دلالة الشعر الجاهلي على الحياة الدينية
قال مؤلف الشعر الجاهلي إنَّ الشعر المنسوب للجاهلية لا يدلنا على الحياة الدينية، ولا يصور لنا عاطفة الدين، فأفردنا هذه النبذة نقضًا لرأيه.
كان أول من اتخذ الأصنام هذيل بن مدركة، اتخذوا سواعًا فكان لهم برهاط من أرض ينبع، وروى ياقوت والبغدادي أن سدنته بنو لحيان. ولم يسمع أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي لهذيل في أشعارها لهذا الصنم «سواع» ذكرًا إلا شعر رجل من اليمن، ولكنه لم يروِهِ في كتاب الأصنام الذي عُنِي بطبعه ونشره الأستاذ البحاثة صاحب المكتبة الزكية، واتخذت كلب «ودًّا» بدومة الجندل، واتخذت مذحج وأهل جُرَس «يغوث»، وقال الشاعر:
وقال أحد عباد يغوث:
ودانت العرب للأصنام واتخذوها، فكان أقدسها كلها «مناة»، يقول عبد العزى بن وديعة المزني:
وكان الحارث بن أبي شمر الغساني — ملك غسان — أهدى لمناة سيفين أحدهما يسمى مخذمًا والآخر رسوبًا، وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في شعره:
ثم اتخذوا «اللات» بالطائف وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مربعة، ولها يقول عمرو بن الجعيد:
وله باعتباره صنمًا يقول المتلمس في هجائه عمرو بن المنذر:
وقال أوس بن حجر يحلف باللات:
ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات ومناة، وكانت العزى أعظم الأصنام عند قريش، فكانت تطوف قريش بالكعبة وتقول:
وقال ضرار بن خطاب الفهري:
وكان لها منحر ينحرون فيه هداياها يقال له الغبغب، ويقول أبو خراش خويلد بن مرة الهذلي وهو يهجو رجلًا تزوج امرأة جميلة يقال لها أسماء:
وكان زيد بن عمرو بن نفيل قد تأله في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام، وقد مات قبل المبعث بخمس سنين، ومن شعره:
وهبل هذا كان أعظم أصنام قريش في جوف الكعبة وحولها، وكان فيما رواه ابن الكلبي من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من الذهب، وهو الذي يقول له أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد: اعْلُ هُبَل! أي علا دينك، ويظن بعض علماء المشرقيات أنَّ هُبل هذا هو «أبولون» الذي عبده اليونان. وكان لهم إساف ونائلة. يقول أبو طالب وهو يحلف بهما حين تحالفت قريش على بني هاشم:
وكان لهم أيضًا مناف، ومن أسمائهم عبد مناف، قال بلعاء بن قيس:
وقد ذكرنا «ذا الخلصة» في عرض الكلام على الاستقسام بالأزلام وروينا حديث امرئ القيس وغضبه على هذا الإله. وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكانت بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليالٍ من مكة، وذكر ابن الكلبي في صحيفة ٣٥ من كتاب الأصنام طبع مصر حديث امرئ القيس، قال إنَّ بعضهم استشاره فأشاره بما لا يرضيه فهجاه بقوله:
قال ابن الكلبي: «ومن الناس من ينحلها امرأ القيس.» وتحقيق هذا الخبر في الأصنام ص٤٧، وقد رواه الألوسي في بلوغ الأرب على أنه لامرئ القيس.
وكانت لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان — وكلها قبائل يمنية من التي قيل إنها رحلت من الجنوب إلى الشمال في سيل العرم — في مشارف الشام صنم يقال له «الأقيصر»، وله يقول زهير:
وله يقول الشنفرى الأزدي حليف فهم:
وقال خزاعيُّ بن عبد نهم، سادن «نهم» مزينة؛ أي خادم هذا الصنم:
وكانت للعرب حجارة غبرٌ منصوبة يطوفون بها ويعترون عندها يسمونها الأنصاب ويسمون الطواف بها الدوار، وفي ذلك يقول عمرو بن جابر الحارثي:
وكان «اليعبوب» صنمًا لجديلة طيء، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد فتبدلوا اليعبوب بعده. قال عبيد:
وكان لعنزة صنم يقال له سعير، فخرج ابن أبي حلاس الكلبي على ناقته فمرت به، وقد عترت عنده عترة — أي ذبحت تلك القبيلة ذبائح قربانًا لهذا الصنم — فنفرت ناقة ابن أبي حلاس فقال:
وكانوا يحلفون بالدماء الجارية على وجه الأرض حول الصنم «عوض»، قال رشيد بن رميض:
وكان من العرب دهريون قال قائلهم:
وكان منهم من عبد الكواكب وهم طائفة من تميم عبدوا «الدبران» من النجوم، ومن زعمهم العيوق عاق الدبران لما ساق إلى الثريا مهرًا، فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها؛ ولذلك سموها القلاص، وقال شاعر تميم:
وكان جمع من عقلاء العرب وحكمائها غير موافقين لعمرو بن لحي فيما ابتدع من الدين ولا متبعين ما شرع من عبادة الأصنام، وتعبدوا ما ترضيه عقولهم، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل الذي استشهدنا بشعره في هبل إذ يقول:
وروى الواقدي عن سعيد بن زيد هذا قال: توفي أبي وقريش تبني الكعبة، وكان ذلك قبل المبعث بخمس سنين. (ص٢٧٢ بلوغ الأرب).
