الفصل الثاني والعشرون

دلالة الشعر الجاهلي على الحياة الدينية

قال مؤلف الشعر الجاهلي إنَّ الشعر المنسوب للجاهلية لا يدلنا على الحياة الدينية، ولا يصور لنا عاطفة الدين، فأفردنا هذه النبذة نقضًا لرأيه.

كان أول من اتخذ الأصنام هذيل بن مدركة، اتخذوا سواعًا فكان لهم برهاط من أرض ينبع، وروى ياقوت والبغدادي أن سدنته بنو لحيان. ولم يسمع أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي لهذيل في أشعارها لهذا الصنم «سواع» ذكرًا إلا شعر رجل من اليمن، ولكنه لم يروِهِ في كتاب الأصنام الذي عُنِي بطبعه ونشره الأستاذ البحاثة صاحب المكتبة الزكية، واتخذت كلب «ودًّا» بدومة الجندل، واتخذت مذحج وأهل جُرَس «يغوث»، وقال الشاعر:

حياك وَدٌّ! فإنا لا يحل لنا
لهو النساء وإن الدين قد عزما

وقال أحد عباد يغوث:

وسار بنا يغوث إلى مرادٍ
فناجزناهمُ قبل الصباح

ودانت العرب للأصنام واتخذوها، فكان أقدسها كلها «مناة»، يقول عبد العزى بن وديعة المزني:

إني حلفت يمين صدق برة
بمناة عند محل آل الخزرج

وكان الحارث بن أبي شمر الغساني — ملك غسان — أهدى لمناة سيفين أحدهما يسمى مخذمًا والآخر رسوبًا، وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في شعره:

مظاهر سربالي حديد عليهما
عقيلَا سيوفٍ مخذم ورسوب

ثم اتخذوا «اللات» بالطائف وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مربعة، ولها يقول عمرو بن الجعيد:

فإني وتركي وصل كأس كالذي
تبرأ من لاتٍ وكان يدينها

وله باعتباره صنمًا يقول المتلمس في هجائه عمرو بن المنذر:

أطردتني حذر الهجاء ولا
واللات والأنصاب لا تئل

وقال أوس بن حجر يحلف باللات:

وباللات والعزى ومن دان دينها
وبالله إن الله منهن أكبر

ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات ومناة، وكانت العزى أعظم الأصنام عند قريش، فكانت تطوف قريش بالكعبة وتقول:

واللات والعزى!
ومناة الثالثة الأخرى!
فإنهن الغرانيق العلى!
وإن شفاعتهن لتُرتجى!

وقال ضرار بن خطاب الفهري:

وفرت ثقيف إلى لاتها
بمنقلب الخائب الخاسر

وكان لها منحر ينحرون فيه هداياها يقال له الغبغب، ويقول أبو خراش خويلد بن مرة الهذلي وهو يهجو رجلًا تزوج امرأة جميلة يقال لها أسماء:

رأى قذعًا في عينها إذ يسوقها
إلى غبغب العزى فوضع في القسم

وكان زيد بن عمرو بن نفيل قد تأله في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام، وقد مات قبل المبعث بخمس سنين، ومن شعره:

ولا هُبلًا أزور وكان ربًّا
لنا في الدهر إذ حلمي صغير

وهبل هذا كان أعظم أصنام قريش في جوف الكعبة وحولها، وكان فيما رواه ابن الكلبي من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من الذهب، وهو الذي يقول له أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد: اعْلُ هُبَل! أي علا دينك، ويظن بعض علماء المشرقيات أنَّ هُبل هذا هو «أبولون» الذي عبده اليونان. وكان لهم إساف ونائلة. يقول أبو طالب وهو يحلف بهما حين تحالفت قريش على بني هاشم:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم
بمفضى السيول من إساف ونائل

وكان لهم أيضًا مناف، ومن أسمائهم عبد مناف، قال بلعاء بن قيس:

وقِرن قد تركت الطير منه
كمعتنز العوارك من مناف

وقد ذكرنا «ذا الخلصة» في عرض الكلام على الاستقسام بالأزلام وروينا حديث امرئ القيس وغضبه على هذا الإله. وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكانت بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليالٍ من مكة، وذكر ابن الكلبي في صحيفة ٣٥ من كتاب الأصنام طبع مصر حديث امرئ القيس، قال إنَّ بعضهم استشاره فأشاره بما لا يرضيه فهجاه بقوله:

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا
مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنهَ عن قتل العِدَاة زورا

قال ابن الكلبي: «ومن الناس من ينحلها امرأ القيس.» وتحقيق هذا الخبر في الأصنام ص٤٧، وقد رواه الألوسي في بلوغ الأرب على أنه لامرئ القيس.

