مُثُلٌ من الشعر الجاهلي تصوِّر حياة عرب الجاهلية
ومن الشعر الجاهلي الذي يعتبر بمثابة صور لحياتهم، وأخلاقهم، وآدابهم، ما نذكره مثلًا تصور تلك الحياة كقول الأحوص يفتخر بكرمه:
وكان العرب في الجاهلية يطلِّقون نسوتهم، ودليل ذلك من قول الأعشى:
وكان الولد يتزوج من امرأة أبيه بعد وفاته، تزوج عمرو بن معدي كرب أرمل أبيه، ثم قال فيها بعد أن كرهها:
ومن ذلك حبهم الخيل وحرصهم على حفظ أنسابها وأسمائها، دع عنك ترتيبها في نظم المسابقة، حيث قالوا: المجلي والمصلي والمسلي والعاطف والمرتاح، ثم الحظي ثم المؤمل، وهذه السبعة ذات الحظوظ، ثم اللواتي لا حظوظ لها: اللطيم والوغد والسكيت. ونرى أنَّ العرب في الجاهلية كانوا أكثر شفقة على الخيل وتقديرًا لها من هواة المضمار في وقتنا هذا، فإن المعاصرين يجعلون حظًّا للمجلي والمصلي دون غيرهما — جانيان وبلاسيه — ولم يجعل أهل زماننا من أرباب الحلبة والرهان حظًّا لما بعد الثاني، ولم يضعوا لها وصفًا ولا اسمًا. وقد أفرد الغندجاني كتابًا لأسماء خيل العرب الفحول والحجور التي نجلت وأنجبت وتفرق نجلها في العرب، ومن مشاهيرها أعوج الأكبر لغني بن أعصر، قال بشر بن أبي حازم يفتخر:
كذلك قول بلعاء بن قيس الكناني في جواده «الأغر»:
وكان من عاداتهم العقر على القبور، وفي ذلك قول زياد الأعجم في رثاء المغيرة:
ومن عاداتهم الرتم، كان الرجل إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة، فإذا عاد نظر إليه، فإن وجده بحاله علم أنَّ زوجته لم تخُنْه، قال الكميت:
وكانت المرأة إذا عسر عليها خاطب الزواج نشرت جانبًا من شعرها وكحلت إحدى عينيها مخالفة للشعر المنشور وحجلت على إحدى رجليها، ويكون ذلك ليلًا، وتقول: «يا فلان» أبغي «كذا» قبل الصباح. وهي تعتقد أنَّ هذا يسهل أمرها ويقرب زواجها، قال ذو الإصبع مخاطبًا إحدى هؤلي العوانس البائرات:
وكان فريق من شعرائهم وفضلائهم يحرم الخمر فممن حرمها عامر بن الظرب وقيس بن عاصم التميمي وصفوان الكناني، وفي ذلك يقول قيس بن عاصم:
وكانت العرب إذا أجدبت وأمسكت السماء عنهم وأرادوا أن يستمطروا عمدوا إلى السلع والعشر، فحزموهما وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران، وأصعدوها في جبل وعرٍ وأتبعوها يدعون ويستسقون، وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلًا للبرق بالنار. روى هشام بن الكلبي لأمية بن أبي الصلت هذه الأبيات في وصف تلك العادة:
ومنها تعليق الحُليِّ والجلاجل على اللديغ يرون أنه يفيق بذلك، قال النابغة:
ومن عاداتهم تحريم الخمر على أنفسهم في مدة طلب الثأر؛ لأنها مشغلة عن كريم الأخلاق. قال الشنفرى في رثاء خاله تأبط شرًّا:
وفي عادة الوأد المشهورة يقول أبو المشمرج اليشكري:
أما شعرهم في الميسر فكثير، وكانت هذه النقيصة شديدة الانتشار وبالغة أقصى المجازفة، فكان الرجل يخاطر على أهله وماله، قال لبيد بن ربيعة في معلقته:
ومن عاداتهم الاستقسام بالأزلام، فكانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا سفرًا أو تجارة أو نكاحًا أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل أو تحمل عقل أو غير ذلك من الأمور العظيمة جاءوا إلى هُبل، وهو أعظم صنم لقريش بمكة وكان في الكعبة، ومعهم مائة درهم، فأعطوها صاحب القداح بمثابة أجر الفتوى حتى يحيل القداح لهم، وكانت أزلامهم سبعة قداح محفوظة عند سادن الكعبة وخادمها. وروى أبو فرج الأصبهاني وابن الكلبي في كتاب الأصنام أنهم كانوا يستقسمون عند ذي الخلصة أيضًا، وأنَّ امرأ القيس لما خرج يطلب بثأر أبيه استقسم عنده، فخرج له ما يكره وهو تأجيل الأخذ بالثأر، فسب الصنم ورماه بالحجارة وأنشد غاضبًا:
وكان ذو الخلصة صنمًا مبجلًا في وادي تبالة شمالي نجران، وله في قلوب الوثنيين من العرب مكانة عظيمة (ص١٠٥ كتاب نيكلسون).