ومنهم — أي من جمع العقلاء الذين لم يوافقوا لعمرو بن لحي في عبادة الأصنام — أمية بن أبي الصلت وهو عبد الله بن أبي ربيعة القائل:
ومنهم سويد بن عامر المصطلقي القائل:
ومنهم أبو قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار، ترهَّب ولبس المسوح، وفارق الأوثان، وهو القائل في الجاهلية:
هذا ما أردنا الاستشهاد به من الشعر الجاهلي على الحياة الدينية بالتخصيص، فأفضنا في هذه الناحية من البحث لنظهر مغالطة جسيمة في كتاب الشعر الجاهلي، حيث يقول المؤلف ص٧٨: «فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة … من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية، وإلا فأين نجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟! أوليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؟!» ا.ﻫ. كلام المؤلف.
فنقول ردًّا على هذا إننا أوردنا في هذه العجالة أكثر من خمسين بيتًا من الشعر الجاهلي تدل على الشعور الديني والعاطفة الدينية وتمثل آلهة الجاهليين وعبادتهم، ونعجب من أنَّ المؤلف حصر الشعر الجاهلي كله في امرئ القيس وطرفة وعنترة، ثم ادعى أنَّ الشعر الجاهلي كله عجز عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين. ومن المعلوم أنَّ شعر امرئ القيس وطرفة وعنترة الذي اعترف به المؤلف لا يبلغ جزءًا من ألف من الشعر الجاهلي، فلو خلا من الشعر الديني فليس دليلًا على أنَّ الشعر كله لا يمثل الحياة الدينية، وليس حتمًا أنَّ كل شاعر في الزمن القديم أو الحديث ينظم شعرًا دينيًّا. وكذلك من العجيب أنَّ المؤلف يدعي أنَّ الشعر الجاهلي كله عجز عن تصوير الحياة الدينية، وهو لم يتقدم إلينا بدليل، ولم يستقرئ دواوين الشعر الجاهلي. على أنَّ حقائق كثيرة تنقض قوله، وفوق ما اقتبسنا من الشعر الصحيح الجاهلي الدال على الحياة الدينية في الجاهلية، سنثبت للقارئ أنَّ شعر طرفة وامرئ القيس وعنترة ليس خاليًا كما ادعى المؤلف من العاطفة الدينية القوية. قال طرفة في معلقته الكبرى التي استشهد المؤلف بتسعة أبيات منها نقلًا عن ص٩٠ وما بعدها من الجمهرة:
وهذا امرؤ القيس قد ذكره المؤلف، وادعى خلو شعره من صورة الحياة الدينية، ونحن نفند دعواه بشعر امرئ القيس إذ يقول:
وقال:
وقال:
قال الأب لويس شيخو اليسوعي تعليقًا على هذا البيت ص٥٧ من كتاب شعراء النصرانية ج١ وهو الجزء الخاص بشعراء الجاهلية: «هذا البيت من أصدق أبيات العرب.» وقال أيضًا من قصيدة في وصف ناقته:
وهذا عنترة الذي ادعى المؤلف أن ليس في شعره ما يدل على العاطفة الدينية قال:
وقال في قتل قرواش:
وقال:
وقال في رثاء تماضر:
وقال:
وقال:
وقال في يوم المصانع:
وقال مقسمًا في رثاء زهير بن جذيمة العبسي:
فماذا يقول مؤلف الشعر الجاهلي وأستاذ آداب اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية بعد هذا كله؟ إنَّ الذي يقرأ هذه المناقضات يحسب أنَّ المؤلف أضاع خيوط منهج ديكارت، والصحيح أنه لم يفقدها، وإنما تغبت عليه بين الأوراق من شدة دهشه؛ لأنه كان حائرًا مبهوتًا، فلم يتهيأ له أن يعيد النظر في شعر هؤلاء الفحول قبل أن يصدر حكمه الجازم، ولكن ماذا عساها تنفع الأدلة في معالجة العناد؟