وكانت لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان — وكلها قبائل يمنية من التي قيل إنها رحلت من الجنوب إلى الشمال في سيل العرم — في مشارف الشام صنم يقال له «الأقيصر»، وله يقول زهير:

حلفت بأنصاب الأقيصر جاهدًا
وما سحقت فيه المقاديم والقمل

وله يقول الشنفرى الأزدي حليف فهم:

وإن امرأ أجار عَمرًا ورهطه
عليَّ وأثواب الأقيصر يعنف

وقال خزاعيُّ بن عبد نهم، سادن «نهم» مزينة؛ أي خادم هذا الصنم:

ذهبت إلى «نهم» لأذبح عنده
عتيرة نسكٍ كالذي كنت أفعل

وكانت للعرب حجارة غبرٌ منصوبة يطوفون بها ويعترون عندها يسمونها الأنصاب ويسمون الطواف بها الدوار، وفي ذلك يقول عمرو بن جابر الحارثي:

حلفتْ غطيفٌ لا تنهنه سِربها
وحلفتُ بالأنصاب ألَّا يرعدوا

وكان «اليعبوب» صنمًا لجديلة طيء، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد فتبدلوا اليعبوب بعده. قال عبيد:

فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم
صنمًا فقِروا يا جديل واعذبوا

وكان لعنزة صنم يقال له سعير، فخرج ابن أبي حلاس الكلبي على ناقته فمرت به، وقد عترت عنده عترة — أي ذبحت تلك القبيلة ذبائح قربانًا لهذا الصنم — فنفرت ناقة ابن أبي حلاس فقال:

نفرت قلوصي من عتائر صرعت
حول السعير تزوره ابنا يقدم
وجموع يذكر مهطعين جنابه
ما إن يحير إليهم يتكلم

وكانوا يحلفون بالدماء الجارية على وجه الأرض حول الصنم «عوض»، قال رشيد بن رميض:

حلفت بمائرات حول عوض
وأنصاب تُركن لدى السعير

وكان من العرب دهريون قال قائلهم:

منع البقاء تقلب الشمس
وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها حمراء صافية
وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما
يجري حمام الموت في النفس
اليوم أعلم ما يجيء به
ومضى بفصل قضائه أمس

وكان منهم من عبد الكواكب وهم طائفة من تميم عبدوا «الدبران» من النجوم، ومن زعمهم العيوق عاق الدبران لما ساق إلى الثريا مهرًا، فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها؛ ولذلك سموها القلاص، وقال شاعر تميم:

أما أبو الطرق فقد أوفى بذمته
كما وفى بقلاص النجم حاديها

وكان جمع من عقلاء العرب وحكمائها غير موافقين لعمرو بن لحي فيما ابتدع من الدين ولا متبعين ما شرع من عبادة الأصنام، وتعبدوا ما ترضيه عقولهم، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل الذي استشهدنا بشعره في هبل إذ يقول:

أربًّا واحدًا أم ألف ربٍّ
أدينُ إذا تقسمت الأمور؟
عجبتُ وفي الليالي معجبات
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالًا
كثيرًا كان شأنهم الفجور

وروى الواقدي عن سعيد بن زيد هذا قال: توفي أبي وقريش تبني الكعبة، وكان ذلك قبل المبعث بخمس سنين. (ص٢٧٢ بلوغ الأرب).

ومنهم — أي من جمع العقلاء الذين لم يوافقوا لعمرو بن لحي في عبادة الأصنام — أمية بن أبي الصلت وهو عبد الله بن أبي ربيعة القائل:

الحمد لله ممسانًا ومصبحنا
بالخير صبَّحنا ربي ومسَّانا
رب الحنيفة لم تنفد خزائنها
مملوءة طبق الآفاق أشطانا
وقد علمنا لو أن العلم ينفعنا
أن سوف تلحق أخرانا بأولانا
وقد عجبت وما بالموت من عجب
ما بال أحياؤنا يبكون موتانا

ومنهم سويد بن عامر المصطلقي القائل:

لا تأمننَّ وإن أمسيت في حَرَمٍ
إن المنايا بكفَّي كل إنسان
فكل ذي صاحب يومًا يفارقه
وكل زاد وإن أبقيته فاني
والخير والشر مقرونان في قرن
بكل ذلك يأتيك الجديدان

ومنهم أبو قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار، ترهَّب ولبس المسوح، وفارق الأوثان، وهو القائل في الجاهلية:

سبحوا لله شرق كل صباح
طلعت شمسه وكل هلال
يا بني الأرحام لا تقطعوها
وصلوها قصيرة من طوال
يا بني النجوم لا تظلموها
إن ظلم النجوم داء عضال

هذا ما أردنا الاستشهاد به من الشعر الجاهلي على الحياة الدينية بالتخصيص، فأفضنا في هذه الناحية من البحث لنظهر مغالطة جسيمة في كتاب الشعر الجاهلي، حيث يقول المؤلف ص٧٨: «فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة … من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين نجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟! أوليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؟!» ا.ﻫ. كلام المؤلف.