وكانت العرب في الجاهلية يؤرخون بالنجوم، ثم أرخوا بكل عام يكون فيه أمر مشهور، فأرخوا بعام الفيل، قال أبو قيس صيفي بن الأسلت بن جشم بن وائل:
ثم أرخوا بعام الختان لأنهم تهاونوا فيه وعظم عندهم أمره، فقال النابغة الجعدي:
وأرَّخت قريش بموت هشام بن المغيرة المخزومي لجلالته فيهم فقال شاعرهم:
وكان من العرب من تمس حوائجهم إلى ركوب البحر ومعاناة السفر فيه، والقيام بما يعين على ذلك كعلم الملاحة، قال طرفة بن العبد البكري في معلقته:
وقد دل شعرهم على كتابتهم، قال لبيد بن ربيعة:
وقال كندي من دومة الجندل يمن على قريش بما علمهم إياه بشر من فن الكتابة، وقد ذكره رينان في تاريخ اللغات السامية:
وكانت الصحيفة التي يكتبون فيها الحكمة تسمى «المجلة»، قال النابغة:
وكان بعض مشاهير شعرائهم أميين، ومنهم المتلمس وابن أخته طرفة، وقصة صحيفته معلومة، وفيها يقول وقد قذف بها في نهر الحيرة:
قال نيكلسون ص٧٩: «إنَّ الشعر الجاهلي وصف نقدي لحياة الجاهلية وأفكارها، ومعظم الشعر الذي قيده أبو تمام خاص بشجاعة العرب في الحروب، وصبرهم على الشدائد، وثباتهم لطلب الثأر، وحماية الضعيف وعدم المبالاة بالقوي وتحديه أحيانًا، وقد شملت هذه المحامد كلها كلمة «الحماسة»، فأطلقها أبو تمام على هذا الديوان.» ورأى هذا العالم أنَّ شعر الحماسة يعد صورة لحياة الجاهلية ووصفًا لأخلاقهم، قال إنَّ شعر الشنفرى وتأبط شرًّا مثال واضح لصفات العرب القديمة التي تدل عليها صفة «المروءة»، وتأبط شرًّا هو ثابت بن جبير وهو القائل:
وهو بيت من قصيدة يصف بها فراره من أعداء أحاطوا به؛ إذ كان يشتار عسلًا في غار في هذيل (حماسة طبع مصر ص١٤)، وقد فر وأحسن في وصف الفرار كما جاء في الفصل السابق، ولكن العربي الجاهلي إذا فر أحيانًا من الخطر المحدق كالقائد الحاذق فإنه يستقتل في الدفاع عن المرأة، قال عمرو بن معدي كرب:
ويدلنا الشعر الجاهلي على أنَّ دستور «القبيلة» كان ديموقراطي النزعة يشرف عليه الشيخ أو الزعيم، وكان الشيخ أو الزعيم أو كبير القوم يستمد شرفه من الدماء الزكية التي تجري في عروقه ومن الخلق الكريم والثروة والحكمة، وفي هذا قال الأفوه الأودي أبياته المشهورة:
أما طلب الثأر فقد اشتهر عن العرب في كل زمان ومكان، فلا يدل عليه في نظر علماء المشرقيات شعر أبلغ وأقوى من قصيدة تأبط شرًّا التي سماها بعضهم «نشيد الانتقام»، ونقلها إلى الألمانية الشاعر العظيم غوته، ونُقلت إلى الفرنسوية والإنجليزية والإيطالية مرارًا، ومنها:
ومعظم أسماء الأدوات المعدنية مستفاد من الطبيعة، فلما رأوا الصفر شبيهًا بالذهب وبنبات شائك اسمه الشبه سموه كذلك، ومن أسمائه الصرفان فقيل:
ومن هذا القبيل «الصاد» وفيه يقول حسان:
وهي مأخوذة من الصيداء مؤنث الأصيد للأحجار التي تعمل منها القدور، كأن القوم كانوا في عصرهم الظروري يستعملون تلك القدور الحجرية، فلما وجدوا الصفر، واصطنعوا منه القدور سموا ذلك المعدن صادًا، اشتقاقًا من تلك الحجارة. ومما يرى أنَّ البرم مأخوذ من اسم الأبرم لنبات ربما بدأ القوم يبرمونه ليتخذوا منه حبلًا أو خيطًا، ومثله الفتل لورق نبات ليس منبسطًا لكنه يفتل، وكذلك الجدل ومنه الجديل للزمام المجدول من أدم وفيه يقول امرؤ القيس:
ثم أطلق الجديل على الحبل من أدم أو شعر، وبعد ذلك تسمى الوشاح جديلًا:
واستخدم العرب القطن إذ نسجوا منه كثيرًا، وكان بدء معرفتهم به في بلاد اليمن جريًا على سنة معظم الصناعات في بلاد العرب؛ لأنه ورد أنَّ سحولًا موضع باليمن تنسج به الثياب ويسمى نسجها سحلًا، وفيه يقول الشاعر:
وتنوعت ألوان الأنسجة عندهم وقيل إنهم يصبغون بلون الشمس؛ أي بصفرتها، وأغلب ما يتخذون هذا للعمائم، فتكون المهرَّاة أفخرها، وفيها يقول الشاعر:
وشهدوا بعض الحيوانات تذود عن نفسها بالقرون الناطحة فاغتصبوها بعض هاتيك القرون، وحددوا رءوسها بحجر سموه ثفاقًا وشدوا ذلك إلى الهراوة الطويلة، فنتج لهم ضرب من الرماح يقال له المدرية، كان أقدم سلاحهم عهدًا، وفيه يقول لبيد بن ربيعة العامري:
ولما كانوا يستدرون الضرع فما عتموا أن اهتدوا إلى نساجة شعر الحيوان واصطناعها ثيابًا منها الخسيج والمرط والبت، وفي هذا الأخير يقول الشاعر:
وكانوا إذا أوردوا البقر فلم ترد ضربوا الثور ليقتحم البقر بعده، ويقولون إنَّ الجن تصد البقر عن الماء، وإنَّ الشيطان يركب قرني الثور، وقال قائلهم:
وقال نهشل:
وإذا أصاب الجرب الإبل يُكوَى الصحيح ليبرأ السقيم، قال النابغة:
وكانوا يقولون ليس من قتيل يُقتَل إلا ويخرج من رأسه هامة، فإن كان قتل ولم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره: «أسقوني فإني صدية!» قال أبو داود الإيادي:
وكانوا يعتقدون أنَّ الرجل إذا أحب امرأة وأحبته، فشق برقعها وشقت رداءه، صلح حبهما ودام، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما، قال سحيم:
وكان بعضهم إذا رحل الضيف عنهم وأحبوا ألَّا يعود كسروا شيئًا من الأواني وراءه، قال شاعرهم:
وقال آخر وهو يمثل معظم العرب في الكرم:
وكانت النساء إذا غاب عنهن من يحببنه أخذن ترابًا من موضع قدمه ويزعمن أنَّ ذلك أسرع في رجوعه، قالت امرأة:
أليس في هذين البيتين طعم الحب الوالدي وأثر عناية الأب بابنه، وفقد هذا الحب فجأة بحكم القدر، وانفجار قلب القتيل خطأ بالدعاء على ولده لما علم أنه لا شك هالك بفعله وإن كان بغير قصد. ثم انظر إلى عتاب جهيمة لأخته رقاش:
وهذان البيتان الدالان على غسل جماجم الموتى، وحزن الحبيب لمضاعفة المصاب بموت حبيبه، وإهمال تلك العادة التي كانت تعد من الشعائر:
وما أبلغ هذا الاستنفار للثأر في قول عمرو بن ثعلبة الطائي:
وهاك ثلاثة أبيات لعلقمة تدل على أخلاق النساء لعهده، ولعمرك إنَّ دليل صدق هذا الشعر صلاحه لكل زمان ومكان، فإن طباع النساء لم تتغير:
ومن هجائهم المبطن بالتهكم مع الدقة في وصف الخلق والبيئة قول عمرو بن كلثوم في سلمى أم نعمان، وكانت بنت حداد:
وقال معاذة يصف حزن النساء على وفاة عزيز وهو مالك بن زهير:
ومن دلائل الكرم قول قيس لزوجته:
هذا وإننا قد اقتبسنا هذه الأبيات من مختلف دواوين الشعر الجاهلي، وكلها تنطبق على شروط المؤلف من حيث صحة النسبة لأربابها، وقد تركنا كنوز المعلقات والمجمهرات والمنتقيات والمذهبات، وهي قصائد قامت الأدلة العلمية والتاريخية على صحة نسبتها، وتبلغ ألف بيت تقريبًا، وأبقينا الكلام عليها إلى حين البحث في الشعر والشعراء عند بلوغ الغاية والنهاية من هذه العجالة، فإن الشعر الجاهلي عامة والمعلقات والمجمهرات والمنتقيات والمذهبات هي في القسم الأعلى من البلاغة العالمية، فإن من يقرؤها بإمعان يرى في ثنايا أبياتها المرصعة وجوهًا مشرقة وقدودًا ممشوقة وحركة مرسلة على سجيتها، فكأنه في متحف تلمع وراء زجاجه التحف والنفائس الغريبة، ولا شك في أنَّ كل من تبصر في محاسن هذا الشعر قد رانت عليه جلالة الديباجة وطلاوة الأسلوب وحلاوة المعاني، فضلًا عن أنَّ كل شاعر جاهلي يُرى للقارئ من خلال بلور نظمه ريان من الحياة، فبعضهم وقور ساكن الطير، وبعضهم حكيم خبير بأمور الناس والعالم، وبعضهم قلق ثائر وروحه مملوء هياجًا وحسرات، وبعض هذا الشعر يكون في بداياته عكرًا، ثم لا يلبث أن يروق سبيله ويتكشف عن شذور الذهب، وما شئت بعدها من شواهد وتذكارات وأنساب ومناقشات وملح. ولا نعجب إذا كان المؤلف لم يدرك من أسرار هذا الشعر العجيب كثيرًا ولا قليلًا، فإن هذا الشعر وقائليه من محيط يفوق محيط المؤلف ويسمو عليه كثيرًا.
وقف جوستاف مورو المصور الفرنسي الشهير وصديق له أمام لوحات شتى في متحف، فقال مورو لصاحبه مشيرًا إلى بعضها: «هذه يا صديقي مثال صادق للفن، أما تلك فلا شيء فيها من الفن.» فسأله صديقه: وما هو الفن يا أخي؟ فأجاب جوستاف مورو بعد أن أطرق: «من أصعب الأمور أن يدرك حقيقته من لم يكن متفننًا.» فمن لم يكن بطبيعته شاعرًا أو متفننًا تذهب الجهود في تفهيمه سدًى!