجه وبلنت ودوسو، وجمع هاليفي ومولر وهومل بين الجنوب والشمال في البحث، ومن هذه الآثار التي اكتشفت ما هو سامي؛ أي منسوب للأمم السامية، ومنها ما هو آرامي، وأقدمها لا يتجاوز القرن التاسع قبل الميلاد، وأحدثها في القرن الثالث بعده، وهي مدونة بأقلام فينيقية وآرامية ونبطية وتدمرية وبعضها بالخط المسند. ومهما يكن مقدار المعلومات التي وصلت إلينا عن طريق الحفريات، فنحن نعتقد أنها قليلة جدًّا بالنسبة لما يمكن اكتشافه في المستقبل، وعدم الدليل في الحفريات على إحدى مسائل التاريخ السامي أو العربي لا يدل على كونها خرافة أو أسطورة، إنما يجوز القول إنَّ العلماء لم يهتدوا حتى الآن إلى الدليل العلمي عليها، وكل من يدعي دعوى تخالف ذلك، فإما أن يكون جاهلًا بنتائج البحث العلمي، وإما أن يكون سيء النية. ويؤيد رأينا هذا مقالة المستر كروفورد أحد موظفي المساحة الحربية البريطانية، وقد نشرت في جزء يناير سنة ١٩٢٦ من مجلة الجمعية الجغرافية الأمريكية قال: «إنَّ جنوب بلاد العرب بقعة من البقاع القليلة التي لم يعمل فيها معول الناقبين إلى الآن، وَزِدْ على ذلك أنَّ الرحالين الأوروبيين لم يبلغوا إليها إلا نادرًا، وحينئذ اكتفوا بنظرة سطحية إلى جغرافية البلاد وأحوال أهلها، فقد يوجد في اليمن وحضرموت وعمان آكام في جوفها آثار قديمة كالآكام التي عُثِرَ عليها حديثًا في وادي السند بالهند. وإننا نجد في كتابة الماجور تشيز من آخر الرواد الذين اخترقوا جنوب بلاد العرب ما يوافق رأينا، فقد وصف سكان واحة المرة في «وصف جبرين» بعد زيارته لها سنة ١٩٢٣، قال إنهم يسكنون الخيام، ويتكلمون العربية عدا لهجتهم القومية، وكانوا إلى سنة ١٩٢١ وثنيين، وأعداؤهم قبيلة العوامر يتجولون في الصحراء إلى الجنوب، ويتكلمون لهجة أخرى تصفها قبيلة المرة بأنها سلسلة من الحروف الحلقية.»
وقال المستر كروفورد — وهو عالم أمريكي مختص بالتاريخ المصري القديم — إنَّ النقب في اليمن من الغايات القليلة التي لم يسعَ إليها علماء الآثار بعد. ومما يؤيد رأينا أنَّ المتحف البريطاني ومتحف جامعة فيلادلفيا اشتركا في إرسال بعثة أثرية إلى العراق برئاسة المستر ولي، فحصرت هذه البعثة أعمالها أولًا في تل الأبيض «أور الكلدانيين» الواقعة على ضفة الفرات الجنوبية، وهي تبعد نحو ١٠٠ ميل من البصرة. فعثرت في شتاء سنة ١٩٢٥ على أقدم آثار العمران في العراق، وكاشفها يرى أنَّ عهدها يرجع إلى نحو أربعة آلاف سنة قبل المسيح، فمن العنت إذن أن يجزم مؤلف الشعر الجاهلي في مسائل تاريخية لا تزال أبواب البحث والتنقيب فيها مفتوحة، فإنَّ العلم والتاريخ في حركة دائمة مستمرة لا تقف ولا يمكن وقفها برأي جازم قاطع، وألَّف أهلورث الألماني في سنة ١٨٧٢ كتابًا في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو أفضل مَنْ كَتَب في هذا البحث من علماء المستشرقين بشهادة جهابذتهم، وألَّف روبرتسون سميث الإنجليزي في الديانات السامية في سنة ١٨٩٤ وفي القرابة والمصاهرة سنة ١٩٠٣، وألَّف رينان في ١٨٥٥ تاريخ اللغات والشعوب السامية، وألَّف نولدكه الهولندي وجريمه الألماني وجولدزيهر النمسوي (جامعة فينا) وويلهاوزن (جامعة برلين) ودي جوجيه وليون كايتاني (الإيطالي) ونيكلسون الإنجليزي وهوار الفرنسوي في تاريخ العرب وآدابهم قبل الإسلام، وحققوا كثيرًا من المسائل تحقيقًا لا مجال للشك فيه. أما المصادر القديمة فهي أخبار الأمم التي توطنت الحجاز واليمن والكتب التي وجدت في خزائن العراق، فقد كان في الحيرة كتب سريانية وفارسية ويونانية فيها الكثير من أخبار الجاهلية، وقد ظهرت تلك الكتب بعد الإسلام. ومن المصادر الإفرنجية القديمة مؤلفات هيرودوتس وثيوفراست وبروسوس وأرسطون وديودور الصقلي وسترابون وبلينيوس ويوسيفيوس وزينوفون وستيفانوس وهؤلاء بين ٤٠٦ق.م، و٥٦٧ب.م.