فنقول ردًّا على هذا إننا أوردنا في هذه العجالة أكثر من خمسين بيتًا من الشعر الجاهلي تدل على الشعور الديني والعاطفة الدينية وتمثل آلهة الجاهليين وعبادتهم، ونعجب من أنَّ المؤلف حصر الشعر الجاهلي كله في امرئ القيس وطرفة وعنترة، ثم ادعى أنَّ الشعر الجاهلي كله عجز عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين. ومن المعلوم أنَّ شعر امرئ القيس وطرفة وعنترة الذي اعترف به المؤلف لا يبلغ جزءًا من ألف من الشعر الجاهلي، فلو خلا من الشعر الديني فليس دليلًا على أنَّ الشعر كله لا يمثل الحياة الدينية، وليس حتمًا أنَّ كل شاعر في الزمن القديم أو الحديث ينظم شعرًا دينيًّا. وكذلك من العجيب أنَّ المؤلف يدعي أنَّ الشعر الجاهلي كله عجز عن تصوير الحياة الدينية، وهو لم يتقدم إلينا بدليل، ولم يستقرئ دواوين الشعر الجاهلي. على أنَّ حقائق كثيرة تنقض قوله، وفوق ما اقتبسنا من الشعر الصحيح الجاهلي الدال على الحياة الدينية في الجاهلية، سنثبت للقارئ أنَّ شعر طرفة وامرئ القيس وعنترة ليس خاليًا كما ادعى المؤلف من العاطفة الدينية القوية. قال طرفة في معلقته الكبرى التي استشهد المؤلف بتسعة أبيات منها نقلًا عن ص٩٠ وما بعدها من الجمهرة:

أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد
أرى العمر كنزًا ناقصًا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطِّوَلِ المُرخَى وثنياهُ باليد
إذا شاء يومًا قاده بزمامه
ومن يك في حبل المنية ينقد
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
فما أنا بالباقي ولا بالمُخلَّد
أرى الموت لا يرعى على ذي جلالة
وإن كان في الدنيا عزيزًا بمقعد
فإن تك خلفي لا يفُتها سواديا
وإن تك قدَّامي أجدها بمرصد
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسْطَعتَ من معروفها فتزود

وهذا امرؤ القيس قد ذكره المؤلف، وادعى خلو شعره من صورة الحياة الدينية، ونحن نفند دعواه بشعر امرئ القيس إذ يقول:

تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها
روَّى بها من مُحُول الأرض أيباسا

وقال:

أرى إبلي والحمد لله أصبحت
ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها

وقال:

والله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرحل

قال الأب لويس شيخو اليسوعي تعليقًا على هذا البيت ص٥٧ من كتاب شعراء النصرانية ج١ وهو الجزء الخاص بشعراء الجاهلية: «هذا البيت من أصدق أبيات العرب.» وقال أيضًا من قصيدة في وصف ناقته:

ومن الطريقة جائر وهدى
قصد السبيل ومنه ذو دخل

وهذا عنترة الذي ادعى المؤلف أن ليس في شعره ما يدل على العاطفة الدينية قال:

بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أن المنية منهل
لا بد أن أُسقى بكأس المنهل
فاقنَيْ حياءك لا أبا لك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أُقتل

وقال في قتل قرواش:

فلا تكفر النُّعمى وأثنِ بفضلها
ولا تأمنَنْ ما يُحدِث الله في غدِ

وقال:

وعرفت أن منيتي إن تأتني
لا ينجني منها الفرار الأسرع

وقال في رثاء تماضر:

حرصت على طول البقاء وإنما
مبدي النفوس أبادها ليعيدها
هل عيشة طابت لنا إلا وقد
أبلى الزمان قديمها وجديدها

وقال:

إذا كان أمر الله أمرًا يقدر
فكيف يفر المرء منه ويحذر
ومن ذا يرد الموت أو يدفع القضا
وضربته محتومة ليس تعبر

وقال:

وها قد رحلت اليوم عنهم وأمرنا
إلى من له في خلقه النهي والأمر

وقال في يوم المصانع:

يقول لك الطبيب دواك عندي
إذا ما جسَّ كفك والذراعا
ولو عرف الطبيب دواء داء
يرد الموت ما قاسى النزاعا

وقال مقسمًا في رثاء زهير بن جذيمة العبسي:

قسمًا بالذي أمات وأحيا
وتولى الأرواح والأجساما

فماذا يقول مؤلف الشعر الجاهلي وأستاذ آداب اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية بعد هذا كله؟ إنَّ الذي يقرأ هذه المناقضات يحسب أنَّ المؤلف أضاع خيوط منهج ديكارت، والصحيح أنه لم يفقدها، وإنما تغبت عليه بين الأوراق من شدة دهشه؛ لأنه كان حائرًا مبهوتًا، فلم يتهيأ له أن يعيد النظر في شعر هؤلاء الفحول قبل أن يصدر حكمه الجازم، ولكن ماذا عساها تنفع الأدلة في معالجة العناد؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