- أولًا: الشعر الجاهلي نفسه؛ لأنه ديوان العرب ومستودع تاريخهم ومرآة حياتهم، وقد آلينا على نفسنا ألَّا نستشهد منه إلا بما أقر مؤلف «الشعر الجاهلي» صحته في كتابه، وسنذكره ونقصر بحثنا عليه دون سواه؛ لأنه غير مشكوك فيه عند المؤلف ولا يمكنه تفنيده بعد اعترافه بصدق نسبته إلى من قاله من الشعراء بمقتضى القواعد التي وضعها وأقرها في صحيفة ٦٨ من كتابه.
- ثانيًا: الأمثال التي جمعها ودونها المفضل الضبي المتوفى في القرن الثاني للهجرة، والميداني المتوفى بعده بثلاثة قرون تقريبًا.
- ثالثًا: كتب التاريخ والأدب والأخبار العربية وأكبرها شأنًا كتاب الأغاني وتواريخ ابن الأثير وياقوت وابن هشام والطبري، وكتاب بلوغ الأرب للسيد محمود الألوسي، الذي اختصته بالذكر اللجنة المنوط بها فحص المؤلفات التي تقدم أصحابها للحصول على جائزة أوسكار الثاني ملك أسوج منذ أربعين عامًا عن تأليف كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام.
ومن مصادر العلم بالحياة الجاهلية اللغة العربية نفسها، فإنَّ اللغة مرآة عقول أصحابها ومستودع حياتهم، واللغة العربية الفصحى تدل آثارها على فطنة ذويها وفسحة خيالهم ودقة نظرهم؛ لأنَّ الألفاظ — وهي مفردات اللغة — لا تُخلَق إلا للتعبير عن معنى حادث في أذهان واضعيها، ولا يقتصر هذا على أسماء الأنواع، بل إنه يشمل الألفاظ المعنوية الدالة على المعاني الباطنية كالفضائل والعواطف. فإنَّ وجودها في اللغة دليل على أنَّ أصحابها مارسوا تلك الفضائل وعرفوها، وذاقوا تلك العواطف وأحسوا بها. واللغة العربية في الجاهلية من أغنى لغات الدنيا بالكلمات العمرانية والسياسية كالشعب والجماعة والقوم واللجنة والعصبة، ومثلها أماكن الاجتماع كالمحفل والندوة والنادي والموسم والمدرس والمجلس، وفي تلك اللغة لفرق الجند وللقلم والورق وأنواع الكتب مئات الألفاظ عدا المترادفات، التي تدل عشرات منها على معنى واحد أو معانٍ متشابهة، وقد توسعوا في مدلول اللفظ الواحد حتى تعددت معانيه، وألفوا في ذلك كتبًا كثيرة مثل: كتاب المخصص، وكتاب العين للخليل بن أحمد، والمزهر، وكتاب الأضداد لقطرب، والكامل للمبرد، والجمهرة لابن دريد، والمنجد للهمذاني. وقد سلك طريق الاستدلال على الحياة القومية باللغات ومفرداتها ونحوها وصرفها العلامة رينان في كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا.
مما يدل على ضرب العرب في شئون المال والاقتصاد بسهم كثرة الألفاظ المؤدية للمعاني الدالة على الغنى المادي كالتلاد والركاز والضمار والطارف والتالد. ومما يدل على تجارتهم وأسفارهم بالبحر أسماء السفائن بسائر أنواعها وأشكالها وأسماء الرياح وهبوبها وقوتها وضعفها، ولديهم أسماء الميازين وأدوات مختلف الصناعات والرياش والأثاث واللباس، وكانوا يلقبون العبقريين والنوابغ بألقاب، منها الشاعر والخطيب والحكم والكامل لمن يحرز الآداب والفضائل، وفي لغتهم علوم تدل على تبحرهم فيها، وهي الطب والبيطرة والفلك ومهاب الريح والبناء والعمارة والزراعة والتوقيت والكهانة والعيافة والقيافة وتعبير الرؤيا والزجر والخط في الرمل، والخيل وما يلحقها من فنون المسابقة، وحلبة المراهنة، وأنساب الخيل وصفاتها، وقد حذقوا فنون الحرب بأكملها، وتعددت الأسلحة عندهم، قال شاعرهم في أنواع السلاح:
وفي صناعة البناء كانت عندهم الغرفة وهي العلية وجمعها علالي، والخزانة وهي التي يحفظ فيها الشيء. قال امرؤ القيس مشبهًا اللسان بالخزانة:
وفي أدوات البناء يقول طرفة:
وكان للنجارين حدأة وهي فأس ذات رأسين، قال الشماخ:
ومن أدوات الحدادين المقراض، قال الأعشى:
ومن أدوات الحياكة والنسج الصيصة شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة، قال دريد بن الصمة:
وكان للعمامة مكانة عندهم، قال عمرو بن امرئ القيس:
وسيأتي استشهاد كثير، وإنما أردنا بهذا والذي قبله ضرب الأمثال على دلالة الشعر الجاهلي على حياتهم، وبالجملة فإن من وقف على أحوال العرب وتصفح كتب أخبارهم وعرف شئونهم على اختلاف طبقاتهم وأزمانهم، تبين له أنَّ العرب أمة قديمة مضى عليها أمد طويل ما بين ارتفاع وانحطاط، من استقرأ أحوالهم تبين أنَّ مدار تقدمهم أمور كثيرة منها العلم النافع لحاجات جنسهم وضرورياته وسكنى البوادي؛ لأن أهل البادية أقرب إلى الخير وحب الحرية والعصبية والكرم والشجاعة من أهل الحضر، ولم يزالوا على عزهم ومجدهم وأقبالهم وشرفهم إلى أن تناقص منهم العلم، وتقلص عنهم ظل المعارف والفضائل حوالي القرن الثالث قبل سيدنا يسوع المسيح، فحينئذ شاع فيهم الجهل واختلت أحوالهم وفسد منهم أكثر الخُلق المحمود، وتقاعدت منهم الهمم، ولم يختم زمن الجاهلية الذي دام نحو ثلاثمائة سنة إلا وتقهقرت مدنية تلك الأمة، وظهرت آثار التقهقر بالتخريب والتعذيب وانتشار الضلال مع ما كانوا عليه أصلًا من الاستعداد والقابلية لقبول الخير ورجاحة الأحلام وصحة العقول، وكانت قبائل كثيرة منهم على جانب عظيم من الدهاء واللدد عند الخصومة وخلابة الألسنة وبلاغة المنطق والتمسك بما ألفوه من العادات.
وقد ثبتت هذه الصفات والمناقب والمحاسن والمكاره والأخلاق والآداب في شعرهم، وسيأتي منه ما يؤيد ما ذهبنا إليه من أنَّ حياتهم تلتمس في شعرهم